وكتطبيق مشوه للديمقراطية التوافقية في العراق، أدى إلى ظهور مؤسسات أقوى أو تكاد تكون موازية لسلطة الدولة، أو أنها مؤثرة في رسم السياسات العامة وصنع واتخاذ القرارات المختلفة داخليا وخارجياً، الأمر الذي أدى إلى فشل الكثير من تلك السياسات والمواقف والقرارات إداريا وماليا وسياسيا، ما انعكس سلبيا وبوضوح...

النظام السياسي الحالي، فيما إذا جاز الوصف بأنه ديمقراطي حسب دستور 2005 النافذ، فإنه أقرب إلى تطبيقات نموذج الديمقراطية التوافقية، وهو نظام تقوم عليه العديد من دول العالم كسويسرا وألمانيا والدنمارك ولبنان والسويد وبلجيكا. 

ولعل من أبرز سمات هذا التطبيق أو من مثالبه، أنه ينتج حكومات ليست قوية تتغير باستمرار، ويعتمد مستوى قوتها على الخصائص الشخصية والمهارية لرئيس الحكومة.

 ومن الجدير بالذكر أنه من أجل تشكيل الحكومة لابد من قيام تحالفات أو شراكات بين أحزاب عدة، وعندما ينسحب حزب أو أكثر لأي سبب كان، سرعان ما تنهار هذه الحكومة، أو تكون أضعف بكثير في أدائها قبل الانسحاب. 

وفي العراق يوجد نموذج مشابه نسبياً لما تقدم، لذا تنشأ عنه حكومات ضعيفة، في مجالات القدرة والتأثير المجتمعي والدولي وصناعة واتخاذ القرار السياسي الداخلي والخارجي، إذ يعمل القابضون على السلطة فيها والأحزاب المهيمنة فيه، للحفاظ على مواقعهم بحجة المحافظة على مصالح مكوناتهم، وما ينتج عنها من مزايا ومكاسب متنوعة، إلى إتباع سياسات معينة، منها ما يأتي:

1- توزيع المناصب الإدارية والمالية والسياسية بين تلك الأحزاب (توزيع مغانم السلطة)، على اعتبار أن من خصائص الأحزاب السياسية هو الوصول الى السلطة لكي تنفذ برامجها. ولكن في حالة العراق إن كل حزب سوف ينفذ برامجه على الوزارات التي حصل على إدارتها، على الرغم من وجود البرنامج الحكومي الشامل.

2- إتباع كل حزب أو كيان سياسي أنماط من السياسات الشعبوية ذات الهويات الفرعية، التي يتصور أنها سوف تعزز استمرار تواجده في التفاعلات السياسية، إلا أنها سوف تؤدي الى الإضرار الكبير في الهوية الوطنية الشاملة، فضلاً عن المساس بوحدة الدولة، ومنفذاً للتدخلات الخارجية.

 3- الإعلان عن البرامج الخاصة بالحزب أو الكيان السياسي، ورفع الشعارات العريضة، وتقديم الوعود الكبيرة دون تحقيق منجز حقيقي، أو تحقيق جزء منها ولكن دون المستوى المأمول في جميع الحالات، الأمر الذي يؤدي إلى الطعن في المصداقية وتراجع مستوى الثقة مع أبناء الشعب.

4- وكتطبيق مشوه للديمقراطية التوافقية في العراق، أدى إلى ظهور مؤسسات أقوى أو تكاد تكون موازية لسلطة الدولة، أو أنها مؤثرة في رسم السياسات العامة وصنع واتخاذ القرارات المختلفة داخليا وخارجياً، الأمر الذي أدى إلى فشل الكثير من تلك السياسات والمواقف والقرارات إداريا وماليا وسياسيا، ما انعكس سلبيا وبوضوح على تحقيق النظام السياسي لأهدافه الأساسية في تحقيق التنمية والأمن.

5- وفي التجربة العراقية للديمقراطية التوافقية، فإنه مع طول المدة وتكرار التجربة، وتنامي الوعي المجتمعي، وزيادة المطالب الشعبية، ازداد ضعف الحكومات الائتلافية التي تشكلت، الأمر الذي قد يؤدي إلى إضعاف الثقة بهذا النموذج السياسي، فتقل مشاركة أو دعم الشعب له، لأنه مع مرور الوقت يزداد عجز هذه الحكومات عن تلبية الحاجات المتزايدة للشعب، فتصاب بفقدان المرونة والجمود والتكيف مع مطالبيه العادلة والمنسجمة مع الحقوق الدستورية، مما يخلق مظاهر واسعة من النقمة الشعبية، قد تصل إلى حد التظاهر الشعبي السلمي أو المقاطعة أو العصيان المدني، وقد تذهب الأوضاع إلى مراحل أخطر حتى ينهار النظام. 

ولعل مفتاح الحل الأمثل يكمن في إجراء التعديلات الدستورية، على أن تتضمن تغيير طبيعة النظام السياسي القائم من برلماني إلى رئاسي، يكون هنالك فيه ثمة رئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط، مع وجود مجلس نواب منتخب من الشعب بعدد (100) نائب كعدد ثابت. إضافة الى تعديل جميع المواد الدستورية التي تحقق الانسجام لمتطلبا هذا التغيير.

إن العراق بحاجة إلى تنمية شاملة وازدهار، قد لا تتحقق دون تحقيق ثورة كبيرة في مجالات العمل التنموي الميداني على أساس معيار تحقيق الإنجاز، وهذا بحاجة إلى حكومة قوية ذات صلاحيات دستورية واسعة، وهياكل مؤسساتية حقيقية وفاعلة، وذات دور مؤثر في تعزيز الأمن الوطني ورفاهية الشعب والاستقرار المستدام، وهذا ما قد يحققه النظام الرئاسي دون سواه، في الوضع العراقي الراهن بالقياس مع تجربة استمرت أكثر من (22) سنة. 

لاشك في أن هنالك ثمة كيانات سياسية أو مؤسسات أو فئات أو جهات وتيارات سياسية وقومية قد تعارض بشدة هذا المقترح وتمنع تحقيق ذلك، لأسباب تاريخية ومصلحية وغيرها، إلاّ أنها كأمر واقع تكون أمام خيارين، فإما أن تغير من أداءها نحو الأفضل بما تقنع به الرأي العام، أو أن تجتاحها موجة التغيير القادمة، والمتفاعلة في ظل وجود أوضاع إقليمية ودولية متغيرة بوتيرة سريعة وشاملة، وأن العراق ليس بمنأى عن موجات التغيير أو التأثر بها، مالم يكن للنظام السياسي القائم قاعدة تأييد جماهيرية واسعة وراسخة، عن قناعة وإيمان كبيرين، وهذا أيضا قد يصعب تحقيقه لضيق المدة المتاحة وعدم توافق الإرادة على تحديد المصالح العليا للدولة، فضلاً عن سرعة التغيرات وكثرة التدخلات والتداخلات بين ما هو محلي وإقليمي ودولي.

* تخصص في العلاقات الدولية-الدبلوماسية

اضف تعليق