كم كان دقيقاً تقييم أحد الاصدقاء لأداء المعارضة العراقية في الايام الاخيرة قبل موعد الحرب الاميركية على العراق للإطاحة بصدام، عندما قال بأن أكثر من تخشاه الاحزاب الاسلامية – تحديداً- من مستقبل ما بعد صدام، فقدانها القاعدة الجماهيرية، فهي عاشت عمرها فيما يسمى بـ "النضال السلبي" داخل العراق، وفي بلاد المهجر، تحوم حول نفسها وحول افكارها، وكان هذا الهاجس يقلقها اكثر من قيادة القوات الاميركية بشكل مباشر لمرحلة ما بعد صدام وتحويل العراق الى بلد محتل.
لماذا التمسّك بالنخبوية؟
هذا هو السؤال الذي يقفز دائماً أمام من يبحث عن تاريخ التنظيمات الاسلامية التي انطلقت في رؤاها وافكارها واهدافها من قواعد دينية يفترض انها تعبر عن الهوية والانتماء وترمي الى تطبيق الشريعة والاحكام الاسلامية، وبكلمة؛ إقامة نظام الحكم الاسلامي، بمعنى أن السبيل الى تحقيق هذه الاهداف تتخللها محطات اجتماعية تضيئ لأفراد المجتمع ومكوناته ما يحتاجه لتعزيز بنائه الثقافي والعقائدي من علوم وآداب وأخلاق وتاريخ وتراث.
مع كل هذه الاستحقاقات الحضارية في مسيرة عمل التنظيمات الاسلامية، لم تشهد الساحة ذاك التفاعل والتواصل المطلوبين، بقدر ما شهد تعميق الهوّة بين الجماهير وهذه التنظيمات، والغريب –حقاً- أن نشهد تعميق هذه الهوّة اكثر فأكثر مع مسلسل التطورات السياسية الكبيرة في المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص، حتى وصل بهم الحال في سنوات التجربة الديمقراطية، الى أن تكون الانتخابات، وهي أحد أبرز مظاهر التجربة الديمقراطية، تحتل المرتبة الاولى فيما يأس منه العراقيون واستشعروا بالخيبة والخذلان الكبيرين منه.
من بين التفسيرات العديدة لتمسك هذه التنظيمات بهذا النهج، ما يبينه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في "عالم الغد"، وهو يشير الى "الأخطاء الكبيرة خلال القرن العشرين التي كانت أحد اسباب الهزيمة الحضارية التي تعاني منها الامة اليوم"، ومن هذه الاخطاء الاعتقاد "بأن السبيل لنشر الاسلام في تربية مجاميع من الشباب وتوعيتهم وايصالهم الى مراتب عالية، سواء بالمجتمع او في الدولة، كأن تعمل على توظيفهم في المناصب الحكومية، او مساعدتهم على أن يكونوا خطباء او كتاب او غير ذلك، ثم يتركون الجماهير وشأنها".
وهنالك تفسير آخر يذهب الى أن "النخبوية" تعود بالفائدة على المجتمع نفسه، عندما يعود اليه الفرد الواعي والمثقف محملاً بالافكار والرؤى الجديدة نحو التغيير الشامل، وكتب الكثير من المنظرين في هذا المضمار يبينون فلسفة التحرك النخبوي، بأن المجتمع – آنذاك طبعاً- كان مثقلاً بالترسبات الجاهلية في عاداته وتقاليده ومتبنياته، فلابد من "إنسلاخ الفرد من هذا الواقع الفاسد الذي يعيشه المجتمع حتى يتمكن من العمل على تغييره".
ومن أجل ذلك شهدنا التركيز على الشريحة المتعلمة اكثر من غيرها، ولعل السبب القابل للفهم آنذاك، أن طالب الجامعة يكون أكثر استيعاباً للافكار والنظريات من اصحاب المهن الحرّة في السوق او ذلك العامل في مصنعه او الفلاح في مزرعته، مع الأخذ بعين الاعتبار نسبة الامية المرتفعة التي كان يعاني منها الشعب العراقي في سني الخمسينات والستينات.
مع ذلك؛ لا يكون هذا مبرراً للغياب عن المساحة الأوسع للجماهير، والاكتفاء بالشباب المتعلم والمتفاعل الذي يقرأ ويطالع ويفكر ثم ينشر ويوسع من نطاق الانتماء التنظيمي بين أقرانه في الجامعات والمراكز الاكاديمية وفي أحيان قليلة بين الثقاة من المجتمع، بل كان المفترض أن تكون القضية مرحلية وخاضعة لظروف معينة، ثم يكون التحوّل الى صناعة القاعدة الجماهيرية من تلك النخبة المثقفة المتخرجة من مدرسة الفكر والعقيدة، لا أن تنمو هذه النخبة في أرض بعيدة عن تراب المجتمع والجماهير، او تسبح في مياه أخرى خاصة بها.
وأجدني ملزماً بالتذكير للتاريخ والاجيال، بأن المنهج النخبوي للاحزاب السياسية- الاسلامية كان أحد ابرز أسباب تعرضها لضربات قاصمة من قبل النظام الصدامي في سني السبعينات تحديداً، رغم ما يسوقه الكثير، من المبررات والاسباب التي استدعت الكتمان والانعزال عن المجتمع، لان شدة القساوة والوحشية التي تعامل معها نظام حزب البعث مع الاسلاميين منذ الايام الاولى لاستيلائه على الحكم، كانت بحجم مواجهة ثورة جماهيرية شاملة تروم القيام بانقلاب شامل لتغيير النظام الحاكم، بينما نجد أن الاعداد الكبيرة من الذين عذبوا وماتوا في مطامير السجون، كانوا بمعظمهم ممن اتهموا بالانتماء الى هذه الاحزاب، او ربما دفعوا ثمن التزامهم الديني بمداومة الصلاة في المساجد او الاصرار على أداء الشعائر الحسينية او غير ذلك من مظاهر الولاء الديني، في وقت كان نظام حزب البعث يدعو بكل الوسائل الى الولاء لـ "الحزب الثورة".
خطوات لتصحيح المسار
رغم ما حصل من أخطاء لا تُغتفر، تبقى الاحزاب والتنظيمات من حيث المبدأ، حاجة ضرورية لتشكيل الدولة على قواعد صحيحة تساعد على التداول السلمي للحكم وصياغة أفضل الرؤى والافكار لحمل البلد الى مراقي التطور والتقدم، وهو ما يحصل في جميع الدول التي تنجح بنسب معينة في التجربة الديمقراطية، فلا يمكن الاستغناء عن التنظيم؛ من حيث المفهوم والممارسة، إنما المهم في هذه المرحلة الحساسة من تاريخنا، أن تتم إعادة النظر في المنهج وفتح صفحة جديدة فيه قبل الانفتاح والتقرّب الى الجماهير مع اقتراب كل موعد انتخابات، والتحقق مما اذا كان هذا الحزب او ذاك تتوفر فيه شروط النجاح في هذه التجربة، أم لا؟ قبل أن يعطي لنفسه الحق في المشاركة في الانتخابات والظهور مع المرشحين أمام الناخب.
وعن شروط النجاح يحدثنا سماحة الامام الشيرازي مرة آخرى، في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين"، وهو يؤكد على أهمية التنظيم الجماهير في حياة الحزب، لأن ببساطة "اذا كان التنظيم جماهيرياً، فانها ستغذيه، فينمو ويتوسع حتى يستوعب العالم الاسلامي، وتحدث عندئذ اليقظة الكاملة والحركة الشاملة..."، ويشير سماحته الى مقومين من مقومات التنظيم الجماهيري:
الاول: القيادة النموذجية النزيهة.
الثاني: احترام الجماهير.
ولا أجدني بحاجة الى مزيد من التوضيح لهاتين النقطتين، فقد بلغت الجماهير من الوعي والثقافة السياسية أنها باتت هي التي تؤشر على ابناء الشريحة السياسية والمسؤولين الحكوميين كيف يتعاملون مع الناس، ويوجهون اليهم الادانة بعدم التزامهم القيم الاخلاقية والانسانية، بل ويستفهمون التناقض بين الشعارات الدينية والتطبيق العملي.
إن الناس لا يحتاجون الماء والكهرباء والطرق المعبدة والاسعار الرخيصة في الاسواق فقط، إنما يتحدث الكثير من ابناء المجتمع عن الحاجة الى العمل والابداع والانتاج والاكتفاء الذاتي وتقدم الاقتصاد والتخلص من التبعية، كما هنالك احاديث عن الثغرات الخطيرة في القانون وما ينعكس على أداء الجهاز القضائي وايضاً على العلاقة بين المجتمع والدولة، مما يتطلب تعديل الدستور وتوجه نواب البرلمان بحرص وجدية نحو سن المزيد من القوانين،وحسب الاولوية لرفع العقبات عن عديد المشاريع وإنهاء العديد من الازمات التي يتخبط فيها الناس بسبب فوضى القوانين والاجراءات الروتينية القاتلة، وهذا يكون من خلال رعاية المشاريع التنموية والمؤسسات الثقافية والخدمية، لتكون الجماهير عبارة عن ساحة للتنافس الشريف والتسابق نحو الخيرات، كما يعلمنا القرآن الكريم، أيهم يكون أكثر وأسرع نفعاً للمجتمع والامة.
وإذن؛ فان على الحزب والتنظيم السياسي الذي يطمح لتحقيق النجاح في الانتخابات القادمة، وقبل التوجه الى لتسجيل اسمه في قائمة الاحزاب المشاركة في الانتخابات، أن يوسع من رؤيته لتشمل ابعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية، فضلاً عن البعد السياسي، ويخرج من شرنقته قبل ان يكون حتفه فيها.
اضف تعليق