لقد توقع المفكر النبيل والمثقف الصادق ناهض حتر في كلماته الأخيرة المصير الذي انتظره في زمن تعولم الاضطراب والجهل المقدس ولقد وقع بقرارة نفسه حدث الشهادة الذي يداهم كل ذات ثورية. وعلى الرغم من حملات المساندة والدعم التي قام بها المثقفون العرب لشخصه ومناداتهم بالكف عن مضايقته والعزوف عن تهديده حصل المكروه وأزهقت روحه وأريق دمه في وضح النهار وأمام الملأ.
لقد كشفت هذه الواقعة الأليمة المخاطر الجسيمة التي تهدد الكتاب والمثقفين وجنون السلطة وعبثية العالم وعار البشرية وفضيحتها الكبرى وعدم قدرة الإنسان بمفرده تامين وجوده في الفضاء القانوني للدولة الرخوة.
بهذا المعنى لا يملك المثقف العضوي من عتاد غير فكره الملتزم وضميره الساهر ولا يحوز إلا على هشاشته التكوينية ومحدوديته الأنطولوجية في معركته القاسية من أجل الدفاع عن بقائه ولا يستعمل في مواجهته لطبقات الميراث سوى أسلحة الكلام وفضائل الشجاعة والجرأة والإقدام والجسارة والحرية.
لقد آمن ناهض حتر بالأمة العربية قلبا وقالبا في كيانه ووجدانه وحمل همومها وقضاياها بمشاعره ووعيه الشقي وعقله المتيقظ ودفع ضريبة الانتماء إلى جبهة الممانعة وتيار التصدي للرداءة والارتداد. لكن ماهي الدوافع الخفية والأسباب الحقيقية التي حفت بالاغتيال؟ وهل يتعلق الأمر بثأر شخصي أم بالنظام العام؟
لقد وجد ناهض حتر المسيحي نفسه في تناقض مع الاتجاه المحافظ في الإسلام وبان الاختلاف بين توجهه الوحدوي المقاوم والمنزع القطري والعشائري الذي ظهر على الثقافة في أشكالها المحلية والخصوصية. أضف إلى ذلك دفعته قناعاته اليسارية إلى مجابهة النزاعات الليبرالية والرد على أمواج التطبيع مع الكيان الغاصب والانتصار إلى جبهة الممانعة وسعى حثيثا إلى إحداث التغيير الديمقراطي في الأنظمة التقليدية.
في هذا السياق تكاثر حوله الأعداء واتهمه البعض بالإساءة إلى الذات الإلهية وازدراء الأديان واعتبره البعض الآخر مزعجا للسلطة القائمة وذلك لما تمثله كلماته من تقويض للاستقرار والتعايش بين الطوائف والمذاهب وقذ انتهى الأمر إلى منعه من الكتابة والنشر في بلده ومقاضاته ومحاكمته وبعد ذلك تصفيته بعد الجولة الأولى.
في الواقع تحاول الديماغوجيا السوقية للسلطة وحراس التاريخ التذكاري أن يخمدوا النفوس التائقة إلى الإنعتاق والاستفاقة وأن يمنعوا الناس من التمتع بالأنوار الكونية والحرية الفكرية ولكنهم يجهلوا العاقبة المنجرة عن ذلك الصد والاستبعاد والنتائج الكارثية عن تصفية واغتيال القامات المعرفية وأنهم بصنعهم بأنفسهم قد أسقطوا من رصيد الأمة في الارتقاء والسؤدد وقللوا من حسابها في الاستئناف والاسترجاع.
إن التحريض على المتنورين من الكتاب والعلماء وتتبعهم بالمحاكمات في قضايا حول الحرية الفكرية هي إجراءات ردعية من السلطة القائمة للدفاع عن نفسها تتنصل فيه من مسؤولية حمايتهم وضمان أمنهم وتوقيع على صك من بياض للقوى الشعوبية المغالية ليتم ملاحقتهم ونبذهم وتهميشهم والقضاء عليهم.
من حيث المبدأ ومن جهة الممارسة ليس الاختلاف في التفكير والرأي المضاد والاجتهاد الشخصي والخروج عن المألوف وعدم الاتفاق مع الرأي العام جريمة يعاقب عليها القانون وإنما حرية الضمير تكفلها الأديان وتنص عليها الدساتير ولكن غياب الديمقراطية وعدم احترام حقوق الإنسان وانتشار ذهنية التحريم وثقافة الإقصاء وتبييض الإرهاب وتعويل النظم السياسية على طاعة الجمهور ورضاهم وبالتالي استمالتهم بإعادة إنتاج التراث هي من الأمور المؤدية إلى تفشي الغلو والتشدد والتفكير والعنف والتسلط.
لقد خسرت الحركة الديمقراطية العربية كاتبا ملتزما حاول تغيير شروط اللعبة وناقدا لاذعا للتيارات الدينية المتشددة ودارسا لحركات التحرر الوطني ومناصرا للمقاومة ومناهضا للمشروع الليبرالي الجديد وباحثا عن الوئام بين الطوائف والأديان والمذاهب وعن التعايش السلمي والتنوع الثقافي والاجتماعي.
كما فقدت القضية الفلسطينية أحد فرسانها الذين ناصبوا العداء للحركة الصهيونية ودافعوا على الهوية الوطنية للقدس وعروبة الأرض وآمن بخيار الكفاح والتحرير الاجتماعي من نير الاستيطان الإسرائيلي.
جملة القول أن ما حصل هو اغتيال جبان ومدان وأن مصير الظالم والمستبد والمستعمر والمستوطن هو الزوال وأن نور المدنية سيشع على العرب وأن صوت العقل الحر لن يسكت عن النطق بالكلمة الحرة. أليست الأصوات الناطقة بلسان الحقيقة تظل مسموعة مهما تعاظمت محاولات الإسكات وأشكال التعتيم؟
اضف تعليق