يقف المراقبون وخبراء الشؤون التركية الذين استطلعت وسائل الإعلام الدولية آراءهم بكثافة، خلال الساعات الثماني والأربعين الفائتة، حائرون عند محاولتهم بناء سيناريوهات المستقبل التركي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة... وتذهب آراء الواحد منهم، في اتجاهات شتى، من دون أن يمتلك الجرأة على ترجيح سيناريو على آخر.

مصدر الحيرة يكمن بالأساس في شخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رجل تركيا القوي، المفعم بالطموحات الشخصية التي لا حدود ولا رادّ لها، سيما وأن الرجل تكشف خلال تجربته في العمل العام، عن شخصية "مركبة"، متعددة الطبقات، فهو المعروف بعناده، المتشبع بالخطاب الإسلامي –المذهبي- السنّي، تلميذ يوسف القرضاوي وقلب الدين حكمتيار ونجم الدين أربكان، الذي أظهر في غير مناسبة، أنه براغماتي من طراز رفيع، قادر على الاستدارة والانحناء وتقديم الاعتذارات وإجراء المصالحات والهبوط عن قمم الشجر المرتفعة، طالما أن ذلك سيساعده على البقاء والنجاة.

حين تتماهى السياسة والمصالح "العليا" بطموحات الفرد الخاصة وتطلعاته المتقلبة، وحتى بأضغاث أحلامه... يصبح التنبؤ والاستشراف، ضرباً من التنجيم ونوعاً من "الرسم على الرمال"... وتصبح المجازفة أكبر من أن يحتملها رأي خبير أو تعليق محلل... وربما لهذا السبب بالذات، رأينا أساتذة من جامعات ومعاهد عالمية كبرى، يتوقعون الشيء ونقيضه فيما خص مستقبل تركيا، يبشرون بتجذر الديمقراطية التركية كدرس مستفاد من تجربة المحاولة الانقلابية، ويحذرون بالقدر ذاته، من مرحلة "تصفية حسابات" و"مركزة السلطة والقرار" في يد رجل واحد، يتجه لأن يصبح "ديكتاتور تركيا وسلطانها من دون منازع".

التحليل المنطقي يقول: إن انتصار الشعب التركي على "العسكر"، وتوحد الأحزاب السياسية التركية دفاعاً عن خيار البلاد الديمقراطي، وانتصار الإعلام والنخب الحديثة لمدنية الدولية في وجه محاولة "عسكرتها"، جميعها عوامل تملي على أردوغان، انتهاج خطاب تصالحي توافقي، فالديمقراطية التي جاءت به إلى السلطة، هي التي أنقذته من حبل مشنقة أعد له بإحكام، في ليلٍ بهيم، وأن تعزيز هذه الديمقراطية والانفتاح على مختلف المكونات والتيارات، وانتهاج خطاب تصالحي – توافقي، هي الضمانة للبقاء والاستمرار، لا بالنسبة لـ "الزعيم" و"الحزب الحاكم" فحسب، بل وبالنسبة لتركيا كدولة وكيان وأمة.

مثل هذا التحليل لـ "الدروس المستفادة"، يسمح بالتنبؤ بأن "الديمقراطية التركية" ستتعزز وتتقوى في قادمات الأيام، وترجح أن يلجأ أردوغان، إلى استحداث تغيير جدي في مقارباته الداخلية والخارجية... أقله من باب الوفاء لمن وقفوا إلى جانب وطنهم في "محنة" الانقلاب الفاشل الذي كاد يطيح بأردوغان وحزبه والتجربة التركية برمتها.

لكن في المقابل، فإن أحلام الزعامة والهيمنة و"السلطنة"، المستوطنة عقل الرجل وجوارحه، تدفع بهؤلاء المراقبين أنفسهم، للاستدراك، بأنهم لا يستبعدون أبداً، أن يتخذ الرئيس التركي من واقعة الانقلاب الفاشل، مناسبة لتصفية الحساب مع خصومه في الداخل، بمن فيهم من هم داخل حزبه الحاكم، وأن يشرع بذريعة الانقلاب، إلى "تطهير" الجيش والقضاء والإعلام والإدارة من كل من "تسوّل" له نفسه الاعتراض على مواقف "السلطان" وسياساته.

المؤشرات الأولية، تدفع على القلق من احتمال أن تسير تركيا في الطريق الخطأ، وأن تتحول المحاولة الانقلابية الفاشلة، إلى مناسبة لتعزيز قبضة "السلطان" على مقاليد السلطة في البلاد، وتسريع الانتقال بتركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، كما يُخشى أيضاً، أن تتحول هذه المحاولة، التي وصفت بالإرهابية، إلى منصة للانقضاض على "إرهاب" من لون آخر، وأعني به الحركة الكردية، وقد كان لافتاً أن أردوغان الذي اتصل بزعيمي حزبي المعارضة (الشعب، والحركة القومية) لشكرهما على موقفهما الرافض للانقلاب، تحاشى الاتصال بزعيم حزب الشعوب الديمقراطية (الكردي) الذي اتخذ موقفاً مماثلاً، وكان من ضمن الأحزاب الأربعة التي وقعت بياناً مشتركاً نددت فيه بالانقلاب، وتلي في أول جلسة عقدها البرلمان التركي بعد صمت المدافع.

الحملة على القضاء، وتسريح 2745 قاضياً دفعة واحدة، ومطاردة عشرات القضاة من المحكمة الدستورية والإدارية العليا والتمييز، بحجة الضلوع في الانقلاب والارتباط بـ "الكيان الموازي"، هي أيضاً مؤشر قلق على الطريق "غير القويم" الذي قد يأخذ أردوغان تركيا إليه... فالقضاة يعتقلون قبل الضباط المتمردين، والأحكام و"التهم الجاهزة" تصدر قبل أن يبدأ التحقيق وقبل أن تخمد الحرائق المشتعلة في انقرة وإسطنبول، لكأننا أمام سلسلة قرارات متخذة مسبقاً، وكانت تنتظر اللحظة المناسبة لإخراجها من الأدراج، وهل ثمة لحظة أفضل من هذه، حيث سيشهر سيف التواطؤ مع الانقلاب والانقلابين وكيانهم الموازي، في وجه أي منتقد أو معترض على سياسات "الزعيم" وإجراءاته؟

على أية حال، ما زال الوقت مبكراً على إصدار التقديرات الجازمة حول الوجهة التي ستسلكها تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، والوقت ما زال مبكراً لرصد مختلف التحولات التي ستطرأ على بنية السلطة والحكم والحزب الحاكم، وعلاقات القوى المختلفة على الساحة التركية، وليس مستبعداً أن يطرأ ما ليس في الحسبان، كأن يواجه أردوغان، من داخل حزبه، تيارات تجبره على انتهاج مقاربات داخلية وخارجية مختلفة، سيما وأن هناك عشرات القيادات التاريخية المؤسسة للحزب وتجربته، المركونة على الرفوف العالية، بعد أن قرر أردوغان، التخلي عن خدماتها وإحالتها إلى التقاعد المبكر... وإلى أن يحصل ذلك، فسنظل نراوح في منزلة وسط بين التفاؤل والتشاؤم بمستقبل تركيا، هي ذات المنزلة التي أسماها طيب الذكر إميل حبيبي بـ "التشاؤل".

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق