مابين خطاب البغدادي الاول في المسجد النوري الكبير في الموصل قبل عامين، الذي اعلن فيه قيام دولة الخلافة، وبين خطابه الاخير المسجل صوتا بلا صورة، يعكس الظرف المعقد الذي يواجه تنظيم داعش في الموصل، حيث تتقدم القوات المشتركة العراقية بغطاء من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة نحو مركز المدينة، بمقابل تراجع واضح لعناصر التنظيم وانحسار قدراته لمواجهة خصومه.

ففحوى خطابه الاخير يجسد حالة الهزيمة المؤكدة على ارض معركة الموصل، فأهم ماتحدث فيه البغدادي يتركز على تعبئة وتحشيد عناصر التنظيم الى الاستنفار ودعا الانغماسيين والانتحاريين بأن تكون المعركة معركتهم ضد اعدائهم كما هاجم الحكومات العربية والاسلامية وبالتحديد السعودية التي دعا الى تنفيذ عمليات ضد الامراء، وتركيا التي وصفها بالمرتدة وهذا مؤشر للاعتراف بالتعاون الوثيق سابق بين الطرفين، وهنالك من فسر ان هجوم البغدادي على تركيا هو هدية مجانية لها لتبرير تدخلها بالعراق وسوريا لانها ستوظف التهديد بشكل جدي لصالح حماية امنها القومي ومواجهة داعش، كما هاجم اهل السنة وقادتهم والاخوان المسلمين ووصفهم بالخونة والزنادقة وهذا تطور لافت، ان داعش يصارع انفاسه الاخيرة بعد انقلاب حلفاءه ولأول مرة يتحدث عن انقاذ الخلافة وليس اهل السنة.

كما تطرق للشيعة كذلك واستهدافهم واستمرار الحرب ضدهم، انه خطاب تعبوي شمل الجميع عدا الاكراد الذين لم يتطرق اليهم ودورهم في الموصل وسوريا وهذا مانستغربه وهي تقاتلهم، نقطة أخرى مهمة من الناحية السياسية والعسكرية تؤشر حالة انهيار دولة الخلافة وان ايامها باتت معدودة نشخصها في خطاب البغدادي، هو تسليطه الاضواء على خيارات التنظيم بعد خسارة الموصل والرقة، حيث عرج البغدادي في خطابه ومخاطبته لأهل الموصل تحديدا ووصفهم، بالمهاجرين والانصار، وحديثه عن الهجرة الى ولايات الدولة المباركة في ليبيا ومصر وخراسان (أفغانستان) والصومال واليمن.

ويعكس هذا التحول ويمهد له ضمن سياق الاستعداد للتعايش مع واقع انهيار الدولة الاسلامية بصيغة الخلافة الاسلامية والتحول الى تنظيم سري يشبه تنظيم القاعدة وهذا ما اردت ان اصل اليه في مضمون المقال.

ان انهيار داعش في الموصل لا يعني انتهاء التنظيم فمخاوف وهواجس المستقبل وارتدادات داعش كتنظيم سري يعمل وفق الية تنفيذ العمليات الارهابية عبر احياء خلايا نائمة وموجة من التفجيرات والمحاولة من جديد لتأسيس كيان ارهابي فكري او ظهور تنظيمات اخرى مشابهة هو من الهواجس السيئة والخطيرة، نعم قد تتفكك دولة الخلافة الإسلامية لكن لمصلحة بقاء التنظيم، وهنا مكمن الخطورة الحقيقية.

في عام 2014 كان هنالك قلق كبير شعر به الناس في العالم اسره عند ظهور داعش وكان الناس يتساءلون في كافة أرجاء العالم: من أين أتى تنظيم داعش، وأين سيقف؟ ولفترة من الوقت، تحولت الأحاديث المفعمة بالقلق، ومشاعر الخوف من الحدود المتلاشية، والخرائط الجديدة، لتصبح هي حديث الساعة في كل مكان.

وفي الوقت الراهن الذي يضعف فيه داعش، يسود إحساس بالارتياح لا يمكن أن تخطئه العين، وذلك بعد أن تبين أن المنظمة الإرهابية، لم تتحول إلى ذلك الوحش الأسطوري الكاسر الذي كان الكثيرون يخشونه، كما أن المخاوف من قدرة التنظيم على التغرير بالمزيد من الشبان العرب للانضمام إليه بشكل جماعي، لم تتجسد على أرض الواقع بعد الان نتيجة للممارسات الوحشية ولهزيمته النكراء التي لم تعد حلما موعودا للشباب المتعطش لطروحات الدولة الاسلامية.

لكم مع ذلك يمكن ان نجد أن هناك قدراً ضئيلاً من التفاؤل، وأنه ليست ثمة مشاعر نشوة بالتأكيد. فالجميع تقريباً يعرفون أن ما يحصل الان هو إضعاف داعش وليس انهاءه وهذا قد يكون مصحوباً بإعادة ظهور وعودة بطرق أكثر فعالية وقوة من حيث استدعاء مقدمات ظهوره القديمة، ومنها الانقسام السني- الشيعي، الذي كثر الحديث عنه، ويجري تناوله في أحيان كثيرة بشكل تبسيطي، يؤدي للتعمية على ديناميكيات معقدة إثنية، وعشائرية، وإقليمية، وسياسية حفزها الاحتلال الأميركي للعراق، منها انهيار الدولة ومؤسساتها والفشل السياسي والفساد هناك.

كما ان التوترات الإقليمية والمشاعر الطائفية اليوم، أكبر كثيراً مما كانت عليه سابقا خاصة مع ظهور داعش. فإيران والسعودية وتركيا وقطر تبنت الدخول بصراعات وخطابات ومنافسات تزيد من الحالة الطائفية على الدوام في المنطقة، فكل طرف يحشد اجندته ويعبأ من اجل الحصول على النفوذ الكافي للتغلب على الطرف المقابل ضمن السباق المذهبي والطائفي وذلك في إطار محاولات هذه الدول لبسط هيمنتها الإقليمية.

وهذا التوظيف للطائفية له تأثير تراكمي يتسرب إلى المجتمعات، ويغذي التصعيد، ويفاقم المخاوف والصراعات والتنافس بين المكونات الطائفية والعنصرية الشيعية والسنية والكردية وفي العراق فان منسوب الصراع الطائفي مرشح للتفاقم بشكل كبير حيث تتنافس الاطراف المدعومة من قبل هذه الدول على النفوذ والسلطة، مع الحكومة من داخلها ومن خارجها.

اضافة الى هذا وبنبرة تشاؤمية يمكن القول: بينما تتواصل المعركة لتحرير الموصل ويتم إعداد العدة لمعركة الرقة، معقل داعش الرئيس في سوريا، يواصل السلفيون الجهاديون نشر فهمهم الأعوج والشاذ للدين الاسلامي. ولهذا انا ارى أنه حتى إذا تم القضاء على داعش في سوريا والعراق، فإن عدداً من التنظيمات السلفية الجهادية تنتظر لسد الفراغ الذي سيخلفونه، وفي سوريا مصداق لذلك فجبهة النصرة وجيش الفتح ومئات التنظيمات السلفية المدعومة من امريكا والدول الاقليمية والعربية تؤكد ذلك، خاصة ان السلفيين والتكفيريين بارعون في تسويف تطلعاتهم وايجاده في التراث الإسلامي، فهم يؤوّلون ويصوغون الدين والتراث بطرق فريدة وخاصة جداً، تتماشى وما يسعون من وراءه وهو: إعادة تشكيل ملامح العقيدة الدينية الإسلامية بشكل كلي (اصولي متشدد) على المدى الطويل.

لقد باتت هواجس ومخاوف المستقبل بعد نهاية داعش واضحة الآن لإعطاء رؤية لصراعات عالية الشدة، وهذه الصراعات اذا لم تحتوى او تتراجع فستكون هنالك اطراف تؤمن بمشاهد مشابهة للمشاهد التي جعلتهم يؤمنون او يراهنون بما وعدهم به تنظيم داعش، ولكن الشيء المؤكد أنها ستكون مشاهد سيئة جدا إلى درجة تكفي لإتاحة الفرصة للتجسيد التالي لـداعش كي يتربص له في الخلفية، اذ من المؤكد أن تنظيمات مماثلة قد تحاكيه في المستقبل. فعدم اقتلاع الشجرة من جذورها، ستنبت مرة اخرى في مكانها او في مكان آخر.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق