يواجه الفرد اغتراباً دينياً وانفصاما فطريا، ناتجاً عن طغيان الرقمنة وسيادة النسبية وتضخما في الفردية، بما يؤدي الى تدمير الانتماءات وتحويل الهويات الثابتة الى سيولة متغيرة، ومن مظاهره تطويع الدين والتلاعب به بل وتسييسه. ومن هنا لابد من استكشاف المهددات والمخاطر التي تعصف بالهوية الدينية المعاصرة، وصولاً إلى استشراف...
عقد ملتقى النبأ الأسبوعي جلسته الحوارية الأسبوعية تحت عنوان: (التدين السائل.. الاغتراب الديني وتحديات عصر ما بعد الحداثة) وذلك يوم السبت الموافق 29 /11 /2025 في مقر مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام، حيث قدم الباحثون والاكاديميون وأصحاب الرأي والقلم مداخلاتهم ومشاركاتهم على الورقة التي قدمها الشيخ مرتضى معاش، والتي جاء فيها:
تناقش هذه الورقة إشكالية "التدين السائل" وتحكّم المتغيرات الذاتية بالثوابت الموضوعية، فأصبحت القيم والأخلاق سلوكا متغيرا بحسب الرغبات والطموحات والمصالح، وهو نتيجة تضخمت بشدة في عصر ما بعد الحداثة، حيث يواجه الفرد "اغتراباً دينياً" و"انفصاما فطريا"، ناتجاً عن طغيان الرقمنة وسيادة النسبية وتضخما في الفردية، بما يؤدي الى تدمير الانتماءات وتحويل الهويات الثابتة الى سيولة متغيرة، ومن مظاهره تطويع الدين والتلاعب به بل وتسييسه. ومن هنا لابد من استكشاف المهددات والمخاطر التي تعصف بالهوية الدينية المعاصرة، وصولاً إلى استشراف حلول استراتيجية تعيد تشكيل وعي ديني ناضج، وتحقق "تحصيناً مجتمعياً" فاعلاً يضمن الصمود أمام السيولة الجارفة لأفكار ما بعد الحداثة.
دائماً ما ننتقد الظواهر الاجتماعية من بُعدٍ ديني فقط؛ وهو نقدٌ قد يكون نقداً مرتبطاً بـ "الترند" السائد في شبكات التواصل الاجتماعي، وليس نقداً يمتلك أبعاداً عميقة ومتعددة، أو ما يمكن تسميته بالنقد التحليلي العميق، الذي يسبر أغوار الظواهر الاجتماعية، ويغوص في تلك الظواهر غوصاً عميقاً حتى يعثر على جذورها، ومن ثم - وعلى ضوء ذلك - يجد الحلول اللازمة لعلاج هذه الظواهر القائمة.
لذلك لابد من محاولة فهم هذه الظواهر المعاصرة من خلال اطار زمن ما بعد الحداثة؛ وبمحورية الاغتراب الديني وتحول التدين -دعنا نقول التدين ولا نقول الدين- إلى حالة من حالات ما بعد الحداثة."
ويُوصف عصر ما بعد الحداثة بـ الحداثة السائلة؛ وهو مفهوم طرحه المفكر الغربي (زيجمونت) باومان، حيث وضع الحداثة السائلة في مقابل الحداثة الصلبة، ويقصد بها الحداثة (الحقبة التي سبقتها) التي كانت تعتمد على الدين والعقل والقيم الثابتة في بناء التطور والتقدم والتجديد؛ وجاءت ما بعد الحداثة لتقوم بنسف كل الثوابت وتحويلها الى سوائل متغيرة.
تكمن المشكلة في هذا الموضوع، في أننا حين نناقش المشكلات الاجتماعية المتصاعدة التي يفرضها العصر التكنولوجي والرقمي - بما يحمله من أفكار وسلوكيات تخترق الواقع الاجتماعي القائم - فإننا ننظر إليها من زاوية الدين، وكذلك من كل الزوايا الأخرى المتوفرة لدينا؛ سواء كانت أخلاقية، أو اقتصادية، أو استهلاكية، أو اجتماعية. فلا ينبغي أن نقرأ هذه التحولات والضغوط من زاوية الدين فحسب، أو كيف أضحى هذا الدين في جوهره ومظهره.
لقد أصبح التدين متغيراً وغير ثابت، يفتقر إلى الثوابت والقواعد، ومتحركاً بحسب التموجات التي تطرأ عليه فتتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال. وقد استعرنا هذا التعبير -أي «التدين السائل»- لتوصيف هذه القضية؛ حيث لا يوجد ثبات أو قواعد يمكن أن يرتكز عليها التدين في هذه الحالة.
الاغتراب والاغتراب الديني
ننتقل الآن للحديث عن المفاهيم، وتحديداً مفهوم «الاغتراب». يُعرف الاغتراب بأنه حالة نفسية تتمثل في الشعور بالانفصال عن الذات، وعدم الشعور بالوجود، وافتقاد الهوية والانتماء؛ حيث لا يشعر الإنسان بوجوده الحقيقي في الحياة.
وقد يُطلق على ذلك في علم النفس اسم «الانفصام»، أي الانفصام عن الشخصية أو الانفصال عن الذات. وهذا الإنسان المنفصم هو إنسان مغترب لا يشعر بذاته، مما يولد لديه نوعاً من تعدد الذوات، فيصاب بانفصام في الشخصية. هذا هو التوصيف من الناحية النفسية؛ فالاغتراب هو انفصال وانفصام عن الذات.
ولذلك، لا يشعر الإنسان بوجود هويته، ولا يحس بالانتماء لهذه الحياة أو لهذا المجتمع، ولا حتى لنفسه. إنه يعيش نوعاً من الاستلاب، فتراه تائهاً ضائعاً في خضم الحياة؛ لا يدري لماذا وُجد، ولا إلى أين يتجه، وقد فقد المعنى في حياته.
"هذا عن الاغتراب بشكل عام، أما «الاغتراب الديني» بشكل أخص فهو الانفصال عن الفطرة. فالذات في منظورنا -وحسب رؤيتنا وخطابنا الديني- هي الفطرة.
إن الفطرة هي الذات، ونعني بها الذات الأصلية التي تحوي كافة المكونات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في داخل الإنسان، وهي موجودة في فطرته مصداقاً لقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم30؛ فهذه الذات تتكون من تلك الفطرة. وهذه الفطرة هي التي يمكننا تسميتها بـ«العقل الباطن» الذي يرشد الإنسان ويهديه.
وعليه، فإن من يعاني من حالة انفصال عن هذه الفطرة، يصاب بـ «الاغتراب الديني»؛ فيعاني من فقدان المعنى والغاية، وبالنتيجة يفتقد الشعور بالهوية الدينية.
وباعتقادي، فإن الهوية الحقيقية هي الهوية الدينية، ولا يمكن لأي إنسان أن يشعر بهوية سوى هوية الدين. ولذلك، وعلى مر التاريخ، من يقرأ تاريخ الأمم يرى أن جميعها تمتلك ارتباطاً بالدين أقوى من ارتباطها بأي شيء آخر؛ فحتى قوة الانتماء للوطن أو القومية، أو أي قوة أخرى، نجدها ترتبط بقوة الدين عند الإنسان.
فالدين هو الذي يحمي الإنسان ويحقق له الأمان النفسي والأمان الاجتماعي، وهو الذي يرسخ الهوية الجماعية؛ ولذا فإن المجتمعات التي تنفصل عن الدين تعاني من مشكلات وأزمات خطيرة.
وبطبيعة الحال، فإن الانفصال عن الدين -كما ذكرنا- لا يقتصر فقط على كون المجتمعات غير متدينة، بل يشمل حتى المجتمعات المتدينة؛ فتلك التي تعيش الدين في شكله ومظهره فقط، تعيش هي أيضاً حالة من الاغتراب والانفصال والانفصام. إذن، فحديثنا هنا يتركز على المجتمعات المتدينة، وليس على غير المتدينة.
وفي هذا السياق، لديّ مقالة منشورة على شبكة الإنترنت قبل نحو ثلاث سنوات حول «الاغتراب الديني»، وبإمكان الإخوة مراجعتها والاطلاع عليها لمن يرغب."
صبغة ما بعد الحداثة على الاديان
"إن الاغتراب الديني في زمن ما بعد الحداثة يتمثل في فقدان اليقين الديني، وضياع المعنى، وتفكيك الأديان. ولنسمِّ ذلك اختلاطاً للأديان بمفاهيم جديدة؛ مما أدى إلى سيطرة ما بعد الحداثة على كافة الأديان والأفكار عبر صبغها بالصبغة النسبية والفردانية.
والنسبية تعني انتفاء الإطلاق، أي أنه لا توجد حقيقة مطلقة؛ أما الفردانية فتعني غياب الهوية الجماعية. وهكذا، سيطرت ما بعد الحداثة على الأديان بحيث تحول الدين إلى ظاهرة فردية، ولم يعد ظاهرة اجتماعية؛ إذ جردوا الدين من بعده المجتمعي وحصروه بالأفراد، ليصبح الدين شأناً خاصاً، وتطبق عليه المقولة الدارجة عندنا: هو وربه.
وعندما اتخذ التدين هذا الشكل، أصبح تديناً سائلاً يتشكل بحسب مزاج الفرد وطموحاته وأهدافه وغاياته ومصالحه. لقد غدا تديناً سائلاً لا يرجع إلى قاعدة، ولا يستند إلى أصل، ولا يثبت على بنية؛ مما أدى بالنتيجة إلى افتقاده للهوية الجماعية. وبالنتيجة، يصبح إيمان المرء ذاتياً ويبتعد عن الإيمان الحقيقي؛ وكما يقال، تصبح لديه تجربة فردية خاصة، وتفسير فردي خاص.
ومثال ذلك ما ينتشر الآن في الغرب من ظواهر مثل البوذية، والمذاهب الروحانية الخالصة التي تعتمد على إيمان الفرد الخاص به؛ فهي حالة روحانية في الأصل وليست ديناً، وإنما هي حالة روحانية خاصة، شأنها شأن الصوفية والعرفان. إنها حالة روحانية وتدين فردي خاص بالإنسان، حيث يكون (هو وربه) فقط، ويتولد لديه نمط من التفكير الخاص والمزاج الخاص.
وهنا، عندما يصبح التدين سائلاً بهذه الطريقة -بلا ثبات، ولا قواعد، ولا حدود- تختفي كل الغايات المشتركة عند البشر، بل وتختفي حتى الغاية الذاتية للإنسان. وحين تنعدم الغاية المعينة التي تحمل المعنى؛ تصبح الدنيا - بالنتيجة - هي غاية الإنسان، وهي التي تُشكّل هذه الحالة.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (صن دينك بدنياك تربحهما، ولا تصن دنياك بدينك فتخسرهما).؛ فنلاحظ هنا أن الدين هو الأصل الذي يمنح الدنيا القيمة والغاية، وبذلك يربح الإنسان، أما إذا جُعل الدين وسيلة للدنيا، فإنه يخسر الدين والدنيا كليهما.
وهكذا نرى أن «التدين السائل» في عصر ما بعد الحداثة قد جعل الدنيا هي المحور، وكذلك المنفعة والمصالح الفردية هي المحور.
الاغتراب الديني في القرآن الكريم
وسأذكر لكم مفهوماً قرآنياً لكي تتضح الصورة لدينا أكثر من المنظور القرآني حول هذا الموضوع. لقد استخدم القرآن الكريم مفهوم «الاغتراب الديني» كثيراً في آيات متعددة؛ فمنها ما ينطبق على مفهوم النفاق، ومنها ما ينطبق على مفاهيم أخرى.
ولكن المفهوم الذي راجعته وحققت فيه كثيراً هو مفهوم «النسيان». قال تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ)، ومعنى ذلك أن الإنسان قد انفصل عن نفسه، وانفصل عن ذاته وفطرته، حتى وصل إلى تلك المرحلة؛ وهي مرحلة النسيان.
تقول الآية القرآنية: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)
وهذه الآيات في سورة طه؛ وإذا تأمل المرء فيها، يجد هذا المعنى في الخاتمة، بينما جاء في مقدمة السورة: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ). فهذه السورة تتحدث عن مفهوم السعادة والشقاء، ومن يتعمق فيها قليلاً يمكنه استكشاف معاني كثيرة، منها «الاغتراب الديني».
في هذه الآية وردت عدة كلمات، منها «أعمى»؛ والإنسان الأعمى في الدنيا هو إنسان مغترب وضائع. وكذلك ورد «النسيان»؛ معناها أن يأتي الإنسان إلى الحياة ولا يشعر بقيمة الحياة، ولا بقيمة النعم، ولا بقيمة الأشياء؛ فلا يمتلك آلية تمكنه من الارتباط أو التواصل مع الحياة والكون.
ويرتبط هذا المعنى بعلم النفس؛ ففي قوله: «مَعِيشَةً ضَنكًا»، والضنك هو الضيق الشديد؛ وهو الذي يتولد من الشعور بالتعاسة الشديدة، أو كما يسمونه اليوم «الاكتئاب» والإرهاق النفسي والإجهاد النفسي. ومن هنا نرى أن الإنسان الذي لا يرتبط بالفطرة الإلهية، ومع النظام الكوني، ومع الدين؛ فإنه بالنتيجة يعيش حالة من الإرهاق النفسي، ويصبح كالأعمى في هذه الدنيا؛ يبصر بعينه، لكنه لا يبصر بوجدانه ولا بشعوره ولا بقلبه.
(وقد يُطرح تساؤل): هل للضنك علاقة بالضيق المادي؟
إن الضيق المادي يرتبط بالضيق النفسي؛ فالضيق المادي قد يؤدي فعلاً إلى ضيق نفسي، ولكن الأصل والمقصود هنا هو الضيق النفسي الشديد؛ ودليل ذلك سياق الآية القرآنية، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (فَنَسِيتَهَا)."
كيف يصل المغترب الى النسيان؟
إذا تتبعنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن النسيان، سنجد أنه عملية يمكن أن نسميها «الاغتراب الديني المتدرج». هذا الاغتراب يبدأ من عملية ارتكاب الذنوب، وصولاً إلى «التطبّع» والانتقال الذاتي للإنسان، وتحوّل قلبه إلى حجارة، ومن ثم ينتهي إلى النفاق وإلى الإجرام.
إنها سلسلة ممتدة من عمليات الاغتراب المتسلسل، توصل الإنسان من ارتكاب الذنب إلى ما يمكن تسميته بـ «العدمية الإجرامية»؛ حيث يفقد الإنسان - في هذه المرحلة - كل غاياته في الحياة، ويتحول إلى دكتاتور أو طاغية مجرم، مصداقاً للآية القرآنية: (أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ).
وبما أننا وصلنا إلى هذا الحديث، دعوني أذكر المراحل بالتفصيل:
المرحلة الأولى: «سيولة الذنوب»، وهي تبدأ من عملية ارتكاب الذنب؛ فإذا لم يستغفر الإنسان ربه، سوف تستمر عملية ارتكاب الذنوب وتتراكم ذنباً فوق ذنب، فيحدث ما يسمى بـ «نكت القلب»، والنكتة هنا تعني أن يأتي الذنب ويحفر حفرة في داخل القلب؛ ويذكرون أن هذه «الحفرة» لا تذهب، بل تبقى حتى لو استغفر الإنسان، ولكن الاستغفار يوقف عملية الحفر في القلب ويمنع استمرارها؛ أما إذا لم يستغفر، فستبدأ الحفرة الثانية والثالثة بالظهور.
المرحلة الثانية: وهي «الران» وصدأ القلب، مصداقاً لقوله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)المطففين/14، والران هنا هو تراكم الصدأ (الزنجار) الذي يتجمع على القلب تدريجياً.
المرحلة الثالثة: «التطبّع». وهذه المرحلة تبدأ بـ «الاكتساب»؛ حيث يذنب الإنسان، ويستمر في الذنب، إلى أن تتغلغل الذنوب في قلبه تدريجياً وتتحول إلى عملية اكتساب، وهذا الاكتساب يؤول إلى التطبّع. وتقول الآية القرآنية في وصف هؤلاء: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)النحل/108؛ فالإنسان هنا غافل، ليس لديه وعي بأثر هذا الفعل، أو أنه استغفل نفسه، فتبدأ عملية الطبع على القلب إثر ارتكاب الذنوب المتكرر دون توبة، والغفلة هنا هو بداية النسيان.
المرحلة الرابعة: «انسداد القلب وتحجره». وفيه يقول تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)الجاثية/23. هنا يصبح بصر القلب مغلفاً بالكامل بالذنوب، ويصل الإنسان إلى مرحلة التيه، ثم يعقب ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).
المرحلة الخامسة: «النفاق وفقدان الذات»، والنفاق تعبير عن خسارة الذات، وتحويلها إلى سلعة يتاجر بها الإنسان مع الآخرين، مما يولد لديه شخصية مزدوجة؛ فهو يبيع نفسه للآخرين، ويبيع مبادئه وأخلاقه، وهذا هو ما يُسمى بـ «المنافق».
وفي هؤلاء يقول الله سبحانه وتعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)التوبة/67. فالنفاق في نتيجته هو «النسيان» الذي ذكرناه في المراحل السابقة
المرحلة الأخيرة: «العدمية الإجرامية»؛ مصداقاً لقوله تعالى: (أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ). في هذه الحالة، لا يبقى للنفس ولي ولا شفيع ولا أي شيء في الحياة، إذ تصل إلى تلك المرحلة النهائية.
وهذه المراحل يختارها الإنسان بنفسه؛ فهو الذي يبدأ بها منذ ارتكاب الذنب الأول، وصولاً إلى تلك العدمية الإجرامية النهائية التي لا مجال بعدها للتدارك.
والسؤال هنا: لماذا؟ وكيف ينساهم؟ ونحن نعلم أن الله لا ينسى. إن المقصود بهذا التعبير هو أنهم هم الذين اختاروا ذلك، عبر عملية تحويل أنفسهم إلى مجرد شيء لا قيمة له في الحياة.
ويمكننا القول إن هذا هو «الاغتراب الديني الشديد» عند الإنسان، الذي يصل به إلى مرحلة تشبه حالة المريض النفسي البايولوجي. فثمة بعض الحالات النفسية المستعصية التي يصل فيها المريض إلى طريق مسدود؛ إذ تلازمه الأزمة وتستحكم فيه لأنها تحولت إلى حالة بيولوجية تجذرت في جسده وروحه وعقله، فيصل إلى مرحلة الجنون على سبيل المثال.
حسناً، لقد طرحنا ما سبق كمقدمة. والآن ننتقل إلى أسباب الاغتراب الديني في زمن ما بعد الحداثة. إن زمن ما بعد الحداثة هو عصر «المتغيرات المطلقة والثوابت النسبية»، حيث يغدو كل شيء هو «لا شيء». وهذا هو معنى ما بعد الحداثة، وهو أمر يدعو للغرابة. وقد اطلعت على بعض النقد الموجه لما بعد الحداثة فيما يخص «النسبية»؛ ورغم أن مبحث النسبية واسع ويحتاج إلى نقاش مستفيض، إلا أن الحقيقة هي أن النسبية إذا أصبحت مطلقة، فإنها تنفي نفسها بنفسها، ولا يتبقى منها شيء.
إنها -دعنا نسمها هكذا- شيء بائس جداً، ينفي نفسه بنفسه؛ ولذلك فهي شيء يؤدي إلى «اللا شيء». فإذا كان معناها جعل الإنسان «لا شيء»، فهي تتمثل في الشك في الحقائق المطلقة.
وبالنتيجة، لا يوجد حق ولا باطل، ولا خير ولا شر، ولا حلال ولا حرام؛ فكل شيء لك مباح.
ومن خصائصها أيضاً التحول من الجماعة إلى «الفردية المفرطة». وإذا ناقشنا الفردية المفرطة الموجودة، سنرى كم تحمل من آثار، مثل غياب العقل، وتفكيك القيم والأخلاق.
وفيما يخص قضية «التدين السائل»، فهو التدين الانتقائي أو الرغبوي؛ أي الاخذ من الدين ما يعجبني. هذه هي حقيقته. بمعنى أن نسبية ما بعد الحداثة وفرديتها تجعل الإنسان يسير في دينه بحسب رغبته.
قد تقول لي الآن: ما علاقة هذا بنا؟ وما مدى ارتباطه بواقعنا؟
أقول: إن كل هذه المفاهيم متسللة إلى مناهجنا، وإلى حياتنا الاجتماعية، وإلى الظواهر الاجتماعية التي نعيشها، بل وتتسلل إلى الدين أيضاً. تتسلل إلى التدين القائم، فترى أن الدين قد أصبح مادياً؛ أي أن الدين يُصاغ الآن بطريقة استهلاكية، وطريقة مادية، وطريقة مظهرية تامة وكاملة.
وهذا هو «التدين الرغبوي» الذي وصفه الإمام الحسين (عليه السلام) في عبارة رائعة جداً؛ وهي كلمة لابد لعلماء الاجتماع من التفرغ لدراستها: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم».
هذا ما يسمى بالدين الرغبوي؛ أي جعله كالسائل بين اليدين، نحركه يمنة ويسرة، فهو يتحرك بحسب مصلحتي ومزاجي.
(مداخلة): ولكن في ضوء هذه المقولة، ألا يجعل هذا الأمر قضية «الاغتراب» غير مرتبطة بزمننا هذا؟ فقول الإمام الحسين (عليه السلام) سابق للحداثة وما بعد الحداثة؛ ألا يعني هذا أن القاعدة تسري ولا تقتصر على ما بعد الحداثة؟
(الجواب): «التدين السائل» كان موجوداً منذ الأزل، ومنذ البداية كان حاضراً بصور معينة. ولكن، بسبب ما بعد الحداثة - وليس أفكار ما بعد الحداثة فحسب، بل أدواتها أيضاً كالتكنولوجيا، والإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي والاستهلاك الشره والرأسمالية المتوحشة - فإن هذا سيولة هذا التدين يتضخم يوماً بعد يوم، فتضخم هذا التدين، أصبح ظاهرة كبرى تسللت إلى جميع مناحي حياتنا.
فاليوم -على سبيل المثال- حينما تتحدث عن ظاهرة الحجاب القائمة؛ نجد ما يسمى بـ «الحجاب السائل». فقد أصبح الحجاب مواكباً للموضة، ولا علاقة له بالدين في جوهره؛ بل تم اقتباسه والمزاوجة بينه وبين الحداثة، فتولّد عن ذلك شيء «سائل» لا يمت بصلة للحجاب الشرعي الأصلي ولا لقضية الدين. ولكن النتيجة هي أن هذه الظواهر قوية جداً، والتموجات أقوى، فتسيطر على الحياة بأسرها؛ وهكذا يصبح التدين سائلاً، بلا قواعد ولا حدود.
التدين السياسي والعلماني
ومن النقاط التي يمكن ملاحظتها أيضاً: تسييس الدين، أو «التدين السياسي». فهو أيضاً نوع من التدين السائل؛ إذ تأتي جماعة إسلامية أو دينية وتصنع ديناً خاصاً بها وفقاً لمصالحها، وحسب عملها، وما يقتضيه دين السلطة والحكم. فترى تغيير الأحكام الشرعية، وتغيير القواعد والثوابت، بحيث يغدو هذا التدين شيئاً آخر مغايراً للدين الأصلي.
"ومن النماذج أيضاً: «التدين المُعلمن» أو العلماني، أو ما كان يسميه البعض بـ «العلمانية المؤمنة». وهذا النوع يُعد من التدين السائل؛ إذ لا علاقة له بالعلمانية البحتة، بل هو شكل آخر من أشكال التدين.
ومثال آخر: «التدين العرفاني والصوفي» الذي أشرنا إليه، وهو الذي يلتزم الجوهر دون المظهر. فلا يصح أن تقول: «أنا وربي» أو «المهم أن قلبي ونيتي صافية» متخلياً عن المظهر؛ فالدين هو مظهر وجوهر معاً.
وكذلك لدينا «القراءة السائلة» للنصوص الدينية؛ حيث يأتي كل فرد ويجتهد في قراءة النص بحسب مزاجه وفكره ومصالحه. وهذا أيضاً يعد تديناً سائلاً.
ومن النماذج أيضاً: «التشدد المفرط» أو التشدد الديني، كما نراه عند السلفيين وغيرهم من الجماعات أو الأفراد المتشددين. فالتطرف الديني هو نوع من أنواع السيولة التدينية؛ لأنه فكر يقرأ الدين قراءة متطرفة خاصة به. وهذه القراءة المتطرفة إما أن تكون ناتجة عن نوازع ذاتية في حياة الفرد وتربيته، أو تكون رد فعل على الانحلال الاجتماعي القائم؛ فيتولد لديه نوع من الإفراط المتشدد بهدف الاحتماء بالهوية والدفاع عنها.
ومثال على ذلك: بعض الانتحاريين الذين أتموا دراساتهم في أوروبا وقاموا بعمليات انتحارية في العراق؛ فهؤلاء تولد لديهم رد فعل جراء وجودهم في أوروبا، حيث شعر أحدهم بكونه مسلماً وأن هويته في ضياع. فلم يرَ ذلك الشخص حلاً أمامه إلا أن يكون متشدداً، ويفسر الدين بطريقته الخاصة ليكفّر الناس جميعاً، ويعنفهم مستخدماً القوة لتطبيق الشريعة؛ وهذا خلاف جوهر الدين. لكن الدين هو في حقيقته قائم على الهداية والإرشاد والتعقل والرحمة؛ على خلاف نهج «التدين السائل».
وعن الإمام علي (عليه السلام): «لَا يَتْرُكُ النَّاسُ شَيْئاً مِنْ دِينِهِمْ لِإِصْلَاحِ دُنْيَاهُمْ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ».
والمعنى هنا، أنه يحول الدين لخدمة أغراضه ومصالحه الخاصة وتحقيق غاياته الشخصية، كما نشاهد عند الكثيرين.
وبعد الانتهاء من تقديم الورقة تم طرح السؤالين على الحاضرين:
السؤال الأول: ماهي المشكلات التي تؤثر على الهوية الدينية في عصر التكنولوجيا الرقمية، ومسارات تفكيك القيم والانتماءات في افكار ما بعد الحداثة؟
السؤال الثاني: ما هي الحلول المقترحة التي تعيد تشكيل الوعي الديني، وتحصين المجتمع من تموجات ما بعد الحداثة؟
المداخلات
الحداثة سيف ذو حدين
- الأستاذ حسين شاكر؛ باحث واكاديمي:
نمتلك دستوراً للحياة وللدين وضعه لنا الأئمة الأطهار (عليهم السلام)؛ فهم القرآن الناطق، ولذلك فإن ما يصدر عنهم يُعد سنة معتبرة، سواء كان فعلاً أو قولاً أو إقراراً. وهذا الدستور أو الدين الإسلامي الذي بينوه وفسروا تأويله لنا، يمثل منهاج حياة للإنسان وللمجتمع.
سابقاً، كان المجتمع -وذات الإنسان- يسير وفق فطرته بشكل ثابت ودون تقلبات؛ وذلك نتيجة لوجود خطاب موحد، وعدم وجود الوسائل التكنولوجية أو الحداثية التي غيّرت الكثير من المعاني.
إن انسلاخ الإنسان عن ذاته وفطرته يأتي نتيجة لما تفضلتم به من تبريره لمصالحه وذنوبه وبعض احتياجاته، مما يؤدي به إلى الانحراف عن جادة الصواب. وبالتالي، يغدو هذا التدين «تديناً سائلاً»، على العكس من التدين الثابت الذي وصفه الأئمة الأطهار بمقولة: «القابض على دينه كالقابض على جمرة».
وعليه، فإن هذه التكنولوجيا أو الحداثة التي دخلت علينا في الخمسين سنة الأخيرة تقريباً -أو أقل- هي إحدى أبرز الوسائل التي ساهمت في تغيير مفاهيم الدين الإسلامي؛ بهدف تمييع القضية وتمييع الإسلام، وإدخال الكثير من المفاهيم الجديدة.
ورغم أن الحداثة سيف ذو حدين، إلا أنها -وللأسف- استُخدمت من هذه الناحية بشكل سلبي. لقد أصبحت سهلة المتناول، فأضحى «اللا شيء» شيئاً مهماً، وهنا تكمن الخطورة؛ إذ بدأت تؤثر عبر ترسيخ معايير ضعيفة جداً.
وبالنتيجة، بدأت تبرر العلاقة بين الدين والحداثة عبر «خطاب ديني حديث»؛ وخاصة ما صدر في الفترة الأخيرة قبل 20 أو 30 سنة. حيث بدأ بعض الخطباء والخطاب الديني ب يؤقلم نفسه -وإن حملناهم على محمل حسن وقلنا إن هدفهم تحبيب الدين للناس- إلا أن الطريقة المتبعة جعلت هذا الخطاب ينحرف عن جادة الصواب.
وعن السؤال الثاني: ضرورة تكثيف جهود الحوزات الدينية الحقيقية والأصيلة، والراسخة منذ مئات السنين، للعمل على إعداد خطاب وخطباء يمثلون «التدين الصلب».
وهنا يجب التوضيح؛ فنحن نقصد التدين الصلب الذي يقف في مقابل «التدين السائل»، ولا نعني به «التصلب» أو التشدد؛ وإنما يُقصد بـ «الصلب» ذلك البناء القائم على الثوابت.
وبالتالي، نحن بحاجة إلى خطاب عقلائي وليس خطاباً عاطفياً (مشاعرياً). إذ إننا نعاني دائماً من مشكلة اللجوء إلى مخاطبة المشاعر في سبيل جذب الجمهور وكسب الناس، وهذه طريقة غير مجدية.
غياب المؤسسات الدينية
- الاستاذ صلاح الجشعمي، باحث قانوني:
موضوع حيوي نلمس آثاره بوضوح في واقعنا الاجتماعي والفردي، لدي تساؤل أود طرحه انطلاقاً مما ذكرتموه بأن هذا العنوان يختص بـ «المجتمعات المتدينة». فما هو تعريف المجتمعات المتدينة هنا؟ هل هي التي تلتزم بالواجبات كالصلاة والصوم؟ أم هي المجتمعات التي تكتفي بالشهادتين؟ ما هو المقصود بهذا القيد؟ طبعاً نحن نعلم أن الحديث عن المجتمعات غير الدينية هو بحث آخر، ولكن فهمت أن عنواننا يغطي هذه الشريحة المتدينة.
وانطلاقاً من تجربتنا واحتكاكنا بالواقع، أطرح عليكم الملاحظة الأولى: نحن نشعر بافتقارنا إلى مؤسسات تربوية حقيقية تديرها المؤسسات الدينية الفاعلة في العراق. ولا أعمم الكلام، ولكن المؤسسات الدينية المؤثرة تعيش حالة «غربة» -وليس اغتراباً- عن المجتمع العراقي.
وبالتالي، نحن نفتقد وجود مؤسسات تربوية ترشد الأطفال، رغم وجود الآلاف بل الملايين منهم في المدارس الابتدائية والمتوسطة. فالمؤسسات الدينية لم تتمكن حتى الآن من الوصول إلى هذه المؤسسات التربوية عبر شباب متدين ومثقف، لزرع القيم والثقافة الإسلامية وثقافة أهل البيت (عليهم السلام)؛ وذلك لتحصين النشء من الشعور بالغربة حين يصلون إلى مرحلة المراهقة والشباب.
ثانياً: فيما يخص الكبار، نحن نعاني من فقدان القدوة للرجل والمرأة. وحديثنا هنا عن المجتمع المتدين؛ إذ نستذكر في أيام النظام السابق (فترة التسعينيات) وجود القدوة؛ سواء كان رجل دين، أو رجلاً متديناً، أو امرأة متدينة. كان النساء والرجال والشباب يقتدون بهم، وكانت هناك رغبة نفسية في التمثل بشخصياتهم لما يملكونه من «كاريزما». أما الآن، فقد فُقد هذا النموذج أو قلّ وجوده بشكل ملحوظ، وهذا هو الإشكال الثاني الذي أطرحه حول هذا الموضوع."
"ثانياً: عدم وجود دراسات منهجية علمية مدروسة لزرع القيم وثقافة أهل البيت في المجتمع، وكذلك عدم استثمار طاقات الشباب بشكل خاص.
وإن كنا نقر بوجود مساحة معينة لمؤسسات دينية تسعى في هذا المسار، ونشاهد ذلك عبر مواقع التواصل (كالفيسبوك)، حيث نتابع وجود شباب جادين يحاولون الاختراق ونشر القيم؛ إلا أننا في المقابل نجد بعض الشخصيات الدينية - أو المحسوبة على الدين - تنخرط في مهاترات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتطرح موضوعات بعيدة كل البعد عن زرع القيم والثقافة لدى شبابنا.
وبالنسبة للسؤال الثاني، ولكي نشكل وعياً دينياً وحصانة لنا؛ لا بد من تكثيف المنهج العملي. فالدراسات موجودة والحمد لله، والكتب متوفرة، وهناك الكثير من الأكاديميين الذين يهدفون للإصلاح وزرع قيم أهل البيت؛ ولكننا نفتقد الجانب العملي. والسؤال هو: كيف ننقل هذه الأفكار من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل؟ ومن رفوف المكتبات إلى واقع الميدان؟
وبطبيعة الحال، هناك عوارض ومعوقات كثيرة، منها اتجاه المجتمع نحو الجانب المادي، وطغيان الحضارة الغربية حالياً. فنحن نمر بمرحلة تشبه ما مررنا به عام 1914م، عند انسحاب العثمانيين ودخول المستعمرين (كالبريطانيين والفرنسيين)؛ إذ أتصور أنهم لم يدخلوا كاستعمار فقط، بل دخلوا كحضارة وافدة. وفي ذلك الوقت، وقفت المؤسسات الدينية عاجزة عن استيعاب وهضم هذه الحضارة الدخيلة، ولم تهتدِ إلى كيفية التكيف معها.
ويبدو أن جيلنا الحالي يعاني المعاناة ذاتها، دون وجود حلول ناجعة. يضاف إلى ذلك الواقع السياسي الذي يفرض عتمة على هذا الوضع؛ وهذه هي المشكلة.
المتدينون والتكيف مع عصر ما بعد الحداثة
- الدكتور خالد العرداوي، مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية:
إن الموضوع معقد للغاية؛ وحديثنا اليوم عنه لا يكفي، وربما تحتاج هذه الحلقة إلى مستوى أوسع، بحيث يكون «الآخر المختلف» حاضراً ليطرح نقاشاته حول هذا الموضوع؛ فالموضوع شائك جداً.
يقول الإمام علي (عليه السلام): «ليس الدين بالرأي، وإنما هو اتباع». وهذه حقيقة؛ فمن يريد اليوم أن يمضي وفق ما تريده السماء، فعليه أن يتبع إرادة السماء.
ولكن، أين تكمن المشكلة؟ ربما ما كنت أتمناه أيضاً من (صاحب الورقة) هو تحديد ما نقصده بالدين. فعن أي دين نتحدث نحن في هذه الجلسة؟
نحن نعلم أن معنى الدين في اللغة هو «الطريق»؛ وهو طريق يمثل رؤية الإنسان للحياة وللكون وللآخر، وتعبيره عن ذاته في ظل هذه الرؤية.
المشكلة هي أننا اليوم - وحتى الكثير من المتدينين منا - عندما نتحدث عن الدين وندافع عن حياضه، نتحدث وكأن لدينا ديناً واحداً؛ في الوقت الذي نصول فيه ونجول في ظل أديان متعددة، حيث يطرح كل طرف رؤية مختلفة للدين. فالشيعي يطرح رؤيته الخاصة للدين، والسني يطرح رؤيته الخاصة، والمسيحي يطرح نفسه كذلك؛ بل حتى الشيوعية قالوا: «نحن دين»، ولكن دين برؤية خاصة.
وهنا تضيع القضية في ظل هذه الفوضى؛ فوضى رؤية الدين كطريق لله. فأي دين لله نريد أن نتبع؟ وهذا بالطبع أمر معقد للغاية؛ وهو الذي يجعل الوعي الديني - أو دعنا نسمه «الحماسة الدينية» - هي التي تحافظ على هوية دين محدد."
"في ظل العصور الوسطى والعصور الحديثة، كان بإمكان النزعة الجماعية للأديان أن تحافظ على نفسها في ظل عصبية محددة؛ إذ كانت تستطيع الانغلاق على ذاتها دون أن تُخترق من الخارج، وذلك لغياب الأدوات المناسبة لهذا الاختراق. فبقيت كل جماعة دينية تنظر لنفسها على أنها هي «الجماعة المنصورة» أو الجماعة الموعودة. ولذلك، دأبت كل فئة دينية -منذ عهد آدم وحتى الآن- على اعتبار نفسها الفئة المنصورة التي ستصل وحدها إلى طريق الله.
وهذا ما مكنها من الحفاظ على هوياتها الدينية؛ فنقول مثلاً: العراقيون مسلمون محافظون على هويتهم الإسلامية، وكذلك في السعودية. وحتى عند البريطانيين؛ إذ تذكرون كيف كانت الكنائس (الأنجليكانية، والكاثوليكية، والأرثوذكسية) تحافظ على تمايزها. فكانت هذه الهويات تحافظ على نفسها في ظل العصور الوسطى، وحتى في ظل نزعة الحداثة.
أما ما حدث بعد دخولنا عصر «ما بعد الحداثة»، وعصر «سيولة القيم» و«سيولة الهويات»، فهو أن الإنسان بدأ يطلع على الآخر.
ففي السابق، كانت السرديات التي يطرحها حماة الدين أو حماة السلطة -في ظل هوية دينية مُعتقلة بحدود جغرافية وهوياتية معينة- قادرة على إقناع الناس، وربما خداعهم، ليظنوا أنهم بفضل الدين الذي يعتنقونه، إنما يعيشون في الجنة.
ولكن، عند حدوث الانفتاح في ظل ما بعد الحداثة والرؤية التكنولوجية؛ بدأ البشر يتعرضون لسيل من الهويات الأخرى، ورؤى الانفتاح على الآخر. وحينها، أولئك الذين كانوا يعتقدون أنهم الأفضل وأنهم «الطائفة المنصورة»؛ بدأوا يكتشفون أن النصر والفلاح لا يقتصران على مستوى الدين فحسب، بل يمتدان لمستوى الدنيا أيضاً. إذ وجدوا أن «الآخر» متقدم عليهم؛ متقدم اجتماعياً، ومتقدم في السلطة، ومتقدم في طبيعة العلاقات بين الذات والآخر. وهذا الأمر خلق لديهم -في الحقيقة- نوعاً من الاضطراب."
"وهنا، لا أريد أن أبرر للمتدين نزع دينه، ولكننا نريد أن نفهم كيف بدأ هذا المتدين يشعر بنوع من الاضطراب الداخلي؛ وذلك بعد أن عجزت المقولات التقليدية للدين عن الدفاع عنه أو الإجابة عن أسئلته. وهذا الأمر في الحقيقة هو الذي أدى إلى نشوء نوع من الاغتراب لدى المتدين نفسه.
ولنلاحظ أن حتى المتدين المقيم في أوروبا، قد اضطر للعودة ليفجر نفسه في البلاد الإسلامية، أو تحول إلى «ذئب منفرد» في البلاد الأوروبية، وذلك لأنه شعر بالاغتراب. فهناك نوع من الاضطراب الداخلي؛ وهذا يعني أن الدين الذي كان يحمله لم يستطع أن يوفر له الهوية والطريق الصحيح للنجاة.
والسؤال هنا: أين تكمن المشكلة التي تزيد الأمر تعقيداً؟ إن المشكلة الأكبر تكمن في أن المفكرين المتدينين أنفسهم لم يستطيعوا التكيف مع التطورات، ومع الحضارة الحديثة؛ إذ لم يتمكنوا من التكيف مع عصر ما بعد الحداثة، بمتغيراته وقيمه وأدواته الفاعلة.
إننا لا نفهم الدولة الحديثة، ولا نفهم المواطنة، ولا نفهم معنى «المواطن». لا نفهم الحقوق والحريات، ولا ندرك أنه في ظل الدولة الحديثة، الناس سواسية أمام القانون، وأن اختلافاتهم الدينية لا تعني عدم احترامهم، ولا تعني أن يقاتل بعضهم البعض الآخر.
ما زلنا نستورد الصراعات؛ صراعات الماضي، ونسقطها على الحاضر. وهذا الخطاب كان من الممكن تسويقه، وكان من الممكن أن يمرر الخداع، لو كانت البيئات لا تزال منغلقة، والحدود الجغرافية موصدة."
"لكن الأجيال الجديدة أصبحت تريد أشياء أخرى؛ تريد أن تعيش حياتها. فابن جيل 2005 أو 2006 أو 2010، لا يريد أن يعيش حياة في صراع مع الآخر؛ بل يريد أن يعيش حياة ينسجم فيها مع نفسه، وينسجم مع الآخر، وينسجم مع الكون، وينسجم مع الحياة.
وهو يريد أيضاً رؤية جديدة يزوده بها الخطاب الديني، بحيث يستطيع من خلالها أن يبني نفسه وذاته، ويبني مؤسساته ودولته، وكذلك السلطة التي تحكمه. إنه يريد خطاباً دينياً يقف إلى جانبه في مواجهة الحاجات والمشكلات التي يتعرض لها.
ولكننا لاحظنا -وللأسف- كيف أن الخطاب الديني في العراق بعد عام 2003 أصبح «خطاباً تبريرياً»؛ خطاباً لا يجيب عن أسئلة الأجيال الجديدة التي نقول اليوم إنها أصبحت تعيش الاغتراب.
إن هذه الأجيال تخرج في يوم عاشوراء لزيارة الحسين (عليه السلام)؛ لأنها تشعر بأنها ابنة هذه الهوية الدينية. ولكنها بعد الزيارة، تجد أنه لا يوجد من يقف إلى جانبها ليحول هذه الهوية الدينية إلى «هوية حياتية»؛ هوية تبني سلطة جديدة، وتبني إنساناً جديداً، وتبني علاقات جديدة.
ولذلك، أعتقد أنه إذا بقي الوعي الديني ووعي الخطاب الديني بهذه الطريقة؛ خطاباً تبريرياً، وخطاباً تسقيطياً، وخطاباً يقوم على استحضار الماضي بطريقة سيئة للحكم على الحاضر؛ خطاباً لا يبين لنا مقاصد الشريعة بشكل واضح... فإن الأزمة ستستمر.
إذا لم يتغير الخطاب الديني، ولم يستطع أن يساعد الإنسان -كإنسان- في حل مشكلاته، وفي بناء ذاته، وبناء الدولة والمجتمع الذي يعيش فيه؛ فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة، وسنصل في النهاية إلى خسارة أجيالنا الجديدة.
وإذا استمر الأمر على هذا الحال، فربما تتحول هذه المجتمعات التي نتحدث عنها اليوم والتي نعدّها مجتمعات دينية ونحرص على الحفاظ على هويتها، لتصبح في يوم من الأيام مجتمعات غير دينية. وحينها سيأتي زمان ينطبق فيه القول: «القابض على دينه كالقابض على الجمر».
علمانية شاملة تهدف لإقصاء الدين
- الاستاذ علاء الكاظمي، باحث اكاديمي:
ان الصراع مع الدين -وتحديداً صراع الرغبات الإنسانية معه- هو صراع قديم جداً وممتد من البداية. وعادةً ما كان الدين وأهله يمثلون القلة القليلة، في مقابل الكثرة الكاثرة التي تمثل الرغبات الإنسانية المنفلتة؛ تلك التي لا تريد أن تضع لنفسها حدوداً معينة، بينما الدين -بحد ذاته- يضع قيوداً وحدوداً لكافة الرغبات الإنسانية. وهذا الأمر هو ما لم تكن المجتمعات تتقبله عادةً.
أما القول بعدم وجود قراءة دينية؛ فنحن نقول: لا، إن القراءة الدينية موجودة، ولكن المشكلة تكمن في الأغلبية التي ترفض هذه القراءة بشكل أو بآخر. وهي في الوقت نفسه لا تكتفي بالرفض، وإنما تعلن الحرب بأسلحة متعددة ومتنوعة.
ففي السابق، كانت الإشكاليات التي تُطرح ضد الدين تأتي إما بطريقة الاستهزاء، وإما عبر الاتهامات، أو من خلال فرض العزلة الاجتماعية على الأفراد المؤمنين. وهذه العزلة لم تطل الأفراد فحسب، بل طالت حتى أفكارهم ومعتقداتهم وآراءهم.
ان «ما بعد الحداثة» تستند إلى «ما قبل الحداثة»، وإن مرت بفترة الحداثة. فعادةً، حينما نقرأ تلك الفترة التي قامت فيها الثورة الفرنسية وما تلاها، وكيف تشكل الفكر الإنساني حينئذ؛ نجد أن صفحة من صفحات التاريخ قد انطوت، وبدأت صفحة جديدة فيما يُعرف بـ «ما بعد العلمانية»."
"إذا دقق المرء قليلاً في سير العلماء الذين برزوا في مرحلة ما بعد العلمانية - سواء علماء الاجتماع، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو الطب - سيجد ما تم تدوينه في كتاب «إيمان فاقد الأب: نفسية الإلحاد» (للمفكر بول فيتز).
يقول المؤلف: إن العلماء الذين ظهروا في الفترة التي تلت الثورة الفرنسية، كانت تجمعهم فكرة مركزية واحدة؛ فإذا تصفحت كل مؤلفاتهم في الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات، تجد أنها عملت على إزاحة فكرة الإله من الوجود.
ففي المصادر التعليمية؛ نرى الرياضيات وهذا الانسجام الدقيق، ونرى ذلك الفضاء الهائل في الكيمياء والفيزياء؛ ورغم كل الدقة التي تتميز بها هذه العلوم، إلا أنه لا يُذكر لك من يقف خلف هذه الدقة. فبعد أن كانت فكرة الله سبحانه وتعالى حاضرة سابقاً في كل المناهج الدراسية والتعليمية؛ جاءت الفكرة العلمانية لتشن حرباً عليها، فأقصت ذكر الله تماماً.
ويذكر هذا الأستاذ -الذي كان ملحداً في الأصل- في كتابه قائلاً: إننا الآن في أمريكا نُدَرّس لطلبتنا كل شيء يتعلق بالجنس، ونخوض في تفاصيل دقيقة؛ ولكنك لا تستطيع أن تنطق بكلمة «الله» في المدرسة، ولا يمكنك الإتيان على ذكره سبحانه وتعالى.
إذن، هناك تشكل فكري جديد حدث ما بعد الثورة الفرنسية؛ تشكلٌ قائم على عملية إقصاء للدين، وهي علمانية شاملة تهدف لإقصاء الدين من المجتمع ككل، سواء عبر الإلغاء أو المنع.
ولنأخذ مثالاً آخر: «التنمية البشرية». لو دققت في أساسها، ستجد أنها تهدف إلى تضخيم دور الإنسان على حساب الله. ولذلك ترى الإنسان الغربي اليوم، وإن كان يعتقد بوجود الله، إلا أن وجود الله بالنسبة له هامشي؛ فهو يعتمد كلياً على الحسابات الرياضية واجتهاده الشخصي. ففكرة الله بالنسبة له غير حاضرة بفاعلية؛ هي مجرد فكرة مجردة، وليست إيماناً عقائدياً راسخاً.
كذلك هناك كتاب بعنوان «الإسلام المتشدد» للمؤلف (ج. هـ. جانسن)، يشير في الحقيقة إلى الآلية التي بدأوا بها حربهم مع الإسلام. فنحن نعلم أن مصادر التعليم سابقاً كانت تتمثل في «الكتاتيب»، والتي كانت تُخرّج لنا علماء في الكيمياء والفيزياء والرياضيات وغيرها؛ فقد كان هناك قوة في العقائد وقوة في الدين.
ويشير المؤلف إلى الطريقة التي استخدمها الاستعمار، وتحديداً فيما يخص نظام الكتاتيب؛ إذ يصفه بأنه -على الرغم من أصالته- كان يوفر أساساً يمكن أن يُبنى عليه شيء أكثر حداثة. ولكن، تم تدمير هذا النظام أو السماح بانهياره من خلال ما سماه بـ «الإهمال الحميد» من قبل الأنظمة الاستعمارية.
والمقصود بـ «الإهمال الحميد» هنا؛ هو أنهم جلبوا علوماً حديثة جعلت الناس تتعلق بها تلقائياً وشيئاً فشيئاً، مما أدى بالمقابل إلى حدوث إهمال تدريجي للفكرة الدينية والارتباط الديني.
ويؤكد الكتاب أن الاستعمار لم يؤثر على المجتمع المسلم عبر حروبه طيلة مائة وخمسين سنة، بقدر تأثيره من خلال إضعاف وإرباك عملية التعليم. فقد كان الهدف من التعليم الاستعماري هو تخريج كَتَبَة وحرفيين بأعداد كافية لضمان استمرار عمل الآلة الاقتصادية.
أما مفردة «التعليم الديني»، فقد أُقحمت في التعليم المدرسي بسبب ظروف اجتماعية وسياسية معروفة. وقد تم تدوين مناهج التربية الدينية دون الرجوع إلى أهل الاختصاص؛ فالمناهج المعتمدة في مدارسنا لا يشرف عليها علماؤنا المختصون. وهذا الأمر أدى إلى نتيجتين: الأولى: عدم انسجام منهج التربية الدينية مع المنهج الأكاديمي القائم على الحس والتجربة."
"النتيجة الثانية: أن مدونة التربية الدينية باتت مليئة بالمصادفات واللامنطقية؛ وبالتالي فهي ليست مقنعة لا للمعلم ولا للمتعلم.
وقد أدى هذا الوضع إلى نتائج تتراوح بين الإفراط والتفريط: فمن جانب، حصل إحجام عن الدين ولّد العلمانية والحداثة. ومن جانب آخر، حصل تطرف أدى إلى ظهور الاتجاهات السلفية والنصية.
وعليه فإن قضية الحرب على الدين هي في الواقع قضية مدروسة. لقد جاء عالم ما بعد الحداثة بهذه التكنولوجيا الواسعة، وبهذه الأفكار التي أصبحت في متناول اليد.
في السابق، كنا محصورين في مصادر محدودة؛ نقرأ الجريدة أو نجلس في الجامع، وكان هذا هو كل مصدر للمعرفة. أما اليوم، ومع توسع مصادر المعرفة والتركيز على ضرب الدين، فقد تسبب ذلك في حالة من «الميوعة».
ورغم هذه الميوعة، أعتقد أننا -أصحاب الفكر الديني الصحيح- يمكننا الاستفادة من هذا الوضع أيضاً. وحينما تُنشر بعض القضايا السلبية، تكون هناك ردة فعل قوية من قبل الإنسان المؤمن، وهذه الردة تأتي بنتيجة إيجابية؛ إذن، هي سلاح ذو حدين. وأتمنى أن نكون على قدر المسؤولية، وأن نستخدم هذه الأدوات في الاتجاه الصحيح."
العودة إلى الجذور
- الدكتور علاء الحسيني؛ باحث في مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات:
فيما يتعلق بمصطلح «التدين السائل»؛ فهو يحتاج إلى وقفة جادة ودراسة معمقة، لنقف على الأسباب التي أدت إلى نشوء هذا المفهوم، وإلى الظواهر التي نشاهدها اليوم بأم العين.
وفيما يخص السؤال حول تأثر الهوية الدينية في عصر التكنولوجيا الرقمية: ففي الحقيقة، إن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم -بما تحمله من جوانب إيجابية كبيرة- تعد ملتقى واسعاً للعلوم والثقافة والتكنولوجيا، وميداناً لتلاقح الأفكار وتلاقي الحضارات، والتعامل الحضاري. فهي بلا شك قدمت للإنسانية شيئاً عظيماً.
لكنها في الوقت نفسه لا تخلو من مخاطر. فالجيل الجديد الصاعد يكاد يكون غير مهيأ للاختلاط بثقافات أخرى؛ نظراً لعدم ترسيخ الجوانب العقائدية والدينية لديه، ولأنه لم ينل حظه الوافي من الدراسة والتعمق في هذه المسائل، ليكون محصناً ضد الأفكار المتطرفة، أو اللادينية، أو حتى تلك الأفكار الدينية التي هي في حقيقتها مناوئة لجوهر الدين.
فاليوم، نجد أن الأفكار «الإخوانية» والسلفية أو الأفكار المنحرفة، تقود الشباب إلى مهاوٍ خطيرة، وتجعلهم يشككون في بعض الأمور والثوابت، وقد تقودهم في النهاية إلى حالة «اللا يقين». وهذه الحالة تجعل من الشاب شخصية هزيلة، غير مؤثرة، وغير قادرة على الدفاع عن الدين والعقيدة والثقافة، أو الحضارة التي ينطلق منها وينتمي إليها."
"في الواقع، نحن بحاجة ماسة إلى العودة إلى الجذور؛ أي إعادة هذا الجيل إلى أصوله من خلال تفعيل العديد من القنوات التي استفدنا منها نحن وجيلنا والأجيال التي سبقتنا إلى حد كبير. وأعني بذلك الحلقات النقاشية مع رجال الدين الحقيقيين؛ المتدينين حقاً.
وهنا أقصد التمييز بين التدين الحقيقي وبين «الإسلام السياسي» المتصدر للمشهد اليوم، أو أولئك الذين يشغلون الواجهات السياسية ويرتقون المنابر وهم في حقيقتهم يمثلون إسلاماً سياسياً، وليس الإسلام الحقيقي النابع من عقيدة محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين).
وفيما يتعلق بالحلول المقترحة لإعادة تشكيل الوعي الديني، أتصور أن الأمر يتطلب تضافر جهود الجميع:
أولاً: جهود الأسرة بالدرجة الأساس. فإذا لم يمتلك الأب والأم القدرة على بناء شخصية الطفل، وإعداد النشء والشباب القادمين إلى الحياة، وتهيئتهم ليكونوا قادرين على مواجهة هذه العواصف الفكرية والعقائدية؛ فإننا قد لا ننجح في مهمتنا.
ثانياً: دور المدرسة. فلا ننسى الدور الكبير جداً للمعلم والمعلمة؛ فهو دور تربوي وتنشئوي قادر على التأثير في شخصية الطالب، لا سيما وأنه لا يزال في بداية حياته وعوده غض وطري، حيث يكون مستعداً للاستماع والحفظ والاستفادة. ويمكننا هنا استثمار الدروس الثقافية أو ذات الطابع الحضاري لزرع الثقة بالنفس لدى الطالب؛ بحيث يكون محصناً ولا يتأثر كثيراً حينما يتعرض للأفكار الهدامة.
ثالثاً: دور مؤسسات المجتمع المدني. ونقصد بها مختلف المؤسسات، بدءاً من مؤسسة العشيرة أو القبيلة، مروراً بالمؤسسة الدينية والمؤسسات الأخرى، ووصولاً إلى مؤسسة العمل التي يختلط فيها الشباب. إذ ينبغي أن تتكامل أدوار هذه المؤسسات جميعاً، لنتمكن من تعبئة شبابنا وجعلهم قادرين على مواجهة هذه المخاطر."
سيولة نافعة وسيولة ضارة
- الأستاذ علي حسين عبيد، كاتب وباحث في شبكة النبأ:
لقد استمعت اليوم من سماحته إلى أفكار تستحق كل التقدير والاحترام؛ لأنها تصب في صالح تطوير المجتمع، وتطوير عقلية الشباب، والارتقاء بالعقل الجمعي؛ فنحن نعيش في عصر يحتم علينا الاطلاع على معلومات من هذا النوع.
وقد تبادر إلى ذهني أثناء طرحكم لهذه المحاضرة القيمة، أن صفة «السيولة» أو الحالة السائلة قد أخذت هنا الجانب السلبي. لكنني أعتقد أن هناك نوعين للسيولة: سيولة نافعة، وسيولة ضارة. فليست كل حالات السيولة تعد سلبية.
كيف ذلك؟ لو أخذنا «السيولة في جانب القيم» مثالاً؛ فلو بقيت القيم المتخلفة جامدة (قارة) وغير سائلة، فهذا يعني أننا سنظل نعيش في ظل تلك القيم المتخلفة مدى الحياة. ولكن الجانب السائل والمتغير هو الذي ينقل تلك القيم من صفتها السلبية إلى الصفة الإيجابية.
ولدينا أمثلة كثيرة أيضاً، منها عقلية الإنسان وأفكاره. فهذا التقدم الهائل الذي حدث في العالم هو نتاج لسيولة الأفكار وسيولة العقل؛ حيث نقلت البشرية من الوضع السلبي أو العادي إلى العقلية العلمية الكبيرة التي أوصلت العالم الآن إلى حالة التطور الكبير في كل جانب.
أما «السيولة الضارة»، فهي تلك المتعلقة بالتدين؛ وهذه لا بد أن تُعالج ولا بد أن تُرفض. فالتغيرات المنفلتة في الجانب الديني غير مقبولة وغير مسموحة؛ إذ لا يجوز أن يتم تفسير النصوص القرآنية الكريمة كما يرى الإنسان أو كما يشتهي، بل لا بد من وجود قواعد تحكم هذا المجال. ومع ذلك، حتى النصوص الدينية قد تنطبق عليها صفة السيولة (بمعنى المرونة وتجدد المصاديق). ومثال ذلك الآية القرآنية: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾. ففي واقعنا الحالي، قد يبدو ظاهر اللفظ (رباط الخيل) أمراً انتهى زمانه؛ ولكن نتيجة للسيولة في الأفكار، واتساع المعاني والمضامين للنصوص الدينية، فإن المفهوم يمتد ليشمل الطائرات المسيرة، والتطور في العلوم الأخرى، وغيرها من مصاديق القوة."
التحصين الرقمي والوعي الإعلامي
- حيدر الاجودي؛ باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:
لقد تعرضت الهوية الدينية عبر الأزمان -وخصوصاً في الفترات الأخيرة- إلى ضغوطات، وتحديداً إلى «ضغط مزدوج»: ضغط من الثورة الرقمية، وضغط من فلسفات ما بعد الحداثة. وهذا ما أدى إلى تولد مصطلح «التدين السائل»؛ والذي أعتقد أنه تدين غير مستقر، ومشتت، ومتحول أيضاً؛ لأنه يفتقر إلى الأسس والجذور المعرفية الدينية الحقة، كما يفتقر إلى الالتزام الأخلاقي، مما ولد مشكلات عديدة ذكرتها الورقة.
ومن المشكلات التي تولدت نتيجة هذه التأثيرات: «هيمنة الفضاء الرقمي على تشكيل الوعي». فقد أصبح الإنترنت ووسائل التواصل اليوم هي المصدر الأهم للمعلومة الدينية؛ مما أدى إلى تشتت المرجعيات، والاعتماد على مصادر علمية قد تكون غير موثوقة.
وقد أدى هذا الأمر أيضاً إلى تسلط «الخطاب العاطفي» على حساب «الخطاب المعرفي»؛ لافتقاره إلى الكثير من المصادر الحقة. فالمتتبع أحياناً لا يكلف نفسه عناء الرجوع إلى المعلومة الصحيحة أو تدقيق المصدر، وهذه مشكلة بحد ذاتها.
والمشكلة الأخرى هي «تفكك السلطة المعرفية»؛ إذ أصبحت ما بعد الحداثة تشكك بالحقيقة المطلقة، وتعتمد على مفهوم الرأي الذاتي أو الانطباع. وهذا ما يولد حالة يعتمد فيها الفرد -بدلاً من المفهوم الديني الصحيح والموضوعي- على ما يهواه هو بالذات (الذاتية مقابل الموضوعية).
وبالمقابل، أدى هذا الأمر إلى ضرب الثوابت، والتشكيك حتى في المرجعيات والفقهاء، والتشكيك في الثوابت الدينية الأصيلة."
"الأمر الآخر، أو المشكلة الأخرى، هي «الفردانية». ففي عصر ما بعد الحداثة، أصبح الإنسان هو من يصنع دينه بذاته؛ إذ يتبنى كثيراً من المعتقدات بناءً على انطباعات شخصية، وسعياً للراحة البدنية أو النفسية، لا بدافع الالتزام. فهو لا يقوم بالعمل بدافع الالتزام، بل لأن الرأي العام يوجهه نحو ذلك؛ كأن يتجه إلى مكان معين لالتقاط الصور أو لتصوير مقطع فيديو ونشره. فالدافع هنا هو الراحة النفسية، وليس الالتزام الأخلاقي.
وقد أدى هذا الأمر إلى فقدان العمق الروحي، أو ما يسمى بـ «الاغتراب الروحي»؛ ومعناه أن يلتزم الإنسان بالدين شكلياً ولكنه يفتقد الالتزام الباطني. وهذا في الحقيقة يؤدي إلى مشكلات كثيرة، ربما تصل إلى فقدان الانتماء الديني الصحيح؛ فيغدو التدين بلا تأثير أخلاقي، وتصبح الشعائر بلا وعي، وتضيع الهوية الدينية.
أما الحلول المقترحة: فأعتقد أن «التدين السائل» لا يحتاج إلى صدام مباشر أو منع، بقدر ما يحتاج إلى تجديد في الخطاب الديني؛ لننتقل به من كونه خطاباً انفعالياً، أو خطاباً تاريخياً مجرداً (يعود بالناس إلى التاريخ دون تقديم جديد)، ليكون خطاباً يتخذ من التاريخ أساساً واعتباراً لبناء الحاضر. نحتاج إلى خطاب يحل مشكلات الناس، وخصوصاً الجيل الجديد (أو الأجيال المتأخرة)، بحيث يعالج مشكلاتهم ببساطة، ويثبت أن الدين قادر على حل مشكلات جميع العصور؛ فالدين لا يقتصر على عصر واحد أو جيل واحد، بل هو منهاج شامل يمتلك جميع الحلول. كما نحتاج في الحلول إلى «ترسيخ العمق الروحي»، وألا نكتفي بالشكليات؛ فالإنسان لا يرتبط بالتدين الشكلي فقط. والأمر الآخر هو توظيف التكنولوجيا عبر «التحصين الرقمي» و«الوعي الإعلامي»؛ للتمييز بين المعلومة الصحيحة وبين الشائعة، وهذا أمر مهم جداً. كذلك يجب التعامل مع الخوارزميات بخوارزميات مقابلة، وضبط الاستهلاك الرقمي.
وتعد هذه النقاط كلها من عناصر التعامل مع ما بعد الحداثة، والتي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالإنسان المتدين؛ وذلك لكي يبني قاعدة صلبة للتدين يصعب تفككها، ويتحصن ضد التدين الشكلي والسائل، محققاً المعادلة الدقيقة: ألا ينعزل عن العصر، وألا ينصهر فيه.
فهم ومعالجة التدين السائل
- الأستاذ حامد الجبوري، باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:
نتمنى أن تكون هذه الطروحات حاضرة دائماً ضمن الحلقات الشهرية؛ فهي -بصراحة- مواضيع جوهرية تصب في الجانب الاجتماعي والثقافي، الذي يشكل دائماً محفزاً إما للتقدم نحو الأمام أو للتراجع إلى الخلف. فالعمل على هذه المواضيع يمثل دافعاً لتصويب مسار المجتمع فيما يتعلق باعتناقه لأي ثقافة.
أولا لم يتم توضيح الفرق بين «الدين» و«التدين» بشكل كافٍ؛ وأعتقد أن هناك فرقاً جوهرياً بينهما. ولو تم هذا التمييز، لكان النقاش أكثر موضوعية؛ لأن بعض المداخلات اتجهت نحو الحديث عن «التدين» الذي يمثل سلوك المجتمع، بينما «الدين» يمثل الجانب النظري أو الروحي. كما لوحظ وجود انتقال وتداخل بين الحديث عن الدين والأخلاق، مما أدى إلى نوع من التشظي والتشتت في طرح بعض المداخلات.
كما تم التركيز غالباً على «الإسلام» -باعتبارنا مسلمين- مع ذكر المسيحية أو اليهودية أو الديانات الأخرى؛ بينما نحن بصدد مناقشة موضوع «الدين» كمفهوم عام، وليس مناقشة الأديان بحد ذاتها -سواء كانت سماوية أو غير ذلك- وتفرعاتها السلوكية في المجتمع.
وذُكر أيضاً موضوع «الدين الحقيقي» و«غير الحقيقي». وهذا الأمر يحتاج إلى توضيحات؛ لأن أتباع كل دين يدّعون أن دينهم هو الصحيح وأن غيره خطأ. وكذلك مناقشة مقولة أن «الدين يمتلك جميع الحلول».
وأتصور أن الموضوع يتطلب إعادة النظر في مسألة جوهرية تصحح المسار، وهي: هل الدين هدف أم وسيلة؟ فإذا لم تُحسم هذه القضية، سيبقى الموضوع عالقاً في دائرة «التدين السائل»، وسيُفسر الدين وفق اتجاهات كل فرد.
والسؤال هنا: هل الأصل هو الدين أم الإنسان؟ هذه نقطة بالغة الأهمية وتحتاج بحد ذاتها إلى محاضرات؛ لأن واقعنا اليوم يحتم علينا أن نسأل: هل الدين غاية بحد ذاته، أم هو وسيلة لسعادة الإنسان؟
ومن المشكلات الرئيسية أيضاً: طغيان الرأسمالية؛ حيث أخذت المجتمعات تنظر للمال كهدف بحد ذاته وليس كوسيلة. وهذا الانحراف في المفهوم ألقى بظلاله أيضاً على موضوع التدين السائل، مصداقاً لما ذكر «حيثما دارت معايشهم».
ان الحلول المهمة تكمن في إعادة النظر في هذين المفهومين: الدين.. هل هو وسيلة أم غاية؟ والمال.. هل هو وسيلة أم غاية؟ فهذا المفتاح لفهم ومعالجة التدين السائل."
إعادة تشكيل الوعي الديني
- محمد علاء الصافي؛ باحث في مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث:
عصر ما بعد الحداثة هو عصر «اللا يقين» وعصر غياب الثوابت؛ إذ يمكن اختصاره بأنه عصر صراع الأفكار، ودحض النظريات السابقة التي قامت عليها البشرية لمئات أو آلاف السنين.
وبالنتيجة، يمثل هذا العصر أكبر تحدٍ يواجه الدين والمجتمعات الدينية. ومع ذلك، فإن ما بعد الحداثة لا تستهدف المجتمعات المتدينة أو الدين بشكل حصري ومباشر، بل واجهت كل الأفكار؛ فهي بمثابة إعادة تقييم للتجارب البشرية الممتدة لآلاف السنين.
وهذا العصر -الذي بدأ تقريباً بعد الحرب العالمية الثانية وما زلنا نعيشه- يصطدم بفكرة الدين؛ لأن الدين فكرة «ثابتة»، بينما عصر ما بعد الحداثة غير ثابت وقابل للتغيير. والدليل على ذلك أن الشيوعية مثلاً تم تفكيكها وضربها، وحتى الرأسمالية تمحورت وتحولت إلى عدة أشكال.
القضية الثانية التي يركز عليها عصر ما بعد الحداثة هي التوجه نحو «الفردانية»؛ أي تحول المجتمع إلى أفراد، بحيث يمثل كل فرد مجتمعه الخاص، بدلاً من مجتمع الجماعات أو القوميات. ونحن نعلم أن المجتمع الديني هو في جوهره «مجتمع جماعات».
ورغم تأثر مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم بأفكار ما بعد الحداثة، وهيمنة التكنولوجيا والرقمنة؛ إلا أننا لا نزال -حتى هذه اللحظة- «مجتمعات جماعات» (شيعة، سنة، أكراد، دروز، عجم، أتراك... إلخ). فنحن لم نصل بعد إلى مرحلة «المجتمعات الفردانية» الكاملة.
بينما نجد النظام الغربي الليبرالي اليوم قائماً تماماً على الفردانية. ويتجلى ذلك في التحول نحو وسائل التواصل الاجتماعي، والميتافيرس، والذكاء الاصطناعي؛ فكلها تعزز المجتمع الفردي. إن التكنولوجيا تريدك أن تتحدث مع هاتفك، فهو الذي يعطيك الأفكار ويجيب عن أسئلتك، بحيث لا تعود بحاجة إلى صديق، أو أب، أو أخ ليكون موجهاً لك؛ فالجهاز هو البديل والموجه.
وحينما نعود لكيفية تسويق هذه الأفكار، نجدها تُمرر عبر السينما والكتب. فما كنا نراه قبل 20 أو 25 سنة في الأفلام ولم نعتقد بواقعيته، نراه اليوم متحققاً. وهذا يثبت أن هذه التكنولوجيا والأفكار كانت مستخدمة ومدروسة لديهم قبل عقود؛ فهم يسبقوننا دائماً بـ 25 أو 30 سنة، حيث يختبرون التجربة على مجتمعات خاصة، وحينما يرون أنها تؤتي أكلها، يتم تعميمها على البشرية جمعاء.
"فيما يخص الحلول المقترحة لإعادة تشكيل الوعي الديني؛ أعتقد أن المسؤولية تقع على عاتق المرجعيات الدينية والعلماء - وتحديداً نحن كشيعة أهل البيت - للقيام بـ «إعادة قراءة النصوص الدينية». فالسؤال الجوهري والمهم جداً هو: من يمثل الدين اليوم في عصرنا هذا؟ هل تمثله المملكة العربية السعودية كواجهة للعالم الإسلامي؟ أم تمثله الجمهورية الإسلامية في إيران من وجهة نظرها؟ ووفق أي رؤية، ولأي عالم أو فقيه؟
وهنا نأتي إلى قضية التعريفات؛ فمن خلال اطلاعي على كثير من البحوث والنقاشات الدائرة في الأزهر، أو لدى العلماء والمفكرين في المغرب العربي؛ نجد أن أغلبهم يرى أنه من غير المنطقي أن أفسر وجودي وحياتي في عام 2025، استناداً إلى ما فسره الشافعي أو المالكي أو الحنبلي قبل 1200 أو 1300 سنة.
لقد تغير المجتمع، وتغيرت الأفكار، وتبدلت الأنماط وكل شيء تماماً. فليس من المنطق أن أسير على تفسير وضعه بشر؛ فهو في النتيجة «نص بشري وتفسير بشري» وليس نصاً إلهياً مقدساً بذاته (أي التفسير لا النص).
وبالتالي، يجب تفكيك مفاهيم التدين والدين والمذهبية. فالمسألة لا تقتصر على أن الغرب يواجهنا ويريد محو تديننا؛ بل إن تديننا نفسه أشكاله متعددة وليس شكلاً واحداً ثابتاً. فالتدين في كربلاء يختلف عنه في بغداد، ناهيك عن اختلافه في سنغافورة أو زيورخ وغيرها. فكل مجتمع يتشكل لديه التدين وفق فهمه وعاداته وبيئته.
لذا، أعتقد بضرورة إعادة القراءة وإعادة التفسير، وكذلك «تجديد وتحديث الخطاب الديني» ليتوائم مع تحديات العصر. فاليوم، أي معلومة يذكرها عالم أو مرجع أو خطيب، تنتشر خلال لحظات في الفضاء الرقمي، وقد تتحول إلى مادة للسخرية إذا كانت معلومة خاطئة، أو تحليلاً بعيداً عن الأخلاق والمفاهيم الإنسانية المعاصرة.
وهذا ما يؤدي بالنتيجة إلى تشكل نظرة سلبية تجاه الدين بدلاً من النظرة الإيجابية، ويعيق مهمتنا في كسب الشباب والمجتمعات الجديدة وسط هذه التحديات."
غياب الفهم الحقيقي للدين
- محمد علي جواد تقي؛ إعلامي وكاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:
موضوع جوهري يناقش مسألة بالغة الأهمية تتعلق بالعقيدة، وهي مسألة «التدين السائل» أو ما يمكن تسميته بـ «الهشاشة في التدين». واختيار مصطلح «السيولة» -الذي يستخدم عادة في القضايا المادية والفيزيائية- وإسقاطه على الجانب المعنوي والنظري، هو اختيار موفق ودقيق.
وبدايةً، يمكنني قراءة العنوان وتقريبه من خلال مفهوم «الاغتراب الديني»؛ وهو الحالة التي نعيشها في مجتمعاتنا، وتحديداً في المجتمع العراقي اليوم.
وقبل الإجابة عن الأسئلة المطروحة، لدي مقدمة سريعة حول علاقتنا بـ «الآخر» (الغرب/ الحداثة/ التكنولوجيا): أنا أرى أن «الآخر» -الذي نراقب تحركاته ونتاجاته عبر الإنترنت ووسائل الإعلام- لا يشكل التحدي الجوهري لقضية التدين لدينا. السبب يكمن في أن هذا «الآخر» لا يمتلك بديلاً دينياً يطرحه ليجذبني إليه. فحتى لو كنت أعاني من هشاشة في التدين أو ضعف في العقيدة، فإن الطرف الآخر لا يستغل هذه الهشاشة ليحولني إلى ديانة أخرى.
ورغم إقراري بوجود مؤثرات خارجية، إلا أنني أؤكد أن القضية هي «قضية داخلية» في المقام الأول. فالتأثير الأهم، والبصمات القوية والمؤثرة في هذه الأزمة، نابعة من داخلنا؛ من داخل «البيت الإسلامي» وتحديداً البيت الشيعي في وضعنا العراقي. فنحن من نعاني من اغتراب ذاتي، والخلل ينبع من عمق واقعنا لا من الخارج فقط.
المشكلة الجوهرية تكمن في فقداننا لـ «الاعتزاز بالتدين». وهذا ما جعلنا نعيش ونلاحظ حالة من الهشاشة، والسيولة، وعدم الاتزان والرصانة. فالمشكلة تتجلى في أن الإنسان المتدين بات يتردد في الإفصاح عن هويته الدينية أو التحدث بعقيدته في العلن. وحتى في أوساطنا الشيعية قد يلجأ البعض إلى وضع مسميات أو أطر أخرى بديلة؛ فيُعرف نفسه مثلاً بصفته العلمية (كعالم فيزياء أو كيمياء) متجنباً الإشارة إلى هويته الدينية.
وقد يتذرع البعض برغبته في تجنب «الطائفية»؛ متأثراً بالإعلام الذي يحث على ترك المسميات الخاصة (كالشيعي) والذوبان في عناوين عامة وفضفاضة (كالإسلامي العام أو الإنساني). وحينما يتبنى المتدين هذا الخطاب، وتُمارس عليه ضغوط ثقافية بهذا الاتجاه؛ فمن المؤكد أن تتولد لديه هشاشة في الانتماء، ويزداد اغترابه.
وهنا نصل إلى نقطة غياب الفهم الحقيقي للدين؛ فنحن لسنا لصيقين بالدين، ولا ندرك ماذا يريد منا بالضبط؟ هل الدين مجرد منظومة عقدية وشعائر وطقوس (كصوم رمضان ومراسم محرم)؟ أم هو «نظام حياة متكامل»؟
فالدين في جوهره هو «منظومة لإدارة حياة الإنسان». فكما كان الإنسان في زمن المسيحية مستقيماً بتطبيقه للأحكام التي تناسب عصره وزمن النبي عيسى (عليه السلام)؛ جاء الإسلام كدين جديد أكمل وأشمل لكل جوانب الحياة. وهذا ما يقر به حتى بعض المفكرين والعلماء غير المسلمين. فلو توفر هذا الفهم المتكامل للدين -باعتباره حلاً لكل مشاكل الحياة- لما شهدنا هذه الهشاشة، ولما وقعنا في فخ الاغتراب الديني الذي نعاني منه.
وحول الحلول المقترحة لإعادة تشكيل الوعي الديني، فسأختصر الحديث بالتركيز على: «القدوات العملية». ونقصد بها الرموز الدينية التي تمثل واجهة الدين أو المذهب. فإذا لم تمثل هذه الرموز الجانب العملي والتطبيقي للكلام الذي تدعو إليه؛ فإن المجتمع لن يعتز بالتدين، ولن ينتمي إليه بصدق، ولن يتعمق فيه. وسيبقى الناس حينها متمسكين بـ «التدين القشري» والممارسات الظاهرية فقط، دون جوهر حقيقي."
بناء وعي ديني نقدي
- الباحث حسين علي حسين عبيد؛ مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية:
المشكلات التي تؤثر على الهوية الدينية لخصتها في عدة محاور:
المحور الأول: انفجار المعلومات وفوضى المصادر. نعاني اليوم من كثرة المحتوى الديني، ولكن المشكلة تكمن في تباين جودته وتوجهاته؛ فهناك محدودية في التوجيه الصحيح. فعلى سبيل المثال، نجد محتوى يصدر من شخصيات غير مختصة، وفي المقابل نجد محتوى لشخصيات منبرية معروفة. وهذا الاختلاف يخلق إرباكاً؛ فهناك ما يوجهك للطريق الصحيح، وهناك ما يذهب بك إلى مسارات أخرى.
المحور الثاني: الفردانية المفرطة. نلاحظ أن أغلب مستخدمي الإنترنت يتجهون نحو قضايا «التنمية البشرية». وهذه القضايا تجعل من الإنسان هو المعتمد الأول والأساس لنفسه؛ وما دام الفرد قد أصبح هو المركز، فإنه سيبتعد تدريجياً عن الدين، معتبراً نفسه المسيطر الوحيد على حياته وقراراته بعيداً عن التوجيه الديني.
المحور الثالث: ثقافة الاستهلاك السريع. تصلنا أغلب معلوماتنا اليوم عبر الهاتف المحمول من خلال مقاطع قصيرة (لا تتجاوز الدقيقة والنصف). وهذه المقاطع، إن لم نسيطر عليها، قد تقدم محتوى غير صحيح ومغلوطاً. وهي تشكل خطورة خاصة على المراهقين؛ لأنهم يتأثرون بها بسرعة، وقد يقتنعون بها لعدم اطلاعهم على مصادر أخرى أعمق.
المحور الرابع: العولمة الرقمية وتذويب الخصوصية. بسبب الانفتاح الكبير، أصبح الوصول لأي ثقافة أمراً سهلاً وطبيعياً. وحيث إن الإنسان يمتلك رغبة فطرية في المعرفة، فقد يعجب بجزئية معينة من ثقافة مغايرة (ككتب الفلسفة أو علم النفس)؛ وإذا تعمق فيها دون تحصين، قد يتغير تفكيره بالكامل ويبتعد ابتعاداً كلياً عن الدين.
أما (الحلول المقترحة)، فقد أوجزتها في النقاط التالية:
أولاً: بناء وعي ديني نقدي لا تلقيني. عند تعليم الفرد، يجب أن نرتكز على الإفهام والتمييز بين الصواب والخطأ، وليس مجرد التلقين. فالأمر لا يتعلق بفرض الدين قسراً، بل بتحريك الفطرة الشخصية لتمييز الحق من الباطل.
ثانياً: تحديث الخطاب الديني رقمياً. يجب تكييف المحاضرات الطويلة للمشايخ والمرجعيات (التي تمتد لساعتين أو أكثر) مع طبيعة العصر الرقمي. ففي عصر ما بعد الحداثة، نحتاج إلى تحويل هذه الساعات الطويلة إلى مقاطع مركزة (مواعظ قصيرة لا تتجاوز 5 دقائق)؛ لكي يتمكن المتلقي من الاستفادة منها دون أن يصاب بالملل ويتركها.
ثالثاً: إعادة الربط بين الدين والعلوم الحديثة. يجب تقديم الدين بصورة تبين أنه ليس عائقاً أمام التكنولوجيا، بل هو إضافة نوعية ومكمل أخلاقي وروحي للتقدم العلمي.
رابعاً: دمج الروحانيات الدينية مع حاجات الإنسان المعاصر. نحتاج إلى تقديم الدين بطريقة تلبي احتياجات الإنسان الذي يعيش في العالم الرقمي؛ لنؤكد أن الدين يكمل قضاياه الحياتية والإلكترونية. وهذا هو السبيل للالتزام بالدين الصحيح، وتجنب الوقوع في فخ «التدين السائل» أو «التدين الهش»."
موجات الحداثة وصناعة القدوات المزيفة
- الأستاذ حسن كاظم السباعي، باحث وكاتب:
لا فرق بين المشكلات المعاصرة التي تؤثر على الهوية الدينية وبين مثيلاتها من المشاكل في العصور السابقة، فالمحتوى هو ذاته، وإنما تغيرت الآليات والأسماء والأشكال، حالها كحال سائر الوسائل.
فالنصوص الدينية عبَّرت عن "التدين السائل" بمصطلح "المؤلفة قلوبهم"، أما "الانفصام الفطري" و"الاغتراب الديني" فقد وردت على شكل مفاهيم "الارتداد" و"الافتتان" ومآل جميعها واحد.
وكذلك فيما يرتبط بالتطور التقني والرقمي؛ فلا فرق بينه وبين الوسائل البدائية من أعواد المنبر وأسواق عكاظ حيث النتيجة واحدة.
فـ"الحداثة" لا تستطيع تحديث القيم والأخلاق والمبادئ، كما أنها لا تستطيع أيضا أن تجدد المغريات والتموجات.
كما أن مظاهر التسييس والتلاعب والتطويع والتمييع الذي يستهدف الدين والمفاهيم الدينية؛ هي الأخرى لم تكن جديدة، وإن نقبنا التاريخ فلربما نجد ما كان أشد وأعظم وأكثر تنوعا مما هو عليه الآن..
من هنا وبناء على هذا الأساس؛ فإن الذات الفردية إن أرادت فإنها تحصن نفسها بنفسها مستعينة بربها، ولا تستطيع أي موجة أو عاصفة أو مد أو قوة أن تخترق مبادئها، وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذه القاعدة حينما قال: "لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني..". فلا المغريات المادية ولا الأجواء الغالبة تستطيع أن تزحزح قناعات الفرد وتمسكه بمبادئه، وحسب تعبير أحد الشخصيات الاجتماعية حينما كان يرسل أولاده إلى مختلف البقاع والبلدان كان يواجه بانتقاد ومعارضة من أصحابه خوفا على مصير الأولاد وتأثرهم بالأجواء المغرية، فكان يرد عليهم أن شدة وثوقه جعلته في يقين تام من أنهم لن يتأثروا ولن يتلوثوا بأي محيط مهما كان حيث حصنهم من البداية بما هو مطلوب فأدى إلى رفع الخوف والقلق.
إلا أن الجديد في الأمر وهو ما ينبغي أن يثير التخوف والحذر من موجات الحداثة؛ هي القدوات التي يصنعها الإعلام والعالم الرقمي والذي باستطاعته أن يغيّر المفاهيم؛ فيقلب الحقائق، ويجعل الحق باطلا والباطل حقا، ويحوّل المجرم إلى بطل! واللهو واللعب إلى ثقافة.
ولكي لا تفقد البوصلة في مواجهة هذه القدوات المزيفة فلابد من قدوات حقيقية تمثل الدين والمبادئ الأخلاقية. وحين العودة إلى الدين فإننا لا نجد اي فراغ أو شاغر في مجال القدوة والاحتذاء حيث ترك لنا الأثر والتراث ما يفي الغرض بسخاء وكرم.
ومن هنا نعرف دور البيئة الأولى وهي الأسرة وهي القادرة على التذكير بالبوصلة والميزان، فالأسرة رغم صغرها فإنها قادرة على ترك تأثيرها على المجتمعات مهما كانت كبيرة ومترامية الأطراف، ذلك لأنها النواة والبذرة الأولى التي تكوِّن شخصية الفرد وتصنع منه كيانه الثقافي الذي يبقى ويترسخ مدى حياته رغم كل العواصف والزلازل والفيضانات (الثقافية) و(الفنية) إن صح التعبير!.
الثبات وعدم التردد
- الأستاذ صادق الطائي، باحث وكاتب:
من خلال الوعي الايجابي اولا والثقة الكاملة بالقيّم ثانيا يعطي حالة من الثبات وعدم التردد، صحيح هناك التكنولوجيا الرقمية ومعلوماتية وخدمات متنوعة تعطي قدرة واسعة على فهم أمور كانت غائبة وبعيدة فترات طويلة على الانسان العادي، تمكنه من العمل الجدي الواسع في البناء وتكوين خرائط جديدة للمدن وكذلك سعة في الانتاج، ولكنها تفشل مع هذا التقدم العلمي والاكتشافات المذهلة والحسابات الدقيقة في صنع ذبابة ذات روح لا اقول حوت انما فقط ذبابة.
صحيح أنهم ذهبوا الى القمر ونقاط اخرى بعيدة عن الهوية الدينية ولكن الثبات والوعي الايجابي الكامل والثقة الداعية للوقوف والصمود امام التكنلوجيا الرقمية.
تعليقات وتوصيات
وبعد المداخلات علق الشيخ مرتضى معاش على المداخلات وقدم توصيات مقترحة، بقوله:
"أشكر الأخوة الأعزاء على هذه الأفكار القيمة؛ وحقيقةً، لقد استفدت كثيراً من هذه الطروحات. في البداية، لم أكن أرغب في طرح هذا الموضوع؛ نظراً لتعقيده وفكرت في تغييره. ولكنني عدت وقررت العودة إليه، ورأيت أنه من الجيد الخوض في موضوعات معقدة، ولو من باب «الاستكشاف». فحتى لو درنا قليلاً في دوائر مختلفة؛ يظل استكشاف القضايا المهمة التي نحتاجها أمراً ضرورياً، وربما تتبين لنا آثارها ونتائجها لاحقاً.
وأود التوضيح أن مقصدي لم يكن الحديث عن «الدين» (كعقيدة)، بل انصب تركيزي على «التدين»؛ بوصفه سلوكاً متغيراً في المجتمع، وضمن ثقافة اجتماعية معينة، وكسلوك اجتماعي.
فلم أقصد مناقشة الأديان ولا شيئاً آخر، بل البحث في ماهية هذا السلوك وتحولاته.
"إن «التدين السائل» حينما يتحول إلى سلوك وظاهرة عامة، فإنه يؤدي إلى نتيجة خطيرة؛ وهي تحويل التدين إلى «متغير» يناقض الدين في جوهره؛ سواء في عقائده، أو في أحكامه الشرعية، أو في أخلاقياته وإرشاداته.
وهذا هو القصد من طرحنا، وخصوصاً في عصر ما بعد الحداثة، الذي يشهد خليطاً وتداخلاً كثيفاً للثقافات والأفكار الدخيلة علينا. ولذا، لا بد من دراسة هذه الظاهرة بجدية؛ لأنها بدأت تتسلل إلى أفكار المراهقين والأبناء والشباب، مما ينذر بنشوء أجيال جديدة تحمل ثقافة مختلفة.. «ثقافة دينية سائلة» لا تستند إلى ثوابت.
وهو أمر مختلف عن الحديث عن أصل الأديان. فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾. فالإسلام هو دين الله كما نص القرآن الكريم، وهذا أمر لا جدال فيه، وهو ما يدعم رؤيتنا (في أن الدين ثابت والحق واحد، بينما الانحراف يكمن في سيولة التدين).
"إن «الحقيقة المطلقة» هي الغاية التي لا بد أن يسعى الإنسان نحوها. أما لو قبلنا بوجود حقائق مختلفة ومتعينة، وأصبح الدين فردياً؛ بحيث يمتلك كل فرد حقيقته الخاصة ودينه الخاص؛ فبالنتيجة سينتفي السعي، والحركة، والعمل، والحوار؛ وسيعيش كل شخص منعزلاً في دينه الخاص. فالتدين السائل هو حالة تعيش المادية المحضة؛ بلا عواقب (أي بلا إحساس بالمسؤولية والجزاء)، وبلا حركة، وبلا محاولة للفهم.
ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. لقد قال تعالى: «لتعارفوا»، ولم يقل «لتعاركوا» أو تتقاتلوا. ومشكلة الإنسان هي أنه يميل نحو الصراع (العركة)، بينما الأصل هو الحوار والتعارف من أجل الوصول للحقيقة المطلقة. فالحقيقة المطلقة تمثل كمال الإنسان، وجماله، وتطوره، وتقدمه، وتعاليه في سلم الكمال. وصحيح أن الإنسان قد لا يحيط بها كاملة، ولكنه مطالب بالسعي الدائم نحو الله سبحانه وتعالى؛ فكلما سعى، اقترب."
إن هذا التواصل المستمر مع «الحقيقة المطلقة» هو الذي يجعل الإنسان منتمياً وغير مغترب.
وفيما يتعلق بمشكلة التدين السائل بين المتدين وغير المتدين فهي تكمن في ثنائية «الإفراط والتفريط»؛ فالناس هنا نوعان: الأول: صاحب الإفراط (المتشدد)؛ وهو في الحقيقة يمثل وجهاً آخر للتدين السائل ولكن بطريقة مغايرة. والثاني: صاحب التفريط؛ وهو الذي يعاني من الانحلال، وينتهي به الأمر إلى إنكار كل شيء.
وعليه، فإن «الاعتدال» هو المطلوب؛ فالاعتدال في الرؤية هو الذي يجعل الإنسان قادراً على تحقيق التكامل بين سلوكه وثوابته. وهذا الاعتدال مهم جداً، والحديث عن «نمط التدين» هو بحث خاص ومؤثر يحتاج إلى نقاش مستقل.
أما بخصوص الملاحظة حول «السيولة الإيجابية»؛ فيجب التوضيح: إننا حينما انتقدنا السيولة وتفكيك الثوابت، لم نكن نقصد رفض «التجديد».
فقد يُستشكل علينا ويقال: إذا نفيتم السيولة، فأنتم تنفون التجديد والحركة التجديدية والخطاب المتجدد. والجواب: لا، نحن لا نرفض ذلك. نحن ندعو إلى «المرونة والتكيف» مع العصر الجديد، ولكن بشرط أن يكون ذلك في ظل الثوابت، وليس من خلال تفكيك الثوابت."
"إن ما فعله دعاة التجديد -أو من ساروا خلف هذا الشعار- هو أنهم اتخذوا السياقات المنهجية ذاتها التي اعتمدها فلاسفة «ما بعد الحداثة»، وعمدوا إلى عملية «التفكيك».
وربما تلمسون ذلك بوضوح لدى الأدباء وفي النقد الأدبي (كالبنيوية وما تلاها)، حيث اتجهوا نحو التفكيك؛ أي تفكيك الثوابت والأسس.
والحال أن التجديد في إطار الثوابت والأصول والأسس هو أمر مطلوب، وليس مرفوضاً. ولنأخذ مثالاً من تراثنا: لدينا «الأصوليون» وهم أناس مجددون (وفق المنهج وقواعد الاستنباط)، في مقابل «الأخباريين» الذين تمسكوا تمسكاً حرفياً بالنصوص (الجمود).
وسأضرب لكم مثالاً آخر يوضح الفرق بين الدين وبين عصر ما بعد الحداثة: إن عصر ما بعد الحداثة جاء بفكرة «علاج الإنسان» علاجاً نفسياً؛ فاستحضروا «المعالج النفسي»، واستحضروا نسخته المخففة المتمثلة في «التنمية البشرية» للجوانب العامة.
ولكنهم، وإن انشغلوا بعلاج النفس، لم يحلوا المشكلة الجوهرية؛ لأن الإنسان في الحقيقة يحتاج إلى «مرشد ديني» ومعالج روحي يربطه بالسماء، وليس مجرد علاج نفسي يقف عند حدود الذات.
ولا إشكال في الاستفادة من هذه العلوم، لكن الأصل والأساس لدينا هو «الإرشاد الديني والأخلاقي»؛ هذا هو المطلوب. فإذا ظهرت أساليب حديثة في علم النفس أو علم الاجتماع، وأضفناها ووظفناها في إطار مدرستنا الدينية والأخلاقية؛ فما المانع من ذلك؟
وبالمناسبة، فيما يخص «التحليل النفسي» الفرويدي تحديداً، فإن حتى علماء النفس المعتبرين يقفون ضده اليوم؛ لأن تحليل «سيغموند فرويد» قام أساساً على فكرة «إشباع الرغبات» (الغرائز) وليس على معالجة الأفكار وبناء الإنسان.
ولذلك، ظهرت مدارس حديثة بديلة، مثل المدرسة السلوكية، أو ما يسمى بـ «العلاج المعرفي السلوكي» ؛ وهذه مدارس قد يمكن الاستفادة منها.
وحول قضية «الجوهر والمظهر»؛ فإننا نؤكد أن الإنسان المعتدل هو الذي يوازن بدقة بين الجوهر والمظهر، فديننا هو دين عبادة ظاهرة (كصلاة الجماعة)، وهو في الوقت عينه عبادة حقيقية معنوية (قوامها الإيمان والوعي والتفاهم). والأمر ذاته ينطبق على التوازن بين «العقل والمشاعر». فلا قيمة لمشاعر بلا عقل (عاطفة منفلتة)، ولا جدوى من عقل بلا مشاعر (جمود). بل نحن بحاجة ماسة إلى تحقيق «التكامل» بين الاثنين.
توصيات وحلول مقترحة:
أولاً: التربية العقائدية منذ الصغر: وتتمثل في التنشئة على الالتزام بالثوابت، والنهي عن المنكرات والمحرمات. ويجب تثقيف الناشئة بأن كل منكر ومحرم ينطوي بالضرورة على «مضرة» للإنسان، وأن كل حلال ينطوي في العموم على «مصلحة» له. فإذا نشأ الطفل على استيعاب «فلسفة الحلال والحرام» والعقائد الصحيحة، فستتكون لديه «بنية تحتية» قوية تمكنه من المواجهة والصمود حتى لو دخل معترك عصر ما بعد الحداثة.
ثانياً: التربية على الاعتدال: إن الوقوع في فخ الإفراط أو التفريط يؤدي حتماً إما إلى التطرف وإما إلى الانحلال. وأخص بالذكر هنا «الاعتدال الاستهلاكي»؛ لأن مشكلتنا الكبرى تكمن في الاستهلاك المفرط الذي يؤدي إلى ارتفاع «التضخم المادي» لدى الإنسان، ويعزز الأفكار المادية لديه على حساب الروح.
ثالثاً: التثقيف العميق بالقيم الدينية والأخلاقية: وذلك لا يكون بالتلقين السطحي، بل عبر تعزيز الوعي والفهم، وامتلاك «البصيرة بالعواقب».
رابعاً: مواجهة أفكار ما بعد الحداثة: ضرورة مناقشة هذه الأفكار بجرأة، والعمل على كشف مغالطات «النسبية» و«الفردية» وتبيان تهافتها.
خامساً: القدوة الصالحة: وهي النقطة الجوهرية التي أشار إليها الأخوة سابقاً، فبدونها يبقى الكلام نظرياً.
"سادساً: الانفتاح الواعي والابتعاد عن الاستيراد الثقافي الأعمى. فنحن اليوم نستورد كل شيء، وهذا يعد من أهم أسباب بروز «التدين السائل». والحل يكمن في إيجاد «صناعة ذاتية» شاملة: صناعة ثقافية، واقتصادية، وصناعة للمناهج الجامعية والمدرسية؛ بحيث تنبع جميعها من أصالتنا وحضارتنا. وهذا لا يعني الانغلاق؛ بل ندعو للانفتاح والاستفادة من أساليب الآخرين، ولكن بوعي وفهم، وليس عبر التبعية العمياء.
سابعاً: التدبر والتفكر في آيات القرآن وأحاديث المعصومين (عليهم السلام). فالعودة إلى النصوص الأصلية بتدبر تفتح آفاقاً رحبة نحو «التدين الواعي» والرصين.
ثامناً وأخيراً: الاستغفار والتوبة ومراقبة الذات وحوكمتها. ويكون ذلك في إطار النظام الإلهي، من خلال السيطرة على الشهوات والرغبات وضمان عدم انفلاتها؛ والهدف هو تحقيق التوازن الدقيق بين «الذات» وبين «الواقع الموضوعي». فلا يصح أن تكون «الذاتية» هي المسيطرة علينا، بل يجب أن نكون منسجمين مع الواقع الخارجي (الموضوع). ذلك أن فلسفة ما بعد الحداثة تعتمد «النسبية» التي تحصرنا في ذواتنا الضيقة، بينما الواقع الموضوعي أوسع وأكبر بكثير. فإذا حققنا هذا التوازن بين الفردية والجماعية، وبين الذات والموضوع؛ استطعنا في الواقع أن نخلق شخصية متوازنة وصالحة.






اضف تعليق