يتساءل البعض في أوروبا وخارجها عن مخاطر انتهاك الحرية بدعوى توفير الأمن والدفاع عن الحرية، والانزلاق نحو تسيير أمني للمجتمع على الطريقة الأمريكية، بعد عمليات الحادي عشر من أيلول، وسيحتدم النقاش عندما يعاد طرح المشروع على البرلمان الأوروبي، لأن المدافعين عن الحريات الفردية يتخوفون من جمع معطيات ضخمة عن المواطنين، عبر أنظمة بيانات السفر، والتنصت الإلكتروني، ورغم أن "باتريوت أكت" على النمط الأمريكي مستبعد في أوروبا، فإن بعض الإجراءات قد يبدو أنها مستلهمة منه، لاسيما تلك المتعلقة بمراقبة الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، وجمع المعطيات الرقمية.
لقد أكد العديد من المفكرين الأوربيين على أهمية الأمن، فقديما رأى (توماس هوبز) الذي يعتبر رائد المنظرين السياسيين في "المدرسة الواقعّية" القديمة لموضوع الأمن أنه "ليس ثمة أي مجال للصناعة... للفنون، للآداب، للمجتمع في غياب الأمن... ولعل الأسوأ من ّذلك هو الخوف المستمر، وخطر الموت العنيف؛ مع بقاء حياة الإنسان معزولة، فقيرة، بشعة، فظيعة وقصيرة. وبنظر (هوبز) والكثير من البشر حاليا، أن "الأمن هو الأكثر أساسية بين جميع القِيَم الإنسانية. إنه الأساس المتين الذي نعتمده لبناء صروح حياتنا الفردية والجماعية، ومن الواضح حسب (هوبز) والمدرسة الواقعية الحديثة -وهي النظرية السائدة حاليا في العلاقات الدولية- أن قيمة الأمن أهم من الحرية.
ولكن هناك من خالف هذا الرأي، فيقول (بنيامين فرانكلين) -أحد أهم مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية (من يضحّي بالحرية من أجل الأمن لا يستحق أياً منهما)، والواقع أن أوروبا لم تتنازل عن حرياتها في الحكم والتشريع والإدارة والسلوك، ولكنها تشعر أن أمنها مهدد بفعل الإرهاب، وأحداث باريس وقبلها لندن ومدريد شاهدة على هذا الهاجس الذي تمدد إلى إعادة النظر في العلاقة بين الحرية والأمن، وتجاوز ذلك إلى تقنين الحريات التي كفلها الدستور والنظام لمحاربة الإرهاب والجريمة والهجرة وطلبات اللجوء، ووصل الأمر إلى استغلال أو انتهاك المعلومات الشخصية للمسافرين إلى أوروبا لمعرفة الانتماء الديني والعرقي للمسافرين، والتنسيق مع شركات الطيران لمعرفة المسافر الذي يطلب وجبات "حلال"، وهو ما يتنافى مع الحرية التي قد تجلب أمناً من وجهة نظرهم، ومع مقولة بنجامين.
ازاء هذا الجدل حول الأمن والحرية، فان السؤال المهم هنا هل ستبقى تلك الأنظمة السياسية في أوربا على موقفها من أن الحرية تجلب الأمن؟ يشك الكثير في ذلك، بل العالم يتجه اليوم إلى تقنين الحريات والتنازل عن كثير من مبادئه الديمقراطية بحثاً عن الأمن الذي هو حاجة إنسانية كما في (هرم ماسلو)، ومصالح اقتصادية، ومواقف سياسية بين الدول، فالنظم الديمقراطية في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا مضطرة للتضحية بجزء من حريتها مقابل الأمن، وهذه حقيقة أثبتتها الأحداث والأزمات التي مرّت بها أميركا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وفرنسا مؤخراً بإعلان حالة الطوارئ، وحالياً بروكسل برفع الحالة الأمنية إلى الدرجة الرابعة التي تعني شللاً كاملاً للبلاد ونزول الجيش لحماية المواقع الحيوية.
فقد سمحت فرنسا، منذ 2006، تحت شروط معينة، للشرطة وللجمارك بالحصول على بيانات شخصية للمسافرين من شركات الطيران المدني في إطار ما يعرف بقاعدة بيانات المسافرين جوا، لدي حجز وشراء تذكرة السفر لكل مغادر لفرنسا، أو قادم إليها. وتسهر اللجنة الوطنية للإعلام الآلي والحريات على احترام قاعدة البيانات هذه مع بعض الضمانات، لاسيما فيما يتعلق بالحياة الشخصية. فمثلا، من هذه البيانات: جمع المعلومات التي تعدّ حساسة وممنوعة، مثل الانتماء الديني أو العرقي للمسافر، أو حتى معطيات حول طبيعة الوجبة الغذائية (حلال مثلا) التي يطلبها المسافر، ويحتفظ بهذه المعطيات لمدة خمس سنوات. ويتم حجبها بعد سنتين من جمعها.
وبعد هجمات باريس، في يناير الماضي، تقرر إنشاء قاعدة بيانات مركزية في أيلول 2015 تحويل المنظومة المعلوماتية القائمة إلى منظومة متكاملة، لتسهيل جمع ومعالجة المعطيات التي يحتفظ بها (يتم تخزينها في الحاسوب المركزي) لمدة أقصاها خمس سنوات. لا تعني قاعدة البيانات الفرنسية إلا بالرحلات المغادرة أو القادمة إلى فرنسا. وبما أن الاتحاد الأوروبي يقوم على حرية تنقل الأشخاص، فإن العمل بقاعدة بيانات وطنية لن يجدي نفعا، لأنه بإمكان أي شخص أن يغادر التراب الأوروبي، أو أن يصل إليه من المطار الذي يختاره. فالفرنسي الذي يغادر التراب الأوروبي من مطار مدريد، بعد أن وصل إليه على متن سيارة من أحدي المدن الفرنسية باتجاه اسطنبول مثلا، لا يخضع لمراقبة هذا النظام. وفي ظل غياب آلية من هذا النوع على المستوي الأوروبي، تكتفي الدول الأوروبية بالتعامل فيما بينها وفق برتوكولات متفق علىها على الصعيد الثنائي. ولتدارك الأمر، تطالب فرنسا بتعميم نظام المراقبة هذا على المستوي الأوروبي. وقد اتفق وزراء داخلية الاتحاد على إنشاء قاعدة بيانات أوروبية تسمح بمراقبة المقاتلين الأوروبيين المتجهين نحو مسارح "الجهاد"، والعائدين منها. وبالفعل، كان موضوع تزويد أوروبا بآلية مركزية لجمع وتبادل البيانات الشخصية للمسافرين، دعما لإجراءات محاربة الإرهاب الوطنية، وللتنسيق والتعاون على الصعيد الأوروبي، محل نقاش في الاجتماع الذي ضم وزراء الداخلية الأوروبيين في باريس مباشرة، عقب الهجمات التي عرفتها العاصمة الفرنسية.
هذه الآلية ليست أمرا جديدا بالنسبة للأوربيين، فقد سبق للمفوضية الأوروبية أن أعدت نصا قانونيا بهذا الخصوص في 2011، لكن البرلمان الأوروبي رفضه لقلة الضمانات التي يحتويها في مجال احترام الحريات الفردية، عادًّا أنه يمس الحياة الشخصية للمسافرين الأبرياء، وتعمل فرنسا، منذ هجمات 7 كانون الثاني في باريس، على إقناع شركائها الأوروبيين بضرورة تفعيل مشروع قاعدة البيانات الأوروبية، كما تسعي ودول أوروبية أخري للضغط على البرلمان الأوروبي للعدول عن موقفه، وللرد على تخوف هذا الأخير من مخاطر هذا النظام على الحريات الفردية، والحياة الشخصية للمواطنين الأوروبيين، تقول المفوضية الأوروبية إن الدول التي اعتمدت مثل هذا النظام على المستوي الوطني حققت نجاحات في مجال محاربة الجريمة والإرهاب بتجنبها بعض العمليات، ويتمثل النظام المرتقب في إنشاء قاعدة بيانات أوروبية تربط النظم المعلوماتية الوطنية بعضها بعضا بإنشاء نظام أوروبي مركزي، يمكن لأي بلد عضو في الاتحاد أن يستغل معطياته في أي وقت، خاصة أن الشبكة ستجهز بأنظمة إنذار تخص الأشخاص المشتبه بهم، والذين أدخلت معلومات خاصة بهم في قاعدة البيانات، إلا أن البرلمان الأوروبي منقسم على نفسه بشأن إقامة قاعدة بيانات أوروبية للمسافرين جوا، فكتلة الحزب الشعبي الأوروبي (يمين)، وكتلة المحافظين والإصلاحيين يبدو أنهما تساندان المشروع، بينما كتل الخضر، واليسار الأوروبي، وتحالف الديمقراطيين، والليبراليين من أجل أوروبا، يبدو أنها تعارضه.
الغرض من هذا النظام ليس فقط تقفي حركة المشتبه بهم لمعرفة تحركاتهم وتنقلاتهم وبالتالي اعتقالهم بسهولة، في حال شك، أو كإجراء استباقي (إن سمحت التشريعات القادمة بذلك)، ولكن أيضا محاولة تحديد واكتشاف سلوكيات غير طبيعية، مثل شراء شاب غير متعود على السفر تذكرة ذهاب فقط باتجاه مناطق، أو بلدان مصنفة ضمن خانة الاتجاهات الحساسة، أو التي تعرف صراعات مسلحة، أو الحجز في آخر لحظة باتجاه هذه البلدان كمحاولة لتمويه وإرباك الأجهزة الأمنية التي قد تراقبه، أو حجز تذكرة مع العبور عبر عدة مطارات، أو التوقف في أكثر من بلد لحجب الرؤية عن الوجهة النهائية. وبهذا، يكون بإمكان الأجهزة الأمنية منع إرهابي ينوي تفجير طائرة من ركوبها، أو حتى إجبار هذه الأخيرة على النزول في مطار دولة أوروبية لدى تحليقها في مجالها الجوي لاعتقال الشخص المشتبه به.
إضافة إلى فرنسا فان عدد من الدول الأوربية تعد العدة من اجل حماية أمنها القومي، بغض النظر عن دعوات حماية الحريات وحقوق الإنسان، لان الأمن في أوربا أصبح مطلبا شعبيا عاما، فقد خرجت العديد من المظاهرات في عدة دول أوربية، تدعو إلى إنهاء الإرهاب والتطرف، ووقف الهجرة غير الشرعية، كذلك في بلجيكا فان الاعتقالات المداهمات مستمرة في مطاردة المشتبه بهم وإلقاء القبض عليهم، بل ظهرت دعوات قادها اليمين المتطرف في فرنسا وألمانيا إلى طرد العرب والمسلمين ووقف كل أنواع الهجرة، كما إن أحزاب اليمين المتطرف في أوربا قد نشطت بشكل قوي جدا، من اجل حماية دولها من الإرهاب، حتى إن بعض المحللين ربط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي إلى سعيها إلى حماية نفسها من الإرهاب من خلال التخلص من قيود وقوانين الاتحاد الأوربي ومنها قانون شنكن الذي يسمح للسفر الحر للأوربيين داخل الاتحاد الأوربي.
يرى عدد من المحللين، إن سياسة تغليب الأمن على الحرية في أوربا قد تكون هي السائدة في المرحلة المقبلة، وذلك لعدة أسباب منها:
1- هشاشة الوضع الأمني في بعض الدول الأوربية، وبشكل أعم بلدان أوروبا الغربية (ومن ضمنها سويسرا)، تتسم بقدر كبر من الضعف والهشاشة بوجه هذا الصنف من الإرهاب، ذلك أن فرنسا البلد الذي كان في ظرف عشرة أشهر هدفا لعدة هجمات بمثل هذا القدر من الدموية يُعاني من هشاشة كبرى في داخله على مستوى الاندماج والأمن، حتى أنهم بصدد إنشاء حرس وطني لضبط الأمن، ففي كل أنحاء أوروبا، ستكون مسارح العمليات هذا القرن داخلية في معظم الأحيان.
2- كما أن ضرب أوروبا أضحى مسألة سهلة بالنسبة للإرهابيين الأصوليين، ولاحظت أن "هجوم باريس" يُظهر ذلك، فحرية التنقل وسهولة الحصول على الدعم والأسلحة من داخل دول أوربا، سهل العمليات الإرهابية، لهذا كان لابد من إجراء رادع لها يوازي قوة هذه التنظيمات وتشددها.
3- الربيع العربي والحرب في سوريا وموجة اللاجئين الوافدة من الفضاء الإسلامي والضعف الذي تُعاني منه المؤسسات الأوروبية تُوجد الظروف المثالية لأعمال تُرتكب من طرف "متعصبين إسلاميين".
4- هناك نماذج في العالم قدمت الأمن على الحرية فنجحت، إذ إن الإشادة الأوربية بالولايات المتحدة التي تمكنت من خفض مستوى التهديد إثر الإجراءات الأمنية التي اتخذتها في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، فقد أكد العديد من الأوربيين إن أمريكا نجحت في إنهاء التهديدات لها وإبعاد الإرهاب عن أراضيها من خلال الإجراءات الأمنية المشددة داخل أراضيها من جهة، كذلك العمليات العسكرية وضرب منابع الإرهاب في الشرق الأوسط واحتلال أفغانستان والعراق من جهة أخرى.
5- إن أحزاب اليمين المتطرف في أوربا اتحدت حول شعارات شعبوية، تحمِّل الأقليات المسلمة، واللاجئين إلى القارة العجوز المسؤولية عن العمليات الإرهابية، وذهب بعضهم إلى المطالبة بترحيل ملايين المسلمين ردا على الهجوم الإرهابي؛ في خطوة تتضمن عقابا جماعيا، ونكوصا عن أبجديات العدل عبر تحميل طائفة معينة، أو مجتمع مسؤولية تصرفات اتخذها أفرادا، لا يشكلون نسبة يعتدُّ بها من العرب والمسلمين المقيمين، أو اللاجئين إلى أوروبا، ولا يقتصر تأثير تنامي الهجمات الإرهابية على السياسات الأوروبية بشأن اللاجئين والجاليات العربية والمسلمة؛ إذ إن مخططي الهجمات يسعون لدفع أوروبا إلى التخلي عن قيمها بالتسامح والمساواة والديمقراطية. ومن المرجح أن تطال الإجراءات ضد الإرهابيين الحريات الشخصية، والحقوق الدستورية للمواطنين الأوروبيين على اختلاف مشاربهم وأصولهم. كما أنها ستهدد الوحدة السياسية والاقتصادية للقارة، وتنذر بنعي اتفاقية "شينغن" للفضاء الأوروبي الحر، وما انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي إلا دليل على علو الأمن على الحرية.
المعالجات: لمعالجة حالة الأمن المتدهور في أوربا كان لابد لهذه الدول إن تتخذ عدد من الخطوات من اجل حفظ الأمن والحرية معا، منها:
1- ان الهجمات الإرهابية لن تتوقف على المدى المنظور، ويحتاج وقفها إلى مقاربات تتعدى الحلول الأمنية، وينطلق إلى تبني إستراتيجية واضحة وشاملة تتضمن عدة عناصر، أهمها: الانطلاق من أن الأمن العالمي بات كلا لا يتجزأ؛ ما يحتم على أوروبا العمل بفعالية أكبر لإطفاء الحرائق، والمساعدة في محاربة الإرهاب المنتشر على طول حدودها الجنوبية، والمسارعة إلى إيجاد حلول سياسية لأزمتي ليبيا وسوريا، وتكثيف الجهود لمحاربة الإرهاب فيهما؛ بمساعدة جميع القوى الفاعلة عالميا.
2- يجب ألا يغفل صناع السياسة الأوروبيون أن معظم منفذي الهجمات الإرهابية هم ممن ولدوا وتلقوا تعليمهم في المجتمعات الغربية؛ ولهذا، من الضروري تحليل أسباب الجنوح إلى التطرف، والوقوع فريسة للمنظمات الإرهابية. وعلى أوروبا مراجعة سياسة الاندماج والأخطاء، التي تؤدي إلى التطرف في البيئات الفقيرة المسلمة في ضواحي المدن الأوروبية، ومراعاة الفروق الثقافية بين الديانات من أجل قطع الطريق على مروجي الأفكار المتطرفة.
3- إن الحفاظ على أمن أوروبا يحتاج إلى الكف عن سياسة المعايير المزدوجة إزاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والضغط لإيجاد حل يضمن حقوق الفلسطينيين في دولة طال انتظارها.
4- لا يمكن لأي متابع مستقل إنكار الدور التنموي لأوروبا في الشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم في السنوات الأخيرة، فإن التدخلات غير المدروسة، والانجرار وراء سياسة صقور واشنطن في العراق وأفغانستان والصومال وغيرها، جلبت المآسي للقارة العجوز، وجعلتها في عداء مباشر مع شعوب عدة في العالم، تشاركها نفس الفضاء الاقتصادي والسياسي والأمني؛ على عكس الولايات المتحدة القابعة خلف المحيط.
5- وأخيرا، فإن دعم خيارات الشعوب العربية والمسلمة في الديمقراطية، وبناء مجتمعات مدنية، يساهمان في تعزيز الأمن الأوروبي والعالمي. كما أن الموقف الإنساني من قضية اللاجئين قد يكلف الساسة غاليا على المدى المنظور، لكن استمراره يعدُّ على المدى البعيد ضمانة للمحافظة على وجه أوروبا المتسامح، وقاعدة لبناء علاقات تجسر الهوة بين أوروبا والشرق، وتساهم في بناء عالم متماسك ينبذ الإرهاب ويسعى إلى السلم.
على الرغم من بعض الإجراءات المتشددة في أوربا، إلا إن النظام الديمقراطي لن ينهار، ولكن قد يعود إلى الوراء إذا اتجه الساسة والنخب الغربيون مجدداً للحديث عن التمييز الديني والعرقي، وفرز المحصول الإنساني والثقافي للشعوب على أساس ذلك، وتبادل الاتهامات عن مصدر الإرهاب من دون النظر إلى أسبابه ودوافعه وما تم فعله لمكافحته، وبالتالي سيكون العالم المتحضّر أمام مسؤولية الحرية والأمن مجدداً، وأيهما مقدم على الآخر.
اضف تعليق