لم افهم ما كان يعنيه بتلك الجملة، رغم وضوحها الشديد.. اعرف انه يعني اننا العراقيين "جميعنا" نموت على صدام، لكن هذا المعنى المباشر ليس هو المقصود بهذه الجملة وهو يرددها على اسماعنا أكثر من مرة.
كان ذلك في احدى سيطرات التفتيش قبل الدخول الى منطقة مهمة في بغداد "ليس بالضرورة ان تكون تجمعا للسياسيين"، وكنا نعتقد ان حظنا قد قفز الى السماء عاليا، حيث الازدحام ليس كما عهده سائق السيارة التي كنا نستقلها، كان ازدحاما خفيفا كما يعتقد السائق، لكني كنت اراه على العكس من ذلك، وانا القادم من مدينة في وسط العراق، قد يبلغ اشد زحام فيها سبع دقائق لا أكثر.
كان اكثر من عسكري "شرطي –جندي– صنف اخر" يشير الينا بيده المجردة او الممسكة بالسونار "طيب الذكر" وهو يشعر بالنشوة اذ نتحرك باتجاه يده، فهو الامر الناهي، وهو البوصلة لتحركنا، وهو قبلة انظارنا وانتظارنا.
في كل السيطرات تسود المزاجية العالية لأفراد السيطرات، فانت لا تعرف لم اختار تلك السيارة عن غيرها للركون جانبا لتفتيشها، وترك سيارة أخرى تمر دون ان يطلب منها ذلك.
تستوي في هذا السيارات التي تحمل الركاب فقط، او التي تحملهم وامتعتهم.
كانت سياراتنا تحمل حقيبتان كبيرتان على سقفها، وكان السائق قد أبرز بطاقة سكن المنطقة التي نروم الدخول اليها، أي انه بلغة اهل القانون والسيطرات معرّف وموثوق به بدلالة بطاقته السكنية.
انحرفت يد العسكري بالاتجاه الى اليسار، وهو يعبث بجهازه المحمول، ربما صديق او صديقة يحادثه اللحظة، وقطعنا عليه متعة التواصل الذي لا يكتمل بسببنا والاخرين. اليس الجلوس في بيوتكم أفضل من هذا التنقل من مكان الى اخر؟ ربما كان حال لسانه يقول شيئا من هذا القبيل في سره.. لكنه لا يفصح.
أكثر من سيارة كانت امامنا تنتظر دورها في التفتيش، سيارتنا كانت الوحيدة التي تموضع فوقها الحقائب بإحكام، وباقي السيارات خليط من ركاب متنوعين، او قد تقتصر على سائقها فقط، لكنها المزاجية التي قادتنا الى الزاوية تحديدا، زاوية التفتيش بواسطة كلب بوليسي "ضخم الجثة عريض المنكعين" كما يقول عادل امام في مسرحيته الشهيرة " شاهد ما شافش حاجة".
كان قد انتهى من تفتيش اول سيارة حين توجه اليه سائقنا وهو يرجو منه ان يدع تلك المرأة المسنة والمريضة تبقى جالسة في السيارة، لكنه بدلا من ذلك أطلق جملته تلك "تموتون على صدام" وهو يطلب من السائق إنزال الحقيبتين من اعلى السيارة، فهو ليس لديه "زرافة" على حد تعبيره، بل كلب بوليسي تسجل في ذمته ويبلغ ثمنه أربعون مليون دينار عراقي "ما يعادل ثماني سنوات من راتب الشهيد العراقي التقاعدي".
حين أطلق جملته تلك، وهو يهم بتفتيش السيارة التي تتقدمنا، لم افهم ما عناه بذلك، هل كان يقارن بين هذا الكلب الذي يدس انفه بين المقاعد والحقائب بحثا عما يخبئه الركاب، مثلما كان صدام حسين يدس انفه في كل تفصيل في حياة العراقيين؟ هل كان يقصد ان هذا الكلب المدرب على التمييز بين الصالحين والطالحين يمكن ان ينقض على أي واحد من الصنفين ويمزقه اربا، كما فعل صدام برفاق دربه وعموم شعبه، لا فرق بين صالح وطالح؟ لم يكن يعني أيا من ذلك.. فطريقته في الكلام تكشف عن مضمر من نوع اخر.
لم افهم ما عناه بتلك الجملة، أطلقها هكذا واخذ يعيدها مرارا على مسامعنا، نحن الذين امتثلنا لأمره بإنزال الحقائب والوقوف بعيدا "على التل" خوفا من كلبه، الذي يشمّ ويعضّ وينهش، وكان بين كل سيارة وأخرى يقود الكلب الى كرفان صغير ربما يسقيه الماء او يعطيه بعض الطعام كجائزة لحسن اداءه او ترضية له او خوفا منه.
ربما هو يشعر بالاستنكاف من طبيعة عمله، مرافق لكلب بوليسي قيمته اغلى مما يمثله بالنسبة للحكومة التي يعمل هو لديها، لكن أحدا من الركاب او السائقين لم يجبره على مثل هذا العمل، وقد يكون هو قد دفع عدة مئات من الدولارات للحصول على هذا العمل.
ربما هو يعني اننا كعراقيين وبحكم هذا الخوف المتأصل فينا من الأقوياء والمتوحشين، نموت على صدام، وهو "داء لكل دواء" كما سمعت ذلك كعبارة مأثورة من أحد الأشخاص وهو يقارن وضع العراقيين بعد العام 2003 في ظل "انصاف سياسيين" او "اشباه رجال" مع وضعهم أيام صدام حسين.
ربما لأنه لم يستطع حتى اللحظة وبعد مرور تلك السنوات على رحيل صدام حسين ونظامه ان يصدق ذلك الرحيل، وهو يرى اننا لازلنا نعيش في منظومته الثقافية والأمنية، وان المجتمع لا زالت مظاهر العسكرة بادية وواضحة للعيان فيه.
لكنه وهو العسكري جزء من هذه المنظومة، وجملته التي قالها دون وعي منه تشي بانه لازال تحت ظل تلك المنظومة لم يبارح حدودها.
وجملته فيها الكثير من التنميط الذي تلجأ اليه مجتمعاتنا في نظرتها لأنفسها وللآخرين، فكثيرا ما تسمع الافراد وهو يتحدثون يقولون "احنا العراقيين" ويبدا التوصيف، مدحا او قدحا، خيرا او شرا، حتى دون الالتفات انه ربما تكون هناك مجموعات كبيرة لا تخضع لمثل هذا التنميط، مثل جملة صاحبنا "تموتون على صدام" فليس الجميع يموت عليه "أبو عيون جريئة".
رغم عدم فهمي لما أراد صاحب تلك الجملة منها، الا اني أرى انه كان صادقا مع نفسه، فهو تحدث بما يفكر به في لاوعيه، او حتى وعيه، حاله حال الملايين من العراقيين والعرب الذين الفوا الاستبداد واستطابوا العيش في ظله طالما يوفر لهم امانا زائفا يخدر الخوف في عيونهم وتحت ملابسهم، لكنه يخربش جلودهم ويجحظ من اعينهم كلما مر ذكر المستبد على اسماعهم او مروا من امام صورة او جدارية له.
اختم بكلمات للكاتب العراقي محمد غازي الأخرس مخاطبا من يحب صدام و"يموت عليه" بمناسبة ذكرى إعدامه:
عزائي لمن يحبه ويعترف بذلك
ولمن يحبه ويخجل من إعلان ذلك
ولمن يحبه ويظهر خلاف ذلك
أعزيكم جميعا بـ "رمزكم" الذي وجدوه في الحفرة
أنا أعزيكم.. وسأظل أنتظر من أحدكم أن يعزيني
في الأحلام التي قتلها "رمزكم"
في السنين التي ضاعت في حفرته
وبالضحايا الذين مضوا ولم يسمع صراخهم أحد !!
اضف تعليق