تحت وقع أصوات القنابل في عدد من الدول ومنها العراق وسوريا واليمن، وخلف أصوات المدافع والهاونات، هناك شيء يختفي لايثير الشهية للحديث عنه لدى المتصارعين، لكننا نسمع به عند الجنوح الى استراحة للمفاوضات بينهم برعاية احد اللاعبين الكبار.
عندها تقدم الكثير من المشاريع التي تتحدث عن نظام ديمقراطي يحفظ للجميع حقوقهم، والتي هي حقوق الانسان، ومنها احترام التعددية الثقافية في تلك البلدان.
العراق يبدو للوهلة الأولى انه مر من خانق الانظام الاستبدادي وهو يعيش تجربته الديمقراطية المحفوفة بالمخاطر، ليس اقلها الإرهاب او الفساد الذي رافق عملية الانتقال.
الحكومة العراقية على اعتاب الموصل، وهي مدينة تشتهر بالتنوع الكبير للقوميات والأديان والمذاهب، والدستور العراقي كان قد عبر مرحلة الاعتراف النظري بهذا التنوع، الا انه يصطدم بالتطبيق العملي له ولاحترامه وقبوله، الذي هو قبول يصب في الصميم من فلسفة الحكم الديمقراطي وتطبيقاته.
ولايقتصر احترام التعددية الثقافية على البلدان التي تشهد انتقالا الى الديمقراطية او تعيش مخاض الانتقال، بل حتى في الأنظمة الديمقراطية العريقة، مازالت مسألة التعددية الثقافية مطروحة، الا انه لم يعد لفكرة الأقلية المعنى نفسه تبعا للسياق القومي.. ففي أمريكا على سبيل المثال، ان تبني المثال الاكثري من خلال تبني الأسلوب الأمريكي في الحياة، يجب نظريا ان يؤدي الى انصهار مختلف الأقليات. ومع ذلك فاننا نشهد في كندا والولايات المتحدة توسع مقولة الأقليات: ذلك ان العديد من المجموعات مازالت تعلن عن وجود اختلافات طبيعية وثقافية ، معتبرة ذلك ضمن مشكلة الأقليات طالبة الاعتراف بها ومناضلة من اجل الدفاع عن حقوقها، وفي هذا السياق انبثقت عقيدة التعددية الثقافية، وعلى اثر ذلك ظهرت سياسات معالجة الاختلافات الثقافية.
خلافا لذلك طالما تجاهل النموذج الجمهوري الفرنسي مطالبة الأقليات بهويتهم، اذ لايعترف هذا النموذج الا بالأفراد المواطنين، وفي الدول التي تقول بالعلمنة، أي تلك التي تطبق الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني، نجد ان مسالة الأقليات الدينية ووضوحها لم تختف كليا عن مساحة الراي العام..
يعد موضوع التعددية الثقافية، من الموضوعات المثارة، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، على المستويات الفكرية والفلسفية والاجتماعية، فضلا عن المستوى السياسي.
ففي القرن التاسع عشر الميلادي، غلبت رؤية الجماعات الثقافية، إلى القول إن الأقليات التي تمثل جماعات ثقافية صغيرة، غالبا تتخلى عن ثقافتها الموروثة، وتسعى للانضمام إلى ثقافة الأمم الأقوى، وهذا الرأي تبناه ودافع عنه المفكر جون استوارت مل (1806-1873). بينما المتابع الآن يرى أن فلاسفة السياسة يدافعون عن الأقليات فى جميع أنحاء العالم، ويطالبون بما يعرف بالتعددية الثقافية.. وبالتالي يقتربون من مفاهيم أعم وأشمل، مثل فكرة العدالة والمساواة، ومن ثم مفاهيم الديمقراطية. (أوديسا التعددية الثقافية) (ويل كيمليكا).
وبحسب احدث دراسة فأنه من بين 193 دولة تتمتع 12 منها فقط بالتجانس الثقافي، مع وجود 575 جماعة اثنية بحسب عالمي السياسة ( جونار نيلسون و رالف جونز) تم تحديدها او تعريفها، وفق ما اوردته الدكتورة كردستان سالم سعيد – اثر التعددية الاثنية على الوحدة الوطنية في العراق).
تعرف التعددية بانها (تعبير حقيقي وامين عن وضعية الانسان الاقتصادية والاجتماعية وتعبر عن التنوع والثراء في جوانب الحياة وفي الادوار التي يقوم بها الناس، وهي ليست شكلا سياسيا او تنظيميا قانونيا).
د. مروان دويري / مجلة عدالة الإلكترونية، العدد السابع، التعددية الثقافية/القومية: الداخلي (العربي) والخارجي (الدستوري)
ويشير د. مروان (تعطي التعدديةُ شرعيةً للمجموعات (السياسية والثقافية والعرقية والقبلية والطائفية) وحقها بالبقاء وممارسة دورها كمجموعة في النظام السياسي للدولة. إنها “اتفاقية تعامل” بين مجموعات وليست بين أفراد مستقلين وغير منتمين).
و(التعددية أداة مصالحة وتعايش: الديمقراطية الفرديةُ أداة غلبة (تغليب الأكثرية على الأقلية) بينما التعددية أداة مصالحة وتعايش وفسح المجال للآخر لينسجم في فسيفساء المجتمع الواحد ويسهم في إضفاء لون وطعم خاصين. إن فرض الديمقراطية الليبرالية في مجتمع جماعي من شأنه جعل مجموعات الأقلية المبعدة – التي تمتلك خصوصية ثقافية مختلفة – أن تلجأ للسلاح والعنف أو جعل مجموعة السلطة المهددة أن تتراجع عن الديمقراطية (كما حصل في الجزائر مثلا).
مفهوم التعددية الثقافية هو ذو معان وتعريفات عدة، وذلك بحكم تنوع مجالات التعددية الثقافية، فضلاً على تعدد زوايا النظر اليها، ويمكن توزيع تلك التعريفات على ثلاثة زوايا رئيسية:
فالاتجاه الاول – يري ان التعددية الثقافية هي ايديولوجيات. حيث لا تقتضي العدالة الاجتماعية ان يعامل الافراد على انهم متساوون سياسياً وحسب بل التعامل ايضاً مع معتقداتهم الثقافية على انها معتقدات صائبة بصورة متساوية. وان تتم مأسستها في المجال العام. اي ان الهدف من التعددية الثقافية يتمثل بتشكيل مجتمع تكون فيه كافة الجماعات العرقية والأثنية والقومية قادرة على ان تكون جزءاً لا ينقسم عن المجتمع بصورة متساوية دون الحاجة الى قيامها بالتخلي عن خصائصها وهوياتها المتمايزة مما يستوجب ذلك اقتسام النفوذ والسلطة وصناعة القرار على نحو متساو في المجتمع المتعدد الثقافات بدلاً من الاستئثار بالسلطة والقرار من لدن جماعة ثقافية بعينها.
الاتجاه الثانى – يري ان التعددية الثقافية هي تجربة حياة، اي هي تجربة العيش في مجتمع اقل انعزالية وضيقاً في الافق، واقل تجانساً، واكثر حيوية وتنوعاً. اي تجربة عيش في مجتمع تعددي ومتسامح فكرياً ومتنوع في تكويناته ثقافياً واجتماعياً بحيث يغدو الموقف من شتى الثقافات موقفاً متفتحاً وايجابياً او على الاقل يشتمل على احترام الناس وايلائهم التقدير والاهتمام من خلال الاعتراف بحقوقهم في اختيار طريقة الحياة التي يريدون عيشها.
الاتجاه الثالث – يشير الى ان التعددية الثقافية هي سياسة عامة، اي انها سياسة معينة بتلبية احتياجات الجماعات الثقافية على صعيد التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية.
ومما تقدم يمكن وضع الاطار المفاهيمي (للتعددية الثقافية) بانها نظرية وسياسة في التعامل مع التنوع الثقافي، بحيث تستند الى فكرة اقتسام السلطة ما بين الجماعات الثقافية في مجتمع ما على اساس المساواة والعدالة الثقافتين، والاعتراف رسمياً بكون تلك الجماعات متمايزة ثقافياً، ومن ثم تطبيق ذلك عملياً من خلال سياسات معينة تميل الى مساعدة تلك الجماعات والتعزيز من تمايز كل منها ثقافياً. علياء جاويش / العلاقة بين الدولة ومحيطها الإجتماعي الثقافي فى إطار”التعددية الثقافية” منظورات مقارنة / المركز الديمقراطي العربي
وفقا للمفكر “ أريند ليبارت “ كمثال عن المنظور الليبرالي ” فى كتابه “الديمقراطية في المجتمعات متعددة الأطياف” أقر بأن التمكين السياسي للدولة وممارسة ” الديمقراطية المستقرة ” أمر يصعب تحقيقه للغاية في هذا النوع من المجتمعات متعددة الأطياف مستندا لقول ” أرسطو” عن نظام الحكم المستقر فالدولة “تهدف للاستمرارية قدر الإمكان” ويتحقق ذلك عندما يتألف المجتمع من أفراد متساوين وأقران” ولكى يتحقق الاستقرار في المجتمعات الليبرالية لا بد من وجود تجانس اجتماعي وتوافق سياسي بين الأقسام الاجتماعية العميقة، ولا بد من وضع حد للخلافات السياسية. فهذه العوامل تساعد في عدم استقرار المجتمعات الليبرالية وانهيارها وحاول ” أريند ليبارت” معالجة تلك الاشكالية من خلال تقديمه نوعًا معينًا من الديمقراطية تسمي ب “الديمقراطية التشاركية” التى قد تواجه بعض الصعوبات الا انها ليست مستحيلة ويمكن التوصل من خلالها إلى الحكومة الديمقراطية المستقرة والحفاظ عليها في المجتمعات متعددة الأطياف.
قدم هابرماس حلولا لإشكالية التعددية الثقافية، وهي:
1- إخضاع التعدد الثقافي لمساطر ومعايير الإدارة التشاورية للدولة والمجتمع، وذلك من أجل خلق توازناتبين الثقافات.
2- 2- مطالبة التراث والتقليد بأن يراجع نفسه وأن ينفتح على الغير وأن يمارس النقد الذاتي ليجعل ثقافة الأغلبية خاضعة للثقافة السياسية حينما تتفاعل لا إكراها مع ثقافات الأقليات،
3- 3- الاعتراف المتبادل لكل المواطنين في ثقافة سياسية واحدة تكفل تلك المهام وهي الثقافة التشاورية الديموقراطية،4
4- - التعامل مع التعدد الثقافي بمنظار العقلنة التواصلية الذي يعول على تعددية الشبكات والقنوات التي تغذي المجال العام بفاعلية النقاش والحوار لقضايا الشأن العام. علي عبود المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة، من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل، هابرماس نموذجا، ص 326،327.
وبالتالى يمكن القول بأن ” التعددية الثقافية ” هى نظرية وسياسة فى التعامل مع التنوع الثقافي كما تستند الى فكرة اقتسام السلطة مابين الجماعات الثقافية فى مجتمع ما على اساس المساواة والعدالة الثقافيتين والاعتراف رسميا بكون تلك الجماعات متمايزة ثقافيا ومن ثم تطبيق ذلك عمليا من خلال سياسات معينة تميل الى مساعدة تلك الجماعات والتعزيز من تمايز كل منها ثقافيا.
اضف تعليق