فتح باب الترشيح لرئاسة الوزراء ليس توسيعاً للديمقراطية كما قد يُسوَّق له، بل تقليص لها في جوهرها. إنه انتقال من منطق الاختيار المسؤول إلى منطق إدارة الرغبات، ومن سياسة تبحث عن الحلول إلى سياسة تؤجل الأزمات. والضرر الحقيقي لا يقع على الإطار وحده، بل على الدولة كلها...
حين يفتح الإطار التنسيقي باب الترشيح لمنصب رئيس الوزراء، فإنه لا يقوم بإجراء تنظيمي محايد كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل يتخلى عملياً عن واحدة من أخطر مسؤولياته السياسية والأخلاقية: مسؤولية البحث عن الأصلح والأقدر لتولي الموقع التنفيذي الأعلى في الدولة. فالمسألة هنا لا تتعلق بمجرد توسيع الخيارات أو احترام “حق الطموح السياسي”، بل تتعلق بطبيعة المنصب ذاته، وبالفرق الجوهري بين الاختيار المسؤول والتنافس على الرغبة.
في الأنظمة السياسية الرصينة، سواء كانت ديمقراطيات مستقرة أو نظم انتقالية، لا يُدار منصب رئاسة الحكومة بوصفه جائزة مفتوحة لمن يرغب، بل بوصفه تكليفاً استثنائياً يتطلب مواصفات محددة: القدرة على إدارة الدولة، ضبط التوازنات، حماية المسار الدستوري، والتعامل مع الداخل والخارج بقدر عالٍ من الكفاءة والاتزان. الكتل السياسية الكبرى، بحكم تمثيلها وثقلها، تتحمل مسؤولية مزدوجة: مسؤولية أمام جمهورها، ومسؤولية أمام الدولة. ومن هذه الزاوية، فإن نقل القرار من “من هو الأجدر؟” إلى “من يرغب بالمنصب؟” يمثل انزلاقاً خطيراً في منطق الحكم.
فتح باب الترشيح بهذه الصيغة يعكس أولاً هروباً من قرار صعب. فاختيار شخصية محددة يعني تحمّل تبعات هذا الاختيار سياسياً وأخلاقياً، ويعني الدفاع عنه لاحقاً أمام النقد والفشل والنجاح. أما فتح الباب للجميع، فيعني توزيع المسؤولية وتفريغها من مضمونها: الجميع شارك، إذن لا أحد مسؤول. هذا السلوك قد يكون مفهوماً كتكتيك لإدارة الخلافات الداخلية داخل الإطار، لكنه يصبح مدمراً حين يتعلق بأعلى منصب تنفيذي في الدولة، لأن الدولة لا تُدار بمنطق التوازنات الداخلية وحدها، بل بمنطق الكفاءة والاستقرار.
ثانياً، هذا الأسلوب يُعيد تعريف المنصب بوصفه موضوع رغبة شخصية لا تكليفاً وطنياً. الراغب بالمنصب يتحرك غالباً بدافع الطموح، والطموح بحد ذاته ليس عيباً، لكنه يصبح خطيراً حين ينفصل عن معيار الخدمة العامة. ومع اتساع دائرة الراغبين، تتحول عملية الترشيح إلى سوق تفاوض: وعود، اصطفافات، تعهدات، ومساومات، ويغيب السؤال الجوهري: هل هذا المرشح قادر فعلاً على إدارة دولة مأزومة، أم أنه فقط قادر على حشد التأييد داخل غرف السياسة المغلقة؟
ثالثاً، في ظل العرف السياسي القائم الذي يربط رئاسة الوزراء بـ“الحصة الشيعية”، فإن فتح باب الترشيح لا يؤدي إلى تنافس برامج بقدر ما يؤدي إلى تصعيد الصراع داخل البيئة الواحدة. بدلاً من أن يتحمل الإطار بوصفه مظلة سياسية مسؤولية تهدئة هذا الصراع واختيار شخصية جامعة أو على الأقل متوازنة، يُلقى الصراع في الساحة المفتوحة، فتُستدعى لغة التخوين والتمثيل، وتُستعمل الطائفية كأداة ضغط متبادل. وهكذا يتحول المنصب من أداة لإدارة الدولة إلى أداة لإعادة إنتاج الانقسام داخل المكوّن نفسه، وهو ما يضعف الجميع على المدى المتوسط والبعيد.
رابعاً، هذا النهج يضر مباشرة بمفهوم الدولة. فالدولة تحتاج إلى وضوح في القيادة وإلى سردية سياسية مستقرة: لماذا هذا الشخص؟ ما هي معاييره؟ ما هو برنامجه؟ وعندما يغيب هذا الوضوح، يصبح رئيس الوزراء القادم، أيّاً كان، ضعيفاً منذ اللحظة الأولى، لأنه سيُنظر إليه بوصفه نتاج تسوية رغبات لا نتيجة اختيار مدروس. وهذا الضعف البنيوي ينعكس لاحقاً في عجز عن اتخاذ قرارات صعبة، وفي قابلية عالية للابتزاز السياسي، وفي هشاشة أمام الأزمات.
خامساً، أخطر ما في فتح باب الترشيح بهذه الطريقة هو الرسالة التي يبعثها إلى المجتمع: أن المنصب الأعلى في الدولة لا يحتاج إلى مشروع واضح ولا إلى رؤية شاملة، بل إلى القدرة على الدخول في السباق. هذه الرسالة تُفرغ السياسة من بعدها الأخلاقي، وتحوّلها إلى منافسة نفوذ، وتعمّق فجوة الثقة بين المواطن والنظام السياسي، لأن المواطن يرى أن معيار الصعود ليس الكفاءة ولا النزاهة، بل الرغبة والقدرة على المناورة.
لا يعني هذا النقد الدعوة إلى الإقصاء أو فرض شخصية بعينها، بل الدعوة إلى تحمل المسؤولية السياسية. كان يمكن، وما زال يمكن، للإطار التنسيقي أن يضع معايير واضحة وملزمة للترشيح، وأن يفرز عدداً محدوداً من الشخصيات التي تنطبق عليها هذه المعايير، وأن يخضعها لنقاش جدي حول البرامج والقدرة التنفيذية، لا حول الأوزان الفئوية. هذا المسار، حتى لو كان صعباً، يحفظ الحد الأدنى من هيبة المنصب ومن فكرة الدولة.
في الخلاصة، فتح باب الترشيح لرئاسة الوزراء ليس توسيعاً للديمقراطية كما قد يُسوَّق له، بل تقليص لها في جوهرها. إنه انتقال من منطق الاختيار المسؤول إلى منطق إدارة الرغبات، ومن سياسة تبحث عن الحلول إلى سياسة تؤجل الأزمات. والضرر الحقيقي لا يقع على الإطار وحده، بل على الدولة كلها، لأن الدولة التي يُدار أعلى منصب فيها بهذا القدر من الارتباك، لا يمكن أن تنتج استقراراً ولا إصلاحاً، بل تعيد إنتاج الحلقة ذاتها من الضعف والتأزيم.



اضف تعليق