كثيرون لا يرون من الصراع بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل إلا الوجه العسكري والاستيطاني والسياسي المُعلن، وهو الوجه الأكثر خطورة وبشاعة بل شك، لكن هناك وجه آخر للصراع له معاركه التي لا تقل خطورة وشراسة عن المعارك العسكرية، حرب تعتمد استراتيجية الإلهاء التي تسعى للتأثير في المنظومة القيمية والأخلاقية للشعب وضرب اللحمة الوطنية والتشكيك بتاريخه وهويته الوطنية، وبكل ما هو جيد وإيجابي من أفعال يقوم بها أشخاص أو مؤسسات وأحزاب، ودفع أفراد الشعب للاهتمام بمصالحهم الشخصية والبحث عن لقمة العيش على حساب المصلحة الوطنية، وتسبيق أمنهم الشخصي على أمن الوطن.
غالبا ما تكون ادوات استراتيجية الإلهاء داخلية حتى وإن كانت موجَهة من الخارج، وأدواتها: عناصر فاشلة وفاسدة من النخبة السياسية، مؤسسات مجتمع مدني مشبوهة تنفذ اجندة خارجية، نخب اقتصادية ورجال أعمال فاسدون، إعلاميون وكَتَبة (مثقفون) يقومون بوعي منهم أو بدون وعي بكي وعي الشعب ونشر حالة من اليأس والإحباط والتشكيك بكل شيء، مسئولون على رأس مؤسسات مؤثرة كالجامعات والمؤسسات الإعلامية الكبرى الخ.
القائمون على استراتيجية الإلهاء يستلهمون تجارب التاريخ التي تؤكد بأن ( القلاع الحصينة تسقط من داخلها)، ولأن إسرائيل بكل تحالفاتها وعلى مدى مائة سنة لم تستطع أن تُركِع الشعب الفلسطيني أو تحسم الصراع لصالحها فإنها اشتعلت على تدمير المجتمع الفلسطيني من الداخل، فاستدرجت لمخططاتها شخصيات وقيادات في مراكز القرار، بوعي من هؤلاء أو بدون وعي، ليخربوا المجتمع من الداخل، تخريب المؤسسات والتنظيمات الرسمية والحزبية، تخريب الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني، تخريب وتشويه الثقافة والمثقفين، بالإضافة إلى ذلك إدخال مفاوضات التسوية وحوارات المصالحة في آتون استراتيجية الإلهاء لتصبح مجرد مفاوضات عبثية لتضييع وقت تستفيد منه إسرائيل لاستكمال مخططاتها التوسعية، وحوارات مصالحة عبثية أيضا لتضييع الوقت لتكريس الأمر الواقع وخلق حالة من التكيف مع الانقسام.
استراتيجية الإلهاء لا تحتاج إلى عدة وعتاد عسكري (القوة الخشنة) ولا يُصاحبها صخب، بل تعمل بهدوء وخبث (القوة الناعمة). إن كانت النخب الفاسدة أهم ادوات استراتيجية الإلهاء، فإن المثقفين المستقلين برأيهم والوطنيون الشرفاء بما يملكون من صدق الكلمة والجرأة في القول هم المؤهلون لكشف هذه الاستراتيجية ومواجهة مخططاتها.
الوطنيون أصحاب الرأي الحر والمثقفين والأكاديميين هم جنود معركة الحفاظ على الثقافة والهوية والقيم الوطنية ومواجهة أفاعيل أدوات استراتيجية الإلهاء. هذا يُلقي على عاتقهم مسؤولية لا تقل عن مسؤولية القيادات السياسية والعسكرية الوطنية وكل منهم يُكمل الآخر، الأمر الذي يتطلب أن يتفهم كل طرف ما يقوم به الطرف الثاني.
حتى يقوم المثقفون والأكاديميون وكل وطني حر بهذه المهمة النضالية عليهم أن يتساموا على كل ما يَصدر عن صغار وضعتهم الصدفة أو الفساد في موقع المسؤولية، حتى وإن مُست تصرفات الصغار مصالحهم، وسيكون الصغار واهمين إن اعتقدوا أنهم بتطاولهم على الكبار يصبحوا كبارا أو يمكنهم أن يُخرجوا المثقف الملتزم بقضية وطنية عن واجبه الوطني وينساق لمهاتراتهم وصغائرهم، أو يصبح مثلهم.
الصبر إلى حين دون التخلي عن الحق ومحاسبة الفاسدين في الوقت المناسب، ومعالجة المشاكل بالتي هي أحسن، والحفاظ على شعرة معاوية من خلال عدم اللجوء للتكفير والتخوين، وعدم الإنجرار وراء مهاترات البعض ممن تسللوا لمواقع المسؤولية بدعم خارجي أو وضعتهم المصادفة في موقع المسؤولية مستغلين حالة الانقسام وضعف الحكومة وترهل منظمة التحرير وحركة فتح، وغياب المرجعية الوطنية الواحدة... كل ذلك لا يُعتبر ضعفا، ولكنها حكمة يتميز بها الوطنيون الحقيقيون الحريصون على مصلحة الوطن والمدركون لما يُحاك من مخططات لتصفية القضية الوطنية.
الدور الذي يقوم به المكلفون بإستراتيجية الإلهاء (الطابور الخامس) في تخريب الوطن لا يقل عن دور إسرائيل، وما بين الطرفين تنسيق وتبادل خدمات وتسهيل مصالح. وبديهي أنه لا يمكن للفلسطينيين أن ينتصروا على إسرائيل في ظل مؤسسات عاجزة وفاشلة ونظام سياسي مفكك ونخب سياسية فاسدة.
الخطورة في الأمر، إن هؤلاء المخربين والفاسدين لهم دالتهم عند الرئيس من خلال بعض المستشارين أو المقربين للرئيس بحيث يروجون للرئيس أكاذيب وتلفيقات حول من ينتقدهم ويكشف فسادهم زاعمين إن هؤلاء أعداء للرئيس وللمنظمة ولحركة فتح، بينما الحقيقة أنهم ضد الفساد والفاسدين أينما كان وكانوا.
إن ما يسيء للرئيس ولمنظمة التحرير ولحركة فتح وللشعب الفلسطيني بشكل عام هم أولئك الفاسدون، لأن الشعب يُحمِّل مسؤولية الفساد والخراب للرئيس الذي عيَّن هؤلاء أو يسكت عن ممارساتهم، وهنا نلاحظ كيف أن شعبية الرئيس تتراجع بينما يزداد الفاسدون والانتهازيون قوة وثروة، بل إن بعضهم يستغل حالة ضعف النظام السياسي وانشغال الرئيس بالأمور الاستراتيجية والدبلوماسية ليتسللوا عبر الانتخابات أو التعيينات لمراكز قيادية عليا، في اللجنة التنفيذية للمنظمة أو اللجنة المركزية لحركة فتح الخ، وفي سعيهم المحموم لذلك لا يتورعون عن تخريب حركة فتح وتخريب المؤسسات التي يقودونها، كما لا يتورعون عن الاستنجاد بأطراف خارجية.
لأن الشعب الفلسطيني ذكي ولماح وصبور فإنه يتفهم، في ظل الاختلال الهائل في موازين القوى مع العدو وفي ظل ما يشهده العالم العربي من حولنا، عدم قدرة القيادة على تحقيق آمال الشعب ومطالبه الأساسية بالحرية والاستقلال، ويجد عذرا إن عجزت القيادة عن توفير متطلبات الحياة الكريمة. لكن الشعب لن يصبر على حالة التيه والفوضى والعجز عن وضع استراتيجية للحفاظ على الذات الوطنية كأضعف الإيمان، استراتيجية تواجه استراتيجية الإلهاء التي تعزل الشعب عن قضيته الرئيسية وتغرقه في متاهات الحياة اليومية، وتتركه نهبا للفاسدين وأصحاب الاجندات الخارجية.
اضف تعليق