حقا انه امر عجيب! يبعث على طرح عشرات الأسئلة وعلامات الاستفهام، خصوصا ونحن ننظر الى ما الت اليه الاحداث في العالم العربي منذ ان قام "البوعزيزي" بحرق نفسه أمام الملأ في ديسمبر/كانون الأول من عام 2010، احتجاجا على جبروت السلطات التونسية وهي تصادر عربته الصغيرة ومصدر رزقه الوحيد، الى ان قام تنظيم "داعش" المتطرف بحرق الطيار الأردني "معاذ الكساسبة"، (بعد ان وقع اسيرا بأيديهم في نهاية ديسمبر من العام الماضي)، وبث شريط "الحرق" على مواقع الانترنت قبل أيام قليلة.
بين هذه النارين، مرت أكثر من أربع سنوات بقليل، انحدر فيها العالم العربي نحو مستنقع التطرف وضياع حقوق الانسان والحريات العامة، وجاء هذا الانحدار في خضم مواجه الشعوب العربية لإمبراطوريات الاستبداد والأنظمة الفاسدة التي حاول تغييرها او قلعها من جذورها، الا ان العكس هو ما حدث!
ثورات مسروقة
لا يمكن وصف اغلب ثورات الربيع العربي، التي جاءت بشرارة "البوعزيزي" في تونس، وانطلقت تبعا منذ عام 2011، الا بوصف "الثورات المسروقة"، وهو وصف تتحقق صدقيته بإجراء مسح شامل وسريع على (مصر، ليبيا، اليمن، البحرين، سوريا) ناهيك عن (تونس، السعودية، الأردن، الجزائر، المغرب، جيبوتي، السودان)، فالأوضاع، ان لم تزدد سوءً فإنها على الأقل لم تتغير نحو الأفضل، ومع ان جميع هذه الدول خرج فيها متظاهرون طالبوا بإصلاح الأنظمة السياسية الفاسدة (التي تتوزع بين الملكية المطلقة او الجمهوريات التي تتيح لحكامها البقاء في الحكم لعشرات السنين)، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ورفع المستوى الاقتصادي الضعيف، وتحقيق كرامة الانسان واطلاق الحريات العامة، الا ان الكثير من هذه الاحتجاجات فشلت في الصمود امام بطش الأنظمة المستبدة وإغراءاتها المالية، إضافة الى تلون "الحرس القديم" في بعض هذه الدول بلون الديمقراطية وبالتالي الالتفاف والقضاء على أي مكسب يمكن ان يسجل لصالح ربيع الشعوب العربية.
ضياع حقوق الانسان
لعل أبرز ما سجلته ردود الأفعال الرسمية للأنظمة المستبدة تجاه الحراك العربي هو الافراط في انتهاكات حقوق الانسان، التي تملك في الاصل سجلا سيئا وحافلا بالجرائم والانتهاكات الخطيرة على جميع الأصعدة، سيما وإنها فوجئت بحجم الاحتجاجات الشعبية العارمة التي نادت بإسقاط الاستبداد والاستعباد الطويل لشعوبها المنتهكة، ففي البحرين، تعاملت السلطات مع الاحتجاجات السلمية بالوحشية ذاتها التي تعاملت معها الأنظمة الأخرى (في مصر وليبيا والسعودية واليمن...الخ)، بل واستعان حاكم البحرين بقوات اجنبية لقتل المئات من أبناء البحرين المطالبين بالإصلاحات السياسية والاجتماعية، وبعد مرور اربع سنوات ما زال الالاف من المعتقلين في السجون وتحت وطأة التعذيب، إضافة الى عشرات المحكومين بالإعدام، ومن تم سحب الجنسية منهم، لأسباب سياسية، يعانون الحرمان ويعيش اغلبهم في بلدان المنفى، ويكفي في هذا المجال (حقوق الانسان)، ما اشارت اليه منظمة "هيومن رايتس وتش" العالمية، والتي تجري مسحا شاملا لحقوق الانسان في اكثر من 90 بلدا حول العالم.
حيث اكدت ان أوضاع حقوق الانسان والحريات العامة في الوطن العربي ما زالت مزرية، وان انتهاكات خطيرة تجري في اغلب بلدانها، خصوصا في البحرين وما تجري فيه من ملاحقات واعتقالات مستمرة لنشطاء ومتظاهرين، فضلا عن تجريد المعارضين من جنسياتهم الاصلية، وعدم المضي في مشروع المصالحة الوطنية، اما في السعودية، فالحال لا يختلف كثيرا عن البحرين، مع إضافة التمييز المتواصل بحق النساء والأقليات الدينية، كما ادانت المنظمة سوء الأوضاع الإنسانية والانتهاكات الحكومية المتواصلة في قطر والامارات والأردن ومصر والمغرب وغيرها.
الإرهاب والتطرف
انتهى بنا المطاف، بعد ان حرق "البوعزيزي" نفسه (او احرقته السلطات التونسية باستبدادها واهانتها السابقة له)، الى حرق من نوع اخر، حرق تمارسه التنظيمات المتطرفة، كان اول ضحاياه، وربما لن يكون اخرهم، "الكساسبة"، الطيار الأردني الشاب الذي شارك بضرب معاقل تنظيم داعش في سوريا مع قوات "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، بعد ان استفحل التطرف والمنظمات الإرهابية في عموم شرق اسيا وبالأخص في العالم العربي، نتيجة للفوضى السياسية والأمنية التي حلت بعد الربيع العربي، وهي فوضى لا يمكن ان تتركها هذه التنظيمات من دون قطف ثمارها الإرهابية، وهو ما حدث بالفعل، ففي ليبيا هناك العشرات من الفصائل والميليشيا المتطرفة، اما في سوريا فالربيع العربي تحول الى حرب أهلية راح ضحيتها اكثر من 200 الف، إضافة الى 5 مليون مهاجر او مهجر، فيما تتنازع التنظيمات المتطرفة والنظام والمسلحين المدعومين من الغرب وبعض الأنظمة العربية الأرض السورية الى ثلاث أجزاء، اما العراق ففي ظل أيام قليلة فقد اكثر من (55) الف كيلومتر من أراضيه لصالح تنظيم داعش المتعطش للدماء والسلطة، فيما تحاول مصر واليمن والمغرب وتونس والجزائر وغيرها من الدول العربية، السيطرة على امنها المهدد من التنظيمات المتطرفة التي انشطر اغلبها من تنظيم القاعدة وان اختلفت التسميات.
وكان للحكومات والأنظمة المستبدة الأثر الكبير في اشعال النار الأولى "البوعزيزي"، مثلما كان لهم الأثر الكبير في التسبب بالنار الثانية "للكساسبة"، ربما لسببين رئيسين:
1. الإصرار على التشبث بالحكم ومحاربة فكرة التغيير او الإصلاح السياسي، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، واهانة حقوق الانسان وانتهاك الحريات العامة، بل والالتفاف على الثورات الشعبية وسرقتها، وهو ما ولد نقطة الانفجار بعد الكبت والحرمان الطويل الذي عاشته اغلب الشعوب العربية الباحثة عن الحرية والعيش الكريم.
2. دعم الأنظمة العربية المستبدة للفكر المتطرف والجماعات المسلحة ذات الطابع الإسلامي المتطرف، منذ البداية، لمجابهة اخطار ودول كانت تهدد أنظمتها، حتى حول هذا الدعم، التنظيمات والحركات الإسلامية المتشددة، الى غول ارتد بالسلب حتى على داعميه.
لكن ضحيته الأولى (كالعادة) كانت الشعوب العربية والانسان العادي الذي خرج الى الشارع في يوم من الأيام ليبحث عن لقمة عيشه او كرامته المفقودة، ولا اعتقد ان هناك نهاية لهذا المسلسل الاستبدادي، مع اصرار الأنظمة والحكومات العربية على التعامل مع شعوبها بنفس الطريقة التقليدية (المال والقوة)، من دون ان يكون هناك أي شعور بالمسؤولية تجاه حقوقهم المفقودة في السابق وحقوقهم التي فقدوها في الوقت الحاضر.
اضف تعليق