q

يتفق الكثير – إن لم نقل الجميع- في الساحة الثقافية على أن المثقف يمثل ضمير الناس وما تكن صدورهم من هموم ومشاعر وطموحات، لذا نلاحظ النتاجات الثقافية من كتاب او قصة او قصيدة أو خطابة وحتى النتاجات الفنية من رسم وخط ونحت وتمثيل وغيرها، تجد لها اصداءً سريعة في شريحة واسعة من المجتمع، ربما ليس فقط لدى المتابع والقارئ، إنما عامة الناس من الطبقة الواعية نسبياً، من الحرفيين والكسبة والعمال والمزارعين وغيرهم، في المقابل نجد اصحاب النتاجات الثقافية في حرص دائم لأن يحجزوا لهم مكانات خاصة في قلوب الجماهير. والسبب في هذه العلاقة – من بين اسباب عديدة- شعور جمهور الثقافة – من حيث المبدأ- أن المثقف إنما منبعث من أوساطهم، يتحسس معاناتهم ويحمل همومهم وطموحاتهم. وكلما تعمّق هذا الشعور، كلما تعمّقت الثقة في هذه العلاقة، وكان للثقافة بصماتها الواضحة على واقع الناس، ليس فقط ثقافياً في سلوكهم وتصرفاتهم وافكارهم، وإنما ايضاً؛ اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً.

وعندما يؤكد علماؤنا على كون الثقافة الموجه والدافع في حياة الانسان، باتجاه الخير أو باتجاه الشر، كما أنها ذات شأن في نهضة الشعوب والأمم، بمعنى أننا امام دور حضاري ينبغي أن يكون فيه المثقف، مثل عامل بين عمال بناء يضعون اللبنات فوق بعض ليخرجون بتشييد بناء رصين وجميل.

وهذا ما نجده في بلاد الغرب، حيث نجد العلاقة بين الروائيين والمسرحيين والنحاتين والرسامين وبين المتلقي هناك، علاقة لا يمكن مقارنتها بأي شكل من الاشكال، بالعلاقة القائمة بين المجتمع ومؤسسات الدولة، ومنها الحكومة، فهم بمنزلة القدوات التي يحتذى بها، كما يجد المثقفون في الجماهير منطلقهم نحو التأثير على المجتمع والدولة معاً، ولعل وجود شعراء وكتاب مسرحيين نيتشه "الالماني" وسارتر "الفرنسي" وغيرهم كثير، تحولوا الى مفكرين وفلاسفة ينظرون لنمط جديد من الحياة للانسان الغربي، بل والانسان في كل مكان، كما حصل الانتشار الواسع لافكارهم في البلاد الاسلامية.

بينما هذا ما نفتقده في بلادنا الاسلامية، علماً أن المفترض ان تكون هذه العلاقة المنشودة اكثر تجلياً في البلاد التي تتراكم عليها أزمات الوعي والحقوق الاساسية والقيم، بسبب عوامل عدّة منها مخلفات الاستعمار الثقافي، والانظمة الديكتاتورية. بل العكس، شهدنا هرولة البعض نحو أبواب السلطة ودوائر الحكم. والسبب يتفرع الى اتجاهين:

الاول: جهة الارتزاق والوصولية، فكان المديح والتلميع والتزييف وتضليل الجماهير.

الثاني: الطموح نحو السلطة او على الأقل الحصول على كعكة الحكم مع الآخرين.

واذا كان ثمة بلد بحاجة الى تجنب هذا المآل اكثر من غيره، فهو العراق، الذي يعيش أزمات متشابكة، بين الخدمات والأمن والحكم، فعندما تمت الاطاحة بنظام صدام، تم الاطاحة ايضاً بمنظومة متكاملة من الثقافة الصدامية – إن صحّ التعبير- فكان اللازم استبدالها بثقافة جديدة تحمل معها رؤية نحو آفاق المستقبل، لانه يقدم على تجارب جديدة لم يعهدها في تاريخه، مثل "الديمقراطية" في السياسة، واقتصاد السوق في الاقتصاد والانفتاح الثقافي على العالم في ظل تقنية وسائل الاتصال المتطورة باستمرار.

كل هذا؛ بحاجة الى أطر ثقافية تعرّف الديمقراطية كما تعرّف الديكتاتورية، وتبلور مفاهيم وقيم مثل الحرية والحقوق والواجبات والمواطنة وغيرها. بينما الذي حصل خلال السنوات الماضية، وضع أطر تعرف حقوق الاحزاب السياسية والتيارات الثقافية على المجتمع وعلى الدولة...! وهذا ما يفسّر سبب الاصطدام السريع بين الفعاليات الثقافية وبين الحكم، حتى وإن كانت الفعالية مهرجاناً خاصاً بالطفولة – مثلاً- او أي مناسبة أخرى. ولعل المثال الآخر والحيّ امامنا بعض التظاهرات التي نظمت في المحافظات العراقية والتي حملت شعارات تعبّر عن الهم العام، تطالب بالإصلاح ومحاسبة الفاسدين، فانزلقت في القنوات الحزبية والفئوية، في حين كان يمكن استثمارها لتوجيه رسالة ثقافية متكاملة الى مؤسسات الدولة بأن الشعب العراقي يريد بكل ثقة تغييراً شاملاً بناءً على قناعة موحدة بأن الذي يجري لا ينسجم مع ثقافته وهويته وطموحاته بالمرة. لكن النتيجة كانت تراجع الحضور في الشارع وتحوّل التظاهرات الجماهيرية الى وقفات احتجاج.

إن وجود المثقف وثقافته في القلوب، بحاجة الى عطاء وتضحيات، وقد شهد العراق قامات شاهقة في الفكر والثقافة، مثل المفكر الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر، والمفكر الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي، ومن قبلهما المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – رضوان الله عليهم- الذي كرّس جلّ حياته لرفد الساحة الثقافية بما جاد يراعه من الاضاءات للجماهير المسلمة بشكل عام، والجماهير العراقية بشكل خاص.

والعطاء الذي نتحدث عنه، ليس في التأليف والتنظير والحثّ على المطالعة، وحسب، وإنما في إقامة مختلف الفعاليات الجماهيرية ذات البعد الاجتماعي، مثل الحثّ على التكافل ومساعدة المحتاجين والتشجيع على الزواج وإقامة المهرجانات الخطابية ومجالس الذكر لتعريف الناس بتاريخهم وايضاً بحاضرهم وما يمتلكونه من قدرات على التغيير نحو الاحسن. كل هذا كان بحاجة الى جهود وامكانات مالية لم تكن هنالك حكومة او جهة خاصة ممولة، إنما كان الاعتماد الكلّي على التمويل الذاتي من خلال التبرعات من الميسورين في المجتمع.

اضف تعليق