q

ربما يكون العراق النموذج الوحيد بين الديمقراطيات الحديثة بابتلائه بجدار عال من عدم الثقة بين الجماهير ورجالات الحكم، والمفارقة في التجربة الديمقراطية في العراق، اكثر بكثير من الأسى على فشلها، فمن يحكم في العراق كانوا بالأمس القريب دعاة إصلاح وتغيير ورسالة إنقاذ للمجتمع والامة من الديكتاتورية والطغيان والاضطهاد والتمييز وغيرها من "المفردات المعارضاتية"، ولكن؛ بدلاً من تعبيد الطريق نحو الجماهير، بحيث ترى طموحاتها وحقوقها مودعة في ذمة المعارضين السابقين والحكام الجدد، نلاحظ العكس تماماً؛ رؤية الطموحات السياسية والامتيازات في هذه الجماهير.

هل الجماهير تستحق أكثر من هذا؟!

لاحظت منذ الايام الاولى من سقوط صدام، ومجيء رجال المعارضة من الخارج الى قمة السلطة، أن ثمة إيحاءات نفسية في كوامن بعضهم – إن لم نقل جميعهم- تدفعهم للشعور بان الشعب العراقي قد حصل على كل شيء لمجرد سقوط صدام وانهيار اجهزته القمعية وتخلصه من حملات التجنيد الاجباري للشباب وحملات التشغيل الاجباري للعمال (السُخرة) ومختلف انواع الاضطهاد والتنكيل، علاوة على الضغوط الاقتصادية والمعيشية الهائلة.

المسؤول الذي نراه في موكب من السيارات المظللة، يتطلع الى الشارع، فيرى حركة البناء وحيوية الاسواق وتملك الناس للسيارات الحديثة وامتلاء المدارس والجامعات بآلاف الطلبة من البنين البنات وهم يرسمون أحلامهم الطويلة والعريضة نحو المستقبل، ففي قرارة نفسه، يشعر أن هؤلاء الناس، ربما أخذوا اكثر مما ينبغي! فهي تأخذ بمستوى وعيها واستيعابها للمتغيرات، وفي مخيلة معظم الساسة في العراق، فان مستوى تفكير الناس لا يرتقي اكثر من امتلاك بيت وسيارة ووظيفة ذات مرتب شهري مجزي، او ما يسمى بـ "التعيين"، ولا فرق لديه نوع العمل وفي أي مكان.

وهذا يدفع البعض من هؤلاء الساسة لأن يضع نفسه في مرتبة أعلى من الناس، كونه يمتلك الوعي بمجريات الامور، فيما يتوهم البعض الآخر بأنهم على درجة من الثقافة تميزهم عن الناس العاديين، لذا يجب تطبيق "نفذ ثم ناقش" على غرار الحلقات الحزبية، فاذا كنّا في السابق نسمع عن طروحات فكرية وثقافية داخل التنظيمات السياسية في عهد المعارضة، او حتى بعض التحولات السياسية، ففي عهد الحكم، نشهد إصدار قرارات وتعميم اجراءات يشمّ منها رائحة "الحزبية" التي تولي الطاعة الاهمية الكبرى، ولعل آخرها، وليس بأخيرها ما صدر عن النائب علي الاديب وهو يدعو الى تغيير قانون مجانية التعليم في العراق، وقرارات اخرى مشابهة تتعلق بالتعليم والامن والخدمات العامة وما يتعلق بالاقتصاد والوضع المعيشي للناس.

وهذا لا يجب أن ينصرف الى تلبية حاجات وطلبات الناس كيفما كان، لان "رضا الناس غاية لا تدرك"، ثم ان المجتمع، في كل مكان، هو خليط من شرائح ومكونات متعددة، فهنالك الغني والفقير، كما هنالك العالم والمتعلم وايضاً الجاهل وهكذا... بيد ان هذا لا يبرر للنخبة السياسية ان تستريح بعيداً عن الناس، لان إبقاء الناس على حالهم، يطلبون فتُقطر عليهم العطاءات، وتكريس حالة التسطيح في الوعي، من شأنه ان ينمي أزمة متفجرة تحت الرمال، تستقي قوتها وشدتها من أزمة عدم الثقة الموجودة، وهذا ما يدفع شرائح من المجتمع لأن يجدوا من يضعوا فيه ثقتهم ويقودهم الى حيث تحقيق مرادهم، بغض النظر عما اذا كان نحو الخطأ او الصواب.

ومن اجل مد جسور العلاقة الصادقة والحقيقية، يشير سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في "السبيل الى إنهاض المسلمين" وهو يشير الى الاسلوب الامثل لتعامل التنظيم السياسي مع الجماهير، بأن "على التنظيم ان يكون حازماً وعاقلاً ومفكراً، كي لا يفقد الجماهير من جهة، ولا يتوقف عن السير في طريق الهدف من جهة اخرى". بمعنى أن يكون الى جانب الفكر والحزم، الذي تتصف به معظم التنظيمات السياسية التي تقف خلف النخبة الحاكمة، عامل "التعقّل" في تعاملها مع الجماهير، وهو لن يكون، إلا اذا آمن السياسي بقدرة هذه الجماهير على امتلاك الوعي والثقافة في أعلى درجاتها، وقادرة على الاسهام في صنع الاحداث الجسام وتغيير الواقع نحو الافضل، بما يخدم الصالح العام، وينعكس ايجاباً على التجربة السياسية والنخبة الحاكمة ايضاً.

الحل في العودة الى الجماهير

ان استمرار العلاقة غير المشحونة بالتوتر الريبة بين المسؤول وجماهير الشعب، ليس بالامر الذي يمكن لا يُخاف من تجاهله، فالملف الأمني تتطاير منه شظايا الانفجارات الرهيبة بين فترة واخرى، والنتيجة مئات الشهداء والمصابين وآهات ومعانات جديدة لأيتام وأرامل جدد، واستمرار الازمات في الخدمات وفرص العمل والسكن وغيرها، كلها تمثل قنابل موقوته تهدد النخبة السياسية قبل غيرها في العراق، ولعل ما جرى من اقتحامات للبرلمان ومجلس الوزراء يكون صورة مصغرة لما يمكن ان يحصل.

ولتعلم النخبة السياسية الحاكمة في بغداد، إن الاستخفاف بقدرات الجماهير على الوعي والنهوض والتغيير، لن يمر بسلام على مشاعر الجماهير مهما كانت الشعارات والوعود والافكار، ولعلنا نستفيد من تجربة خاصة بنا وتحديداً من التجربة الديمقراطية الاولى في العراق في العهد الملكي حيث كان في العراق 44حزباً سياسياً، كلها كانت تتدعي الوطنية ونشر الوعي والثقافة، بيد ان لم تكن لتلامس واقع الجماهير، فكانت في وادٍ والجماهير في وادٍ آخر، وهذا بعينه كان السبب في انهيار تلك التجربة والنظام الملكي برمته، وظهور تجربة جديدة واكبتها تلك الجماهير نفسها، رغم كل الدماء والسحل والتلاعب بالمفاهيم وتغيير الموازين والقيم التي رافقتها، وربما يكون هذا ثمن الانفصام والانسلاخ بين جماهير الشعب وبين الشريحة الواعية والمثقفة التي تدّعي تحمل المسؤولية.

اضف تعليق