في صباحٍ كربلائيٍّ تفيض أجواؤه بالرهبة والنور، كانت آلاف الطالبات يتقدّمن بخطواتٍ واثقةٍ نحو صحن أبي الفضل العباس (ع)، عباءاتهنّ السوداء توحّدت كلوحةٍ من الانتماء والعفة، وأصواتهنّ ترتجف وهي تردد القسم الجامعي تحت القبة المقدسة، حيث يلتقي العلم بالإيمان في مشهدٍ لا يتكرر إلا في كربلاء...

في صباحٍ كربلائيٍّ تفيض أجواؤه بالرهبة والنور، كانت آلاف الطالبات يتقدّمن بخطواتٍ واثقةٍ نحو صحن أبي الفضل العباس (عليه السلام).

عباءاتهنّ السوداء توحّدت كلوحةٍ من الانتماء والعفة، وأصواتهنّ ترتجف وهي تردد القسم الجامعي تحت القبة المقدسة، حيث يلتقي العلم بالإيمان في مشهدٍ لا يتكرر إلا في كربلاء.

وسط هذا البحر الزينبي المهيب، وقفت نبراس الحسني، خريجة من كلية العلوم للبنات في جامعة بغداد، وهي تمسك بعباءتها جيدًا لتخفي ارتجاف يديها.

تقول: "شعرت في تلك اللحظة أنني حمامة بيضاء ترفرف فوق قبة مولاي الكافل، أحمل بين جناحيّ فرحًا ممزوجًا بالفخر. كنت أرى دموع السنين وسهر الليالي تتجسد في لحظةٍ واحدةٍ من المجد والامتنان."

من مقاعد الدراسة إلى قبة الكافل

سنوات من التعب والسهر والمثابرة رافقت رحلة نبراس الجامعية. تروي بابتسامةٍ يغمرها التأمل:

"كانت ليالٍ طويلة أقضيها بين الكتب، وأحيانًا كنت أبكي فوق دفاتري حين يثقلني التعب، لكنّي لم أستسلم. كنت مؤمنة أن كل لحظة ألم ستثمر يومًا نورًا، وها هو النور يسطع اليوم تحت القبة المباركة."

لم تكن مشاركتها في الحفل المركزي للعتبة العباسية مجرد صدفة. فقد فتحت إدارة العتبة رابط التسجيل لفترةٍ وجيزة، ومع ذلك، استطاعت نبراس أن تسجل في الوقت المحدد. غير أن ما سبق التسجيل كان بالنسبة لها “بشارة سماوية”، كما تصفها.

"قبل الإعلان بأيام، رأيت في المنام أنني في رحاب الإمامين الحسين والعباس عليهما السلام، وسمعت خدام العتبة يقولون لي: (تسجّلتي باسم الحسين والكافل). وعندما استيقظت، شعرت أن شيئًا كبيرًا ينتظرني، وبعدها بأيام تم قبولي فعلًا ضمن خريجات بنات الكفيل."

تضحك بخجلٍ وهي تضيف: "كانت رؤيا مباركة قبل أن تكون واقعًا."

نور وعفّة.. أكثر من شعار

يحمل الحفل هذا العام شعار "من نور فاطمة (ع) نضيء العالم"، وموضوعه العام “نور وعفّة”. بالنسبة لنبراس، لم يكن الشعار مجرد عبارةٍ مطبوعة على لافتة، بل كان منهج حياة.

"النور هو العلم الذي سَعينا لنحمله بأمانة، والعفّة هي الزاد الذي حفظنا به أنفسنا وسط مغريات هذا العالم. فكل فتاة زينبية تدرك أن النور بلا عفةٍ لا قيمة له، وأن العفة بلا علمٍ لا تثمر."

وتستذكر لحظة القسم الجماعي بأنها كانت أكثر المواقف تأثيرًا في حياتها، إذ امتزجت فيها الدموع بالدعاء، والأحلام بالخشوع: "حين ردّدنا القسم تحت القبة، شعرت أن صوتي يختلط بصدى السماء. كنت أقول في سري: يا مولاي، شكرًا لأنك لم تتركني وحيدة في الطريق."

لوحة رمزية من العفة والعلم

حين تتحدث نبراس عن مشهد آلاف الطالبات بعباءات موحدة، تتغيّر نبرتها، كأنها ما زالت تعيش تلك اللحظة.

"كنا جميعًا كأننا خيط واحد في عباءة الطهر، نمشي في صفوفٍ منتظمة، نردد القسم، ونرفع رؤوسنا بفخر. حينها سمعت في داخلي صوتًا يقول: أنتن وصية الرسول، رفقًا بالقوارير. فقلت في نفسي: نعم، نحن القوارير، ولسنا سلعةً لأحد."

تنظيم يبهر القلوب قبل العيون

تصف الحسني التنظيم بأنه كان “احترافيًا إلى حد الإعجاز”، وتضيف:

"كوادر العتبة المقدسة رسموا لوحة عالمية التفاصيل، من الصوت إلى المشهد، من الورود إلى الدعاء. أولاد الكفيل كانوا مثالًا للأدب والاحترام، والخادمات كنّ يرمين علينا الورود بفرحٍ وحياءٍ مدهش. شعرتُ وكأن كل كربلاء تحتفل بنا."

لحظة لا تُنسى بين الحرمين

تغالب دموعها وهي تروي: "عندما بدأنا المسير بين الحرمين الشريفين، والزهور تتناثر على طريقنا، سمعت أحد الخدام يقول (مبارك، وُفقتم). وقتها شعرت أن الإمام الحسين وأخاه العباس عليهما السلام يبتسمان لنا. كانت لحظة روحانية لا يمكن وصفها، شعرتُ فيها أنني وُلدت من جديد."

عيون العائلة.. دموع الفخر

وحين تُسأل عن عائلتها، تبتسم وتغالب دموعها: "كانت عائلتي تنظر إليّ من بعيد، دموع الفرح تغمر عيونهم. كانت نظراتهم تقول أكثر مما تنطق به الكلمات. شعرت أنني أُهديهم ثمرة كل ليالي السهر والدعاء."

ما بعد التخرج

نبراس لا ترى أن التخرج نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية. تقول: "سأواصل طريقي في الدراسات العليا بإذن الله، فالعلم طريق لا ينتهي. لكنني أيضًا أؤمن أن العمل الميداني يمنحنا تجربة الحياة الحقيقية. سأجمع بين الاثنين لأكون خير ابنةٍ لهذا الوطن."

رسالتها للفتيات

"كوني زينبية، وارفعي رأسكِ بعلمكِ وعفتكِ. لا تلهِكِ المظاهر، فالجمال الحقيقي هو نقاء الروح. احلمي، وثقي أن الله لا يضيع تعبكِ أبدًا."

وفي ختام حديثها، تنحني نبراس قليلًا وتقول بصوتٍ يملؤه الخشوع:

"شكرًا يا مولاي الكافل… ما قصّرت ويانه."

في تلك اللحظة، بدت كأنها ما زالت تقف بين الحرمين، حمامةً بيضاء تحلّق في سماء كربلاء، تحمل بين جناحيها وعدًا جديدًا: أن يكون النور سلاحها، والعفّة درعها، والعلم طريقها نحو عالمٍ أكثر إشراقًا.

اضف تعليق