المخيال الطائفي الذي تعبِّر عنه وسائل الدعاية العربية التي تمتلك معظمها السلطات الداعمة للإرهاب الفكري والمسلح؛ صنع منذ عدة عقود معادلة غريبة طرفاها الشيعة واليهود، أو التشيع والصهيونية؛ بإعتبارهما العدوان اللدودان للأمة العربية!. وقد تركز الحديث عن هذه المعادلة وتبلورت صناعتها ونسجت حولها الحكايات والأساطير بعد عام 1979؛ أي بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في ايران. ويترشح عن هذه المعادلة تحالف سري تاريخي بين الشيعة واليهود ضد المسلمين السنة!، وتحالف سري معاصر بين الإيرانيين الشيعة والإسرائيليين الصهاينة ضد العرب. وقد أسس الإستراتيجيون العرب الطائفيون معادلتهم هذه على قاعدة أن الإيرانيين هم الذين يقودون شيعة العالم باتجاه التكامل مع المشروع اليهودي الصهيوني، وأن ايران هي التي تحرك الشيعة العرب؛ ولاسيما شيعة العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين؛ باتجاه التكامل مع مشروع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في المنطقة.
كما تحاول وسائل الدعاية العربية ـ ضمن القاعدة نفسها ـ دق إسفين الشقاق بين الشيعة العرب والشيعة الايرانيين؛ عبر ترويج وهم: التشيع العربي والتشيع الفارسي. وآخر ما أعلن عنه أرباب الاعلام والفتوى في المملكة السعودية؛ منهجية رسمية جديدة تتلخص في أن إسرائيل ليست العدو؛ بل أن الشيعة وايران هما العدو الإستراتيجي الأصلي للعرب والمنطقة، ويجب بناء تحالفات عربية اسرائيلية ميدانية لضرب ايران والشيعة في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين؛ بالاستعانة بالجماعات التكفيرية الوهابية المسلحة؛ التي تتقدمها "القاعدة" وأجنحتها؛ وتحديداً تنظيم داعش وجبهة النصرة.
وتمكنت هذه الحملة الدعائية من خلق ظاهرة نفسية ضاغطة على المستويين الإجتماعي والسياسي؛ عنوانها: "شيعة فوبيا" أو " رُهاب الشيعة "، وهو وجه آخر لظاهرة " ايران فوبيا ". وعلى الرغم من أن جذور هذه الظاهرة النفسية الإجتماعية تعود الى عهد الدولة العثمانية؛ إلا أنها تطورت بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وتبلورت كنظرية شبه متكاملة على يد منظري حزب البعث. ثم تحولت بالتدريج الى الصناعة السياسية والإعلامية الأكثر أهمية لنظام آل سعود. حتى أخذ القصف الإعلامي والمالي السعودي الهائل ينجح بالتدريج في تحويل الأنظار عن اسرائيل والصهاينة صوب ايران والشيعة؛ بل وإقناع كثير من الأنظمة العربية والمسلمة، ومعها أساطيل من المثقفين العرب القوميين والإسلاميين ووسائل إعلامهم ومراكزهم البحثية لتبني منهجية كون العدو الحقيقي للعرب هما: ايران والشيعة، ولابد للعرب من التحالف مع اسرائيل لضرب عدوهما المشترك.
صحيح أن هذا المزاعم هي محض منهجيات دعائية تستخف بالعقل العربي، وقد أنتجتها أفكار نظام البعث العراقي والنظام السعودي في ثمانينات القرن الماضي، ولا تزال وسائل الإعلام العربية تلوكها وتعتاش عليها وتطورها وتضيف عليها؛ ولكنها بقيت تؤثر في توجيه العقل العربي. ولهذا فنحن بحاجة الى مقاربة هذا المختلقات بمنهجية واقعية وبتجرد عن الإنتماء المذهبي.
إن من الخطأ المنهجي والواقعي والديني والإنساني أن نضع أي شعب مسلم أو طائفة مسلمة في خانة التحالف مع الصهاينة أو اليهود، أو خانة المتآمرين على المسلمين، ومثال ذلك مايتداوله الخطاب الديني الوهابي من إتهام للشيعة، والخطاب القومي العربي من إتهام للإيرانيين. فالايرانيون شعب مسلم كباقي الشعوب المسلمة، ومثلهم مثل العرب والترك والكرد والهنود؛ لا فرق، ولايمكن إتهام أيا منها بالتحالف مع أعداء الإسلام. ولا فضل للفرس على قومية مسلمة أخرى، ولا فضل لقومية مسلمة اخرى عليهم؛ إلّا بالعمل الصالح وخدمة الأمة. وإذا كان للإيرانيين أفضال على الطوائف المسلمة؛ فإن فضلهم الأكبر هو على أهل السنة؛ لأن السنة العرب يتعبّدون منذ أكثر من ألف ومائتي عام على مذاهب أسسها الإيرانيون؛ وتحديداً الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي، وإن السنة العرب يأخذون دينهم من كتب الحديث (الصحاح الستة) التي دوّنها محدِّثون إيرانيون؛ يتقدّمهم الإمام البخاري، وإن السنة العرب يتبعون طرقاً صوفية أسسها الفرس؛ يتقدّمهم الشيخ عبد القادر الكيلاني.
وليس في هذه الحقائق المذكورة أية منقصة للسنة أو للإيرانيين؛ ولكن نذكرها لنتساءل: أي مسلم سني يرضى لنفسه أن يساوي الإعلام العربي بين اليهود وبين مؤسسي ومفكري ومحدثي المذاهب التي يتعبّد عليها!؟.
ولعل حل هذه المفارقة يكمن في المعادلة الطائفية التي قلبت النظرة الى الفرس؛ فيوم كان الفرس يحكمون البلاط العباسي ويؤسسون المذاهب السنية ويؤلفون كتب الحديث والصحاح السنية؛ فإنهم كانوا بمثابة أساتذة للعرب وأئمتهم وأشقائهم؛ ولكن عندما تحوّل الفرس الى التشيع؛ فإنهم أصبحوا حلفاء لليهود!. وهنا يكمن السر. فالموضوع ليس موضوع الفرس والإيرانيين؛ وإنما هو موضوع الشيعة؛ فالمستهدَف ليس الإيراني أو الفارسي بصفته القومية؛ بل المستهدف هو الشيعي قبل كل معيار آخر.
ولنحوِّل المعادلة باتجاه تركيا التي يعدّها الإسلاميون العرب أنموذجاً يحتذى به في عملية أسلمة الدولة والحكومة، ويعدّها القوميون العرب نصيرتهم في قضاياهم؛ في وقت تحتفظ تركيا بتحالفات استراتيجية معلنة مع الصهاينة واسرائيل واليهود في المجالات العسكرية والأمنية والسياسية والإقتصادية والثقافية والسياحية، وإن مؤسس جمهوريتها؛ الذي ينحني أمامه الساسة الأتراك الحاليين؛ هو يهودي (كمال أتاتورك من يهود الدونمة). ولكن لم نسمع يوماً من الإعلام العربي والحكومات العربية أي إتهام لتركيا وحكومتها بالتحالف مع إسرائيل، ولا أحد يعترض على رئيس جمهورية تركيا ورئيس وزرائها وهم يعانقون بحرارة بالغة المسؤولين الإسرائيليين. لماذا؟! لأن تركيا دولة سنية وحكومتها حكومة سنية. ولكن؛ ماذا لو تحّولت تركيا يوماً ما الى دولة شيعية معادية لإسرائيل والصهيونية؟ حينها سيقوم المخيال الطائفي العربي بتحويل الأتراك تلقائيا الى أعداء للعرب والى حلفاء لليهود والصهاينة؛ وإن أصبحوا أشد المعادين لهم.
إذن؛ هي مفارقة تثير السخرية والغثيان؛ أن نضع عدوين لدودين ضدّين (الشيعة والصهاينة) في خانة واحدة؛ ولا نضع الأغلبية الساحقة من الأنظمة السنية العربية وغير العربية في خانة التحالف مع إسرائيل والصهاينة؛ وهم حلفاء بالفعل.
وهنا لابد أن ينحصر توجيه الإتهام الى الحكومات والأحزاب والفرق بالتحالف مع الكيان الإسرائيلي؛ كما هو الحال في طبيعة علاقات الحكومات التركية والسعودية والقطرية مع الكيان الإسرائيلي، وكذا الحال بالنسبة للفرقتين الوهابية والقاديانية وغيرهما. أما إتهام الشعب التركي أو شعب الجزيرة العربية أو المذهب السني الحنبلي بالتحالف مع اليهود والكيان الإسرائيلي فهو خطأ منهجي أساس؛ قبل أن يكون مادة للتكذيب والتصديق.
إن الشيعة اليوم هم عماد جبهة الممانعة والمقاومة في كل مكان في العالم. وهذه الجبهة باتت تجثم بثقل كبير على صدور ساسة الأنظمة وطموحاتهم وانتماءاتهم للمعسكر المعادي للعروبة والإسلام وفلسطين. حتى باتت معظم الأنظمة العربية وإعلامها وكثير من الأحزاب الإسلامية والقومية العربية؛ تتمنى وتدعو لو أن أمريكا وإسرائيل تطلقان كل قنابلهما النووية لإحراق العراق وايران ولبنان وسوريا؛ ليتخلصوا من الشيعة ومن مارد المقاومة الذي يشعرون أنه فضحهم وفضح تحالفاتهم، وبات يقض مضاجعهم أكثر مما يقض مضاجع الصهاينة والأمريكان، وهو ما كشفته وثائق ويكيليكس بكثير من التفصيل.
ونتساءل هنا مع أي مواطن عربي سني؛ قومي أو إسلامي أو ليبرالي؛ تساؤلاً منطقيا، ونطالب بإجابة منطقية علمية، وليس إجابة سياسية متسرعة تحمل أحكاماً جاهزة: لو ألغينا شيعة لبنان وشيعة العراق وشيعة ايران وشيعة سوريا وشيعة اليمن من خارطة جبهة المقاومة ضد الصهيونية ومشروع الهيمنة الأمريكية، فمن سيبقى في ساحة المقاومة؟
بطبيعة الحال سيكون المشهد مثيراً للرعب ودافعاً للإستسلام للمشروع الصهيو ـ أمريكي. ولكي نوفر على بعض الطائفيين الإنتقائيين الذين ربما احتجوا بفلان الشيعي المنحرف وفلان المتآمر وعلان الطائفي، أو أخطاء هنا وهناك لبعض الشيعة؛ فأنا لا أقصد في كلامي عن المقاومة بأن الشيعة كلهم، لأن لكل قاعدة شواذ؛ بل أقصد معظم الشيعة، أو بمعنى أدق توجههم العام وخطهم الطاغي الذي تمثله مرجعياتهم الدينية وأنظمتهم وأحزابهم الأساسية.
وإذا أراد بعض العقلاء الذين يستغربون الكلام، ويحتجون بوجود حركات سنية مقاومة ميدانية حقيقية؛ كحماس والجهاد الفلسطينيتين مثلا؛ فأقول بكل شفافية ووضوح: إن الشيعة في لبنان وإيران هم الذين يدعمون هذه الحركات.. ولا أزيد. ولو قرأ العقلاء المشهد السياسي الإسلامي والعربي منذ ثلاثة عقود وحتى الآن بواقعية وتجرد؛ لتوصلوا الى هذه الحقيقة.. حقيقة إن الشيعة هم جبهة المقاومة والممانعة ضد المشروع الأمريكي والمشروع الصهيوني.
إن كل قادة الفتنة الطائفية وجيش التحشيد الطائفي ودعاة الحقد والكراهية ضد الشيعة؛ بدءاً بالأنظمة الطائفية وإعلامها؛ وإنتهاء بالجماعات التكفيرية المسلحة؛ هدفهم ضرب جبهة المقاومة الإسلامية والعربية ضد المشروع الصهيو ـ أمريكي؛ لأن الشيعة وحلفاءهم السنة هم روح جبهة المقاومة وقادتها ومادتها ومصدرها المالي والتسليحي. وبمراجعة سريعة لما تنشره وتبثه وسائل الإعلام العربية، لتصريحات ساسة الأنظمة الطائفية ومشايخهم، ولفاعلية مليارات المال السياسي الخليجي، ولمراسلات السفارات الأمريكية في المنطقة وتحليلات مسؤولي الأمن القومي والدفاع والمخابرات والخارجية الأمريكية؛ سيرى العقلاء هذه الحقيقة بالعين المجردة؛ وهي أن الشيعة هم المقاومة والممانعة ضد المشروع الصهيو ـ أمريكي في المنطقة العربية والإسلامية، وإن ذنبهم العظيم الذي يستحقون عليه عقوبة الحظر والحصار والعزلة والمقاطعة والتآمر والقتل والدمار الشامل والضرب المتواصل بكل أنواع الأسلحة السياسية والجاسوسية والثقافية والإعلامية والإقتصادية؛ يتلخص في رفضهم القاطع الإستسلام لمشروع الهيمنة الأمريكية والوجود الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية.
ولكن؛ لو قدّم الشيعة فروض الولاء والطاعة للمشروع الأمريكي وتحوّلوا بالفعل الى حلفاء للكيان الإسرائيلي؛ لإنقلبت أوضاعهم السياسية والإقتصادية والأمنية، ولإنفردوا؛ كأفراد ومؤسسات وأحزاب وحكومات؛ في الهيمنة على المنطقة بكل مقدّراتها و تفاصيلها. ولكنهم؛ حينها؛ سيفقدون الخصيصة الأبرز التي توارثوها من نبيهم و أئمتهم وأسلافهم؛ وظلت منذ وفاة رسول الله (ص) تميزهم عقائدياً وفقهياً وسياسياً؛ وهي خصيصة (الرفض) لكل أشكال ومضامين الإستكبار والظلم والفساد والإستسلام.
اضف تعليق