لأن المعارك في حلب تكاد تختزل الحرب في سوريا وعليها، كما قلنا ذات مقال في هذه الزاوية (29 حزيران)، فإن من غير المرجح أن تنجلي غبار المعارك الطاحنة، الأعنف منذ اندلاع الأزمة السورية، عن انتصار قطعي لفريق أو هزيمة ماحقة لفريق آخر... فالنظام الذي حقق "اختراقاً" نوعياً على محاور الملاح – الكاستيلو، يعود فيمنى بانتكاسة حقيقية على محاور الراموسة – الكليات... والمعارضة التي بدت معنوياتها في الحضيض قبل أسبوع، تشق رهاناتها عنان السماء هذه الأيام، وتتوعد بإحكام السيطرة على "كامل حلب".... المؤكد أن معارك الكر والفر ستسمر، وحرب الجبهات والمحاور المتنقلة ستتواصل، رغم الارتفاع المضطرد لتكاليفها، إلى أن يتكشف الحراك الإقليمي – الدولي، عن "صيغة ما" لحل الأزمة السورية.
حلب هي "أم المعارك"، ومنها سيأتي النبأ الأخير عن الأزمة السورية، لذا فالحسم ممنوع والنصر محظور على مختلف الأطراف، ولن يعدم رعاة الأطراف السورية المحتربة وداعميهم الوسيلة لحفظ "توازن القوى" في المدنية وعلى أطرافها، فالتوازن وحده، هو ما سيجبر الأطراف في نهاية المطاف، على الجلوس حول مائدة مفاوضات، بلا غالب أو مغلوب، بحثاً عن حلول وسط، اتضحت ملامحها قبل وقت ليس بالقصير، وكل ما تحتاجه، هو إنضاج الأطراف المتقاتلة ورعاتها للأخذ بها والتسليم بـ "لانهائيتها".
من دون هذا "التوازن"، ستتحول مائدة المفاوضات، أي مفاوضات في المستقبل، إلى منصة لفرض الإملاءات والاستجابة لها... المنتصر سيسطر حروف التسوية النهائية والمهزوم سيرضخ لها... وليس ثمة في أفق المشهدين الإقليمي والدولي، ما يشي بأن فريقاً بعينه قد بات في موقع المنتصر، فيما ينزوي الفريق الآخر في موقع المهزوم... فلا حلفاء النظام: روسيا وإيران على هذا القدر من الضعف والهشاشة في سوريا والإقليم والساحة الدولية، ولا رعاة المعارضة وداعميها من واشنطن مروراً بالرياض وأنقرة وغيرها من العواصم، قد تجردوا من البدائل والأوراق، ولم تبق بحوزتهم سوى "خرقة بيضاء" يلوحون بها في إشارة إلى الاستسلام.
أبعد من ذلك، فإنك ستجد من بين اللاعبين الكبار، الداعمين لهذا الفريق أو المنتصرين لذاك، من ليست لديه المصلحة ولا الرغبة، في أن يرى حلفاءه وقد حققوا نصراً ميدانياً حاسماً ومبينا... روسيا برهنت بعد تفاهماتها مع الولايات المتحدة، على أنها هي من يكبح ميول الحسم العسكري والاختراقات الميدانية لدى فريقها... والولايات المتحدة تعرف أكثر من غيرها، أن من يصنع نصر حلفائها في حلب هم خصومها من المنظمات الإرهابية والمتطرفة والجهادية، وليس من مصلحتها البتّة، أن تسلم ثاني أكبر مدينة سورية (ربع سكان سوريا) للنصرة والإسلامي التركستاني والإيغور وأحرار الشام ونور الدين زنكي وبقية الأسماء والمسميات الدالة على هوية أصحابها.
وثمة من بعيد (نسبياً) من يقرأ المشهد الدامي في حلب وسوريا، ويعمل على إدامته أطول فترة ممكنة، وأعني إسرائيل التي عرّفت مصلحتها القومية في سوريا بإطالة أمد الحرب وتفكيك البلاد والدولة والجيش... وعندما نتحدث عن العامل الإسرائيلي في الأزمة السورية، لا نقصد فقط التدخل المباشر من قبل تل أبيب، بل نشير أساساً إلى "جماعات الضغط" التي تدين لها بالولاء، والقادرة على تشكيل السياسة الخارجية لدول عظمى، او على الأقل التأثير فيها، من الولايات المتحدة إلى العواصم الأوروبية مروراً بموسكو التي لم تعد بمنأى عن تأثيرات "اللوبي" ونفوذه.
إقليمياً، يتعين مراقبة التحولات في السياسة التركية، بالأخص بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في الخامس عشر من تموز الماضي... أغلب التقديرات الراجحة والوازنة، تشير إلى أن تغييراً سيطرأ على هذه السياسة، بل هو طرأ فعلاً قبل المحاولة الانقلابية وسيجري تظهيره بعدها... لكنه تغيير في السياسة وليس انقلاباً... أنقرة ستبتعد عن الغرب، ولكنها لن تقطع معه... أنقرة ستتقرب من موسكو وطهران، بيد أنها لن تتماهى معهما... "نظرية العمق الاستراتيجي" ستحكم على تركيا انتهاج سياسات أكثر توازنا في سوريا وحيالها، لكنها لن تصل حد التفريط بحلفائها، ولا التخلي عن أوراقها في مواجهة "التهديد الكردي" أساساً، دع عنك التهديد الإرهابي المتنامي لـ "داعش" وأخواته.
وحدها الدول المحكومة بـ "المنطق الثأري" و"العصبيات القبليات"، ستواصل "العزف" على وتر الحسم و"النصر المؤزر"، وقد أظهرت فضائياتها المُدارة من "غرف العمليات" في الأيام القليلة الفائتة، حالة من "السعار"، لا تليق إلا بإعلام "غوبلزي" الطراز... لكن اتجاهات تطور السياسات والمواقف الإقليمية والدولية، تُبقي هوامش ضيقة فقط، لحركة هذه الأطراف وقدرتها على الفعل والتأثير.
معارك حلب ستتواصل وتتصاعد، من دون حسم أو انتصار نهائي... أول المستفيدين من جولتها الأخيرة، هي جبهة النصرة، التي صار اسمها "جيش فتح الشام"، والتي لعبت دور العمود الفقري في الهجمات المتتالية على محور الراموسة – الكليات، مدعومة بالجيش الإسلامي التركستاني، الذي وفر أعداداً كبيرة من الانتحاريين والانغماسيين، ومن كتائب جهادية حملت على أكتافها زخم الهجمات المستميتة وغير المرتدة على خطوط دفاع الجيش السوري وحلفائه...هؤلاء جميعاً اطلق عليهم اسم "الثوار" و"المعارضة"، ومن الآن وصاعداً، ستصبح النصرة في موقع المنافس الجدي لـ"داعش" لا على جذب الجهاديين والانتحاريين فحسب، بل وعلى قيادة الجهاد العالمي في سوريا وأكنافها، وستكون النصرة في موقع القيادة غير المتنازع عليه، لجبهة قوى "الثورة" و"المعارضة" في سوريا.
اضف تعليق