لم تكد المدفعية التركية تطلق عشرين قذيفة صوب مواقع وحدات الحماية الشعبية الكردية في بلدة "اعزاز" و"مطار منّغ العسكري"، حتى كان نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، يجري اتصالاته الهاتفية مع أحمد داود أوغلو يطلب إليه وقف هذا القصف الذي يستهدف قوات الكرد وقوات النظام على حد سواء... وحتى كان الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية يطالب أنقرة علناً بالتوقف عن قصف أهداف في سوريا، لتتبعه بعد ذلك – كالعادة – تصريحات فرنسية مماثلة.
صحيح أن واشنطن طلبت إلى الأكراد "عدم استغلال الظروف الراهنة" للتوسع والاستيلاء على المزيد من الأراضي، لكن الصحيح كذلك أن رسالة واشنطن، ومن خلفها المجتمع الدولي، رسمت سقوفاً وحدوداً لما يمكن لأنقرة أن تقوم به في مواجهة الاختراقات التي يحققها الجيش السوري من جهة و"قوات سوريا الديمقراطية" من جهة ثانية، في شمالي سوريا... لقد قرعت أنقرة الباب السوري بالنيران، وجاءها الجواب من باريس وواشنطن: توقفوا؟!
ردة الفعل الأمريكية – الغربية على "الكردفوبيا التركية" تبدو مفهومة تماماً، فواشنطن أكثر من باريس، وضعت محاربة داعش في صدارة أولياتها، وأرجأت إلى حين، مختلف الأجندات التي يقدمها حلفاؤها على "أولوية الحرب على الإرهاب".... ثم أن قوات الحماية وقوات سوريا الديمقراطية، هي حليف موثوق ومجرب للولايات المتحدة، ولكل من الغرب والشرق على حد سواء، فيما تركيا، ما فتئت تتلقى الانتقادات، ومن الشرق والغرب كذلك، لأنها وضعت الحرب على داعش في أدنى سلم أولوياتها، بل وقدمت لهذا التنظيم الإرهابي، مختلف صنوف التسهيلات من حرية الحركة لعناصره و"مجاهديه" إلى التمويل غير المباشر، من خلال الاتجار معه، بالنفط المسروق والآثار المستباحة في كل من سوريا والعراق.
يحيلنا ذلك إلى "حكاية القوات البرية التي يجري تداولها بكثافة هذه الأيام، تارة من قبيل تسجيل المواقف والبحث عن مكتسبات سياسية، وأخرى من زاوية "التهويل" و"اثبات الحضور" و"البرهنة على الحزم والعزم"، وثالثة من باب التعويض اللفظي عن الضربات المؤلمة التي لحقت بجيوش المعارضات في شمال سوريا... فقد بدأت الحكاية بالتبشير بنقل 150 ألف جندي إلى سوريا تحت زعم محاربة داعش، يمثلون 34 دولة منضوية في إطار التحالف العسكري السني، لتنتهي إلى وحدات دعم لوجستي بعيدة عن المواقع القتالية، أو وحدات من القوات الخاصة، ومن دولتين أو ثلاث دول، في أبعد تقدير، أقله حتى الآن.
والأهم من هذا وذاك، أن مجمل "حكاية" القوات البرية، وبعد أن جرى إبرازها بوصفها تجسيداً لقرار عربي – إسلامي مستقل، باتت اليوم، رهناً بقيادة أمريكية، ورهينة لقرار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة... فهي التي ستقرر إن كانت بحاجة لهذه القوات، وهي التي ستقرر حجمها وساحات انتشارها وتوقيت إرسالها... وبهذا المعنى، تكون "الحكاية" قد بدأت كصحوة عربية، تعبّر عن "الحزم" و"العزم"، لتنتهي كمشروع ملحق بواشنطن ومشروط بقرارها.
ولأن واشنطن هي صاحبة القول الفصل، كما يتضح من المسؤولين في الدول صاحبة "الحق الحصري" في تشكيل هذه القوات وتدريبها وتسليحها وتمويلها، وتقرير حجمها وساحات انتشارها وموعده، فإن من المنطقي أن تتجه الأنظار صوب واشنطن، للتعرف عن كثب على مستقبل الحرب على داعش، وأشكالها وتوقيتاتها والقوى المنخرطة فيها.... واشنطن التي رحبت بالاستعداد العربي – الإسلامي لزيادة المشاركة في الحرب على داعش، ما زالت أعينها شاخصة صوب الكرملين، بحثاً عن فرص التوافق والالتقاء على قواسم ومشتركات تجمع البلدين العظميين، سواء في ميادين الحرب على الإرهاب، أو على موائد المفاوضات والحل السياسي للأزمة السورية.
والمؤكد أن إرسال قوات برية، عمادها الأساس، السعودية وتركيا، سوف يخلق لواشنطن من المتاعب أكثر مما سيجلب لها من المساعدة.... فهي تعلم أن أي دخول تركي إلى العمق السوري، سيكون لمحاربة حلفائها أولاً: الأكراد... وهي تعلم أن دخول السعودية على خط الحرب البرية في سوريا، سيجلب إليها "ألوف المجاهدين" من المليشيات الشيعية، وسيجعل المواجهة المباشرة، السعودية الإيرانية، أمراً شديد الاحتمال، في وقت لا تريد فيه واشنطن أن تفقد جندياً واحداً، لا في الحرب على إيران ولا دفاعاً عن السعودية.
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة، لا تمانع في الحصول على المزيد من المال والسلاح والتدريب السعودي – العربي وحتى التركي، لإيصاله إلى من تسميهم بـ "المعارضة المعتدلة" على الأرض السورية، كما أنها لن تمانع في قيام "الإف 16" بقصف مواقع لداعش، حتى وإن حملت على ظهرها العلم السعودي بدل العلم الأمريكي... وربما تدخل ذلك كله في باب "ضبط نفقات الحرب" المكلفة، لا أكثر ولا أقل.
يبدو أن "حكاية" القوات البرية، قد فقدت بريقها قبل أن يتم تشكيلها وتجميعها، تماماً مثلما حصل مع التحالف العسكري الإسلامي، والذي انفرط عقده قبل أن يلتئم، حين أعلنت كثرة من أعضائه، بأنها لم تعلم عنه، أو لم تستشر به، والأهم، أنها لم تقرر المشاركة فيه، أقله ميدانياً وقتالياً.
اضف تعليق