الانقسام في الصفوف والتشرذم، من الخدع المطلوبة في الحروب لتضعيف العدو من الداخل ثم التأثير على قدراته العسكرية والمعنوية، بيد أننا نشهد هكذا انقسام داخل مكون أساس في العراق يفترض ان يكون ضمن الجبهة الموحدة لمواجهة الارهاب الداعشي، في حين كان المطلوب أن يكون هذا الانقسام في صفوف تنظيم داعش، لنكون قد أحرزنا نصراً جديداً ومميزاً في ساحة المواجهة، وهي مفارقة مثيرة للتساؤل.
هنالك حقائق على الارض تؤكد القابلية على الانقسام
لن نكون بحاجة الى وجود الساسة من المكون السنّي تحت قبة البرلمان وهم يتراشقون الاتهامات بالفساد والاختلاسات، ولا حتى التباين في المواقف والتوجهات بين العشائر، لنعرف حقيقة الانقسام وعمقه في هذا المكون منذ سقوط الطاغية صدام على يد القوات الاميركية، لان البداية كانت تحديداً في أول يوم دخل فيه مقاتل أجنبي الى العراق ليكون ضمن "المجاهدين" لخوض الحرب ضد الاحتلال الاميركي – حسب وصفهم- فقد كان التصور الشائع أن هؤلاء، ومن خلال تشكيلات مسلحة بمسميات عديدة، إنما تعبر عن إرادة المجتمع السنّي في العراق، بغية إعادة مكانته المفقودة والحفاظ على مصالحه في تجربة العراق الجديد ما بعد صدام، بيد أن الحقيقة بانت منذ البداية، عندما كشرت تلك الجماعات عن طائفيتها المقيتة وتوجهها التكفيري والدموي، مغلبة ذلك على مفاهيم مثل "الجهاد ضد الاحتلال"، وبدأ مشاهد الاشلاء الموزعة والدماء والدمار الذي لحق بالمدنيين، اكثر من الاميركيين، تصل الى ابناء المجتمع السنّي، ليفهم فيما بعد الرسالة ومفادها؛ أن عليه القتال بالنيابة ضد عدو وهمي تحقيقاً لمصالح متعددة تتوزع على بعض العواصم الخليجية، ولا تقتصر على السعودية وحسب.
وبدلاً من أن يكون هذا المجتمع مستحقاً لمطالبه وحقوقه، بات يواجه أصابع الاتهام وايضاً الاستحقاق الأمني لأنه بات – من حيث يريد او لا يريد- حاضنة لتلك الجماعات الارهابية والدموية التي ليس في منهجها بالاساس، المطالبة بحقوق معينة او التفكير بحياة طبيعية، إنما التكفير والتقتيل والتشريد، وهذا النهج، أصاب المواطنين السنة كما أصاب الشيعة من قبل.
ضياع الهوية والرؤية المحددة لما يجب أن يكون عليه المستقبل، جعل هنالك من السنّة من يتحالف مع الاميركان وهم بعد محتلون للعراق، كما فعل عبد الستار ابو ريشة ولقائه المثير للجدل والتاريخي مع الرئيس الاميركي جورج بوش في الانبار، بينما هنالك من ذهب للدخول في العملية السياسية في بغداد، وحتى ظهرت شخصيات سعت الى الوسطية والاعتدال وتغليب الخطاب الوطني، فكان مصيرها القتل غيلة، بين من هو شيخ عشيرة او أكاديمي او قائد عسكري وغيرهم كثير.
ولعل هذه الهشاشة في الطبقة السياسية السنية هي التي سهّلت على وزير الدفاع خالد العبيدي عملية الهجوم العنيف والمفاجئ بوابل من الاتهامات والفضائح من العيار الثقيل ضد شخصيات لها ثقلها، مثل رئيس البرلمان سليم الجبوري، والقنبلة التي فجرها العبيدي في البرلمان، لم تسقط الاقنعة عن وجوه أسماء معينة وحسب، بل وأحدثت هزة عنيفة في المكون السياسي السنّي وجعلت مقولة "السلة والبيض" تنطبق عليه تماماً، فأي حركة من شخص او جماعة للنأي عن محيط الفساد، تسبب ضرراً لها قبل غيرها.
ولمن يتابع انعكاسات جلسة استجواب وزير الدفاع على هذا المكون بشكل عام، يتفهم حرص الساسة السنّة على الاجتماع تحت سقف واحد للدفاع عن الشخصية الاكبر في دائرة الاتهام، ولحفظ الظاهر، فقد أكد المنضوون ضمن كتلة "تحالف القوى العراقية"، دفاعهم عن سليم الجبوري وإبقائه في منصبه ومواجهة التحديات التي يواجهها على خلفية اتهامه بالضلوع في عمليات فساد، مثل حظر السفر خارج العراق، ولعله يكون أضعف الإيمان لمواجهة تداعيات الفضيحة المدوية التي ألمت بهم، لعلمهم اليقين بأن هذه جلسة الاستجواب وما تفجّر فيه، ثم بث التسجيل الى الرأي العام، ورائها نوايا مبيتة لهم مع قرب احتمال حسم الموقف العسكري في الموصل، بل وتحقيق نصر كامل على تنظيم داعش، وكسر آخر شوكة بوجه الدولة العراقية.
مخاطر شظايا التمزق
وبما أننا نتحدث ضمن نطاق المصلحة الوطنية والدولة العراقية التي ينضوي المكون السنّي فيها، فان عملية الكشف عن ملفات فساد، يجب ان لا تفهم على أنها نقطة قوة للآخرين، وما أكثر ملفات الفساد المدوية وبمليارات الدولارات كشفت وعرف اصحابها ثم طويت ولم يعرف؛ لا مصير الاموال ولا مصير اصحابها المختلسون، بمعنى أن ما قام به وزير الدفاع، وهو أبرز وزير سنّي في الحكومة، سيترك آثاراً سيئة وخطيرة على مجمل الاوضاع على صعيد الحاضر والمستقبل، لاسيما وأننا مقبلون على استحقاق عسكري ناجز في الموصل بعد الانتهاء من مدن الفلوجة والرمادي واندحار معاقل داعش الواحد بعد الآخر، ومكمن الخطورة أن يسود الاعتقاد بأن الانتصارات المتواصلة مصبوغة بلون طائفي، مع الحديث المستمر عن اشتراك قوات الحشد الشعبي في تحرير الموصل الى جانب قوات الجيش، في حين كان هذا الكلام خافتاً في وقت سابق، وهذا ما تروج له بشدّة دوائر اعلامية ومخابراتية وسياسية ايضاً، في المحيط الاقليمي والخليجي تحديداً مع رعاية غربية وبريطانية، بما يجعل المرحلة القادمة من تباشير النصر للعراقيين جميعهاً على الارهاب وبث الأمل بعودة الاستقرار للجميع، الى علائم احتقان طائفي جديد وإعطاء مسوغ جديد للإيغال في جرائم ومجازر جديدة على غرار ما حدث في الكرادة.
وعليه؛ فان المصلحة الوطنية تقتضي بالفصل بين فضائح الساسة السنّة، وبين مسيرة القتال ضد داعش، بل ان هذا يجب ان يكون سبباً لمزيد من تقارب المكون السنّي مع الحالة الجماهيرية المتصدية لللارهاب الداعشي، بعد اتضاح فساد بعض الساسة وفشلهم في تمثيل المكوّن بالشكل الذي يحفظ كرامتهم امام العالم، ومن ثم المشاركة بكل قوة في تحرير باقي المناطق المحتلة من داعش وصولاً الى الموصل.
اضف تعليق