بتدخلها العسكري في سوريا، المصحوب بـ “عواصف السوخوي”، نجحت القيادة الروسية لبعض الوقت، في تقديم صورة عن نفسها، مقرونة بالحسم والعزم، مقابل صورة الزعامة المترددة والضعيفة التي رافقت إدارة الرئيس أوباما منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وبالأخص، منذ انفجار الأزمة السورية عسكرياً، قبل خمس سنوات... في الأسابيع الأولى للتدخل العسكري الروسي، خاض الجيش السوري وحلفاؤه، معارك واسعة على جبهات عدة، وسجل اختراقات على أكثر من محور، وبدا أن موازين القوى قد انقلبت رأساً على عقب.
لكن هذا النجاح ظل تكتيكياً، ولبعض الوقت فقط... بعدها دخلت روسيا في “تسويات” و”تفاهمات” مع واشنطن، جعلت من يدها مغلولة إلى صدرها، سحبت قوتها العسكرية الضاربة، وأبقت على ما يكفي لتقديم دعم وإسناد لحلفائها في معارك ذات طبيعة تكتيكية، وليست في مواجهات كبرى، من طبيعة استراتيجية... منذ شباط / فبراير الماضي، لم يسجل الجيش السوري اختراقاً أبعد من تحرير تدمر من قبضة “داعش”، وبضوء أخضر وترحيب أمريكيين، باعتبار أن استرجاع تدمر، يلحق ضربة قوية بالتنظيم الإرهابي، الذي سيطر على المدينة وجوارها، منفرداً، وحده، دون سواه، من فصائل المعارضات المسلحة.
في المقابل، سجلت هذه الفترة انتقال واشنطن في حروبها المتنقلة ضد “داعش” من المراوحة والتردد، إلى المبادرة والمبادأة، وعلى الساحتين السورية والعراق بصورة متزامنة ومتوازية... دعمت الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي والعشائري بغطاء جوي كثيف في معارك الفلوجة وجوارها... ودعمت وحدات الحماية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، لاجتياز الفرات غرباً، بالضد من الخطوط التركية الحمراء، وصولاً إلى منبج التي يبدو أنها على وشك السقوط كاملة في يد الأكراد المنشغلين في ترتيب أمر “إقليمهم” السوري، كما تفيد المصادر.
لم يحدث أي اختراق من جانب “الحلف” السوري – الروسي – الإيراني على الجبهات الأكثر أهمية واستراتيجية، إدلب ما زالت في قبضة “النصرة” وهي مرشحة لأن تكون عاصمة “إمارتها” إن ظل الحال على هذا المنوال... جبهات حلب وأريافها، تتحول إلى مقابر جماعية للجنود السوريين ومقاتلي حزب الله والحرس الجمهوري، من دون أي اختراق نوعي يذكر، سوى إلحاق خسائر بشرية ومادية بالمسلحين في هذا المناطق... القتال يتحول إلى اشتباكات يومية على “خطوط تماس” ثابتة، كما هو شأن مدن الحرب الأهلية في تجارب أخرى عديدة سابقة، حتى أن روسيا تقترح اليوم، هدنة طويلة الأجل، تكرس خطوط التماس هذا، وتثبت “الستاتيكو” في المنطقة على حاله، بانتظار أن يؤول مسار فيينا - جنيف، إلى حل سياسي للأزمة الأم.
والواضح تماماً، وفقاً لما تتكشف عنه وقائع الميدان والاتصالات الدبلوماسية، أن أسباب المراوحة الروسية في سوريا، سياسية بامتياز، واهمها على الإطلاق، حرص موسكو على عدم دفع تناقضاتها مع واشنطن نحو الانفجار، على الرغم من أن الأخيرة، لم تحترم التزاماتها بفرز غث المعارضة عن سمينها، وتصنيف الفصائل المسلحة، وترددها في ضرب جبهة النصرة، أسوة بما تفعله مع “داعش”... لكن يبدو أن ذلك كله، لم يشكل بعد، سبباً كافياً لدى موسكو لتقوم بدورها بأفعال أحادية الجانب، كما هددت وتوعدت مراراً وتكراراً، خصوصاً بعد انتهاء “المهل الزمنية” المتكررة التي منحتها روسيا لواشنطن وحلفائها من المعارضات المسلحة.
الأسابيع القليلة الفائتة، شهدت اشتداداً في وتيرة “حرب الاتهامات المتبادلة” بين العاصمتين الكبريين... واشنطن تتهم موسكو بضرب المعارضة المحسوبة عليها، وموسكو تتحسب فعلياً لـ“فخ” أمريكي شديد الإحكام، ينصب لها ولحلفائها، في مناطق إدلب وأرياف حلب، حيث يدور الحديث هنا عن حشود وتدريبات وتسليح نوعي، توطئة لكسب السباق مع قوات النظام لاستعادة مناطق يسيطر عليها “داعش” من جهة، وللاستدارة لمحاربة قوات النظام وحلفائه في مرحلة لاحقة حال تعذر نجاح العملية السياسية من جهة ثانية.
ربما لهذا السبب بالذات، حرصت موسكو على توجيه رسائل قوية لواشنطن والغرب عموماً... من قمة وزراء دفاع كل من روسيا وإيران وسوريا في طهران، إلى زيارة وزير الدفاع الروسي إلى سوريا لأول مرة منذ التدخل العسكري الروسي مطلع أكتوبر من العام الفائت... ليبقى السؤال حول ما إذا كانت روسيا بصدد الانتقال من جديد لسيناريو “عاصفة السوخوي” أم أن الأمر لا يزيد عن استعراض عضلات وتلويح بخيار القوة؟
اضف تعليق