يخطئ من يظن أن حلب مجرد معركة أخرى يكسبها الجيش السوري وحلفاؤه، فنحن نتحدث عن ثاني أهم وأكبر مدينة سوريا، فيها وحولها، انعقدت رهانات وبُنيت آمال عراض، حتى أنها صارت "رمزاً" يكاد الأزمة السورية برمتها... بهذا المعنى يحق للنظام السوري الاحتفاء والاحتفال بـ "الاختراق" المتسارع على جبهات القتال في الشطر الشرقي من المدينة.
وإذا أمكن للنظام استكمال معركة شرق حلب، باسترجاع "الباب"، فمعنى ذلك أنه سيكون قد نجح في تسجيل هدف واحد على الأقل، في كل من المرمى الكردي والتركي... سيكون قد تحكم بأحلام الأكراد في بناء كيان ذات متصل جغرافياً وممتداً من كوباني إلى عفرين... وسيكون الأسد قد حد من طموحات الزعيم التركي الجامح رجب طيب أردوغان، الذي عاد بالأمس للحديث عن إسقاط النظام السوري بعد صمت طويل، ولأول مرة بوصفه هدفاً لعملية "درع الفرات"، أردوغان الذي يبرهن يوماً إثر آخر، تفوقه في إجادة النكث بالعهود والتراجع عن الالتزامات وحجب النوايا الحقيقة الكامنة في ثنايا سياساته وإجراءاته الميدانية على الأرض السورية.
بيد أنه يخطئ –في المقابل– من يعتقد أن "الحسم" في حلب يمكن أن نهاية مطاف الأزمة السورية، أو أن يجد فيه فرصة للتخلي عن (أو الانسحاب من) العملية السياسية الرامية إنجاز حل سياسي شامل لهذه الأزمة، يشتمل من ضمن ما يشتمل على إعادة تركيب النظام السياسي السوري، ومن على قواعد المشاركة والاعتراف بحقوق الأفراد والمكونات، والتحول من نظام رئاسي مطلق إلى مزيج من النظام البرلماني/الرئاسي.
بعد حلب، والأرجح أن معركتها قد تحسم قبل نهاية العام، وربما قبل حسم معركة الموصل، سيتعين على النظام وقواته وحلفائه، خوض معارك ضارية في إدلب التي تتحول إلى ملاذ شبه آمن، لكل المسلحين الذي غادروا جبهات القتال في حمص والغوطتين الشرقية والغربية وغيرهما، وهي "نواة" الإمارة الإسلامية بقيادة النصرة، وقد تصبح ملاذاّ لعناصر "داعش" الذين تسد في وجوههم السبل يومياً، في سوريا كما في العراق.
وبعد إدلب وأرياق حمص وأطراف العاصمة، ثمة جبهات ساكنة تنتظر التسخين جنوباً، من القنيطرة ودرعا وحتى التنف والبوكمال.... وثمة مناطق شاسعة من سوريا ما زالت تحت سيطرة "داعش"، بالذات في الشمال الشرقي... وثمة مساحات واسعة تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، التي وإن كانت على علاقة "تساكن" مع قوات النظام، إلا أن هذه العلاقة معرضة للانهيار التام والانقلاب إلى نقيضها، ما أن ينزاح خطر التنظيم الإرهابي الأشد وحشية... وفوق هذا وذاك، ثمة مئات الكيلومترات المربعة، التي تسيطر عليها قوات "درع الفرات" وبدعم مباشر من القوات التركية التي تنتشر على أرض سوريا بالضد من إرادة الدولة والنظام
ثم، أن أطرافاً دولية وإقليمية، لن تكون أبداً في وارد التسليم ورفع الرايات البيضاء، والأرجح أنها ستبذل كل جهد ممكن، من أجل منع "ترجمة" الانتصارات الميدانية التي حققها الجيش السوري وتحويلها إلى مكاسب سياسية يسجلها النظام في دمشق... مثل هذا الخيار، لن يكون ممكناً، حتى بمجيء ترامب وإدارته "الانعزالية" المتشددة، والأرجح أن موسكو لن تعارض هذا التوجه، حتى وإن عارضه حلفاؤها في طهران ودمشق وضاحية بيروت الجنوبية.
سيظل الحل السياسي هو السبيل الوحيد الممكن لتسوية الأزمة السياسية... صحيح أن النظام سيكون في وضع أفضل لتحسين شروطه وتعظيم مكاسبه على موائد التفاوض حال التئامها، بفعل النجاحات التي حققها في الميدان، بيد أن الصحيح كذلك، أن سوريا ما بعد الازمة، لن تحكم بذات الوسائل والأساليب التي حكمت فيها ما قبل اندلاع الأزمة، تلك الوسائل التي تتحمل المسؤولية الأكبر في نشؤ الأزمة ذاتها، ومن ثم، تفاقمها وانفجارها فيما بعد.
روسيا التي جعل تدخلها في سوريا تحقيق مثل هذه الانتصارات الميدانية أمراً ممكناً، لن تقبل بحال من الأحوال أن تستمر في دفع أثمان تأييدها لنظام الأسد، والمؤكد أنها في عجلة من أمرها للخروج من شرنقة العزلة و"الشيطنة" والعقوبات الاقتصادية والمالية... كما أن روسيا لن تقبل أن تتحمل وحدها، وزر تسوية الأوضاع في سوريا ما بعد الأزمة، فتلكم مهمة تنطوي على مخاطر امنية (حرب عصابات وعمليات إرهابية) واقتصادية (إعادة الإعمار) واجتماعية (صحة وخدمات وتعليم وغير ذلك)، هذه الملفات أكبر وأثقل من أن تنهض أكتاف "القيصر" مهما بدت عريضة ومفتولة.
ولو كنت في موقع "الناصح" للنظام، لعرضت عليه إطلاق مبادرات مصالحة تاريخية شاملة، ليست من نوع "المصالحات المحلية" التي يجري الاحتفاء بها بين الحين والآخر، وفي هذه المنطقة أو تلك، ولكنها من النوع الذي يطال الدستور وشكل النظام السياسي وتوزيع السلطة والثروة والاعتراف بمختلف الكيانات والمكونات، والتأسيس لسوريا الجديدة، بعد أن حُسمت معركة "سوريا المفيدة" أو تكاد.
من دون هذه المبادرات والمصالحات، لن تعرف جروح وشقوق المجتمع السوري شفاءً، وستظل التربة مخصبة لإنتاج طبعات جديدة من "داعش" و"النصرة"، وستظل حالة عدم الاستقرار مرشحة للتوالد بأشكال جديدة، وسيبقى الجرح السوري نازفاً حتى إشعار آخر.
اضف تعليق