مر الشرق الأوسط بفترات عصيبة، وما زال يعاني منها راهنا، وربما في المستقبل أيضا، السبب في ذلك لانعدام الثقة المطلق بين دول إقليمية مارست صراع متعدد الأوجه من اجل كسب معركة في حرب خسرت فيها جميع الأطراف أكثر مما ربحته خلال الأعوام الماضية، فيما كان رصيد الأرباح ينحصر في التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة التي تصدر قائمتها تنظيم داعش والجماعات المسلحة التي انطوت تحت قيادتها.
بعد احداث الربيع العربي عام 2011 لم تستطع معظم دول العالم العربي تحديدا والشرق الأوسط عموما، تحديد رؤية مشتركة لكيفية التعامل مع هذه الاحتجاجات الشعبية المطالبة بتحقيق إصلاحات حقيقية في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والحقوقي لبلدانها، بل لم تتوصل الى طريقة مقنعة للتفاعل مع الحدث او لإدارة واحتواء الغضب الجماهيري الذي امتد بين اسيا وافريقيا، وبدلا من ذلك استخدمت بعض الدول القمع وأخرى الترغيب وثالثة الوعود، فيما ترك البعض منها لتواجه مصيرا مجهولا كما جرى الامر مع ليبيا وسوريا واليمن، وحينها كان من السهل ان تملأ التنظيمات الإرهابية الفراغ الذي خلفته الفوضى.
ما حدث لاحقا، ولد المزيد من الدمار بعد ان تحولت الفوضى الى "حروب بالوكالة" بين ذات الدول الإقليمية التي استشعرت خطر خسارتها لمصالحها لصالح خصومها الإقليميين، ففي سوريا على سبيل المثال، كانت موازين الصراع تتأرجح بين عدة جهات تقتتل فيما بينها من دون حسم للمواقف، بينما كان الخاسر الوحيد هو الشعب السوري الذي خسر على مدى خمس سنوات أكثر من 250 ألف انسان، فضلا عن ملايين المشردين.
سلاح الطائفية استخدم بشكل فعال في منطقة الشرق الأوسط أيضا، وسرعان ما انتشر كالوباء عابر للحدود والجغرافيا، بعد ان فرق بين أبناء الوطن الواحد، مثلما فرق بين المنتمين الى ذات الديانة، والنتيجة حروب أهلية دامية، نال العراق حصة مؤلمة منها (2006-2008)، مثلما نالت باقي الدول حصة متباينة النسب منها... ومرة أخرى كان المستفيد الأول التنظيمات المتطرفة التي اعتمد في عقيدتها على "تكفير" الاخر ممن لا يعتنق فكرها وأيديولوجيتها وان كان على نفس مذهبها.
الصراع الناجم عن انعدام الثقة بين الأطراف الإقليمية المتصارعة في الشرق الأوسط، لم يتوقف عند هذا الحد او السلاح، بل استخدم جميع الوسائل المتاحة، ومنها العامل الاقتصادي، خصوصا سلاح "النفط"، بعد ان اغرقت الأسواق بالنفط الخام وسط تخمة المعروض ورفض تخفيض الإنتاج، لتهبط أسعار النفط الى أرقام مخيفة اقتربت من كلفة انتاج النفط في بعض البلدان، والغريب ان اقتصاديات معظم البلدان التي تلاعبت بأسعار النفط تعتمد بدرجة كبيرة على هذه السلعة لتدعيم موازناتها الاقتصادية، لكنها ما زالت مصرة على الحاق اكبر ضرر بخصومها وان أدت هذه السياسية الى انهيار الاقتصاد العالمي الذي حذر منه العديد من خبراء الاقتصاد.
المواجهة العسكرية المباشرة، ربما كانت السلاح الوحيد الذي لم تستخدمه تلك الدول، واغلب الظن انها لن تستخدمه في المستقبل القريب ما دامت هناك مساحات أخرى يمكن اللعب عليها بصورة غير مباشرة، لكن هذا لم يمنع المواجهة السياسية والدبلوماسية المباشرة فيما بينها، إضافة الى تبادل الاتهامات بدعم الإرهاب او عرقلة الجهود الرامية الى حل سلمي لملفات الشرق الأوسط الساخنة، وغيرها من المناوشات شبه اليومية.
ومادام الحال على هذا المنوال التقليدي في التعاطي مع هذه الازمات الخطيرة، فلن يكون هناك أي امل في بناء او ترميم الثقة المفقودة بين هذه الأطراف، كما لا يمكن التعويل على تحقيق أي تقدم في الملفات الساخنة المطروحة للنقاش على طاولة "الأمم المتحدة" او القوى الكبرى في العالم، والاجدر ان يسبق أي حل لقضايا الإرهاب او الحروب في المنطقة، نقاش لحل خلافات الدول الإقليمية المتصارعة.
اضف تعليق