لا بد من وضع او سن قوانين إصلاحية أهمها إعادة تعريف وظيفة الحماية لتكون ضمن مهام مؤسسات الدولة، لا امتدادا لنفوذ المسؤول، وكذلك تعزيز الانضباط العسكري ومحاسبة من يسيء إلى صورة الرتبة، وأخيرا إعادة ربط المؤسسة العسكرية بالمجتمع عبر برامج تعيد الثقة والهيبة...
لطالما ارتبطت الرتبة العسكرية في الوجدان الجمعي بمكانة مرموقة وهيبة اجتماعية تستمد قوتها من الانضباط والالتزام بالقيم الوطنية، فالضابط أو العسكري لم يكن مجرد موظف يؤدي واجبا، بل رمزا للأمن والانضباط وخط الدفاع الأول عن الدولة والمجتمع.
غير أن هذه الصورة والمكانة بدأت تتآكل تدريجيا في العراق خلال السنوات الأخيرة، مع بروز ظاهرة توظيف الضباط والمراتب في أدوار بعيدة عن جوهر مهامهم، او تفريغهم مع المسؤولين الكبار في الدولة ومع هذه الوظيفة بدأت تبرز الكثير من الممارسات غير المناسبة وشخصية الضابط العراقي.
ظهر قبل أيام ضابط عسكري تحوّلت وظيفته الى فتح الباب للمسؤول في المجيء وإغلاقه عند المغادرة، وليس من باب الانتقاص او التكبر، لكن من غير الملائم ان يقوم من يحمل رتبة معينة بهذه العملية، التي وكأن وظيفها افراغ الضابط او رجل الامن من محتواه ومكانته الاجتماعية والصورة النمطية المأخوذة.
ينقل لنا أحد افراد الجيش العراقي خلال الحقبة الزمنية السابقة روايات ومواقف كثيرة عن مكانة الضابط، وكيف يأمر وينهى في وحدته، فهو – الضابط – يحمل على كتفيه مرسوم جمهوري، يعطيه المكانة والحصانة ووفق هذا المبدأ يؤدي واجبه بشكل سليم ضمن الحدود المهنية والوطنية.
بينما في الوقت الحالي وربما لأسباب سنتطرق اليها في ما بعد، اختفت هذه الهيبة التي يتمتع الضابط العراقي بعد دخوله ضمن التشكيلة السياسية والعمليات المحاصصاتية في عملية توزيع المناصب الحكومية.
اغلب الضابط المفرغين مع المسؤولين في الحكومة الحالية، يدينون بالولاء لهذه الشخصية، وربما وقد يكون المعيار الأول من اجل التفريغ هو الولاء السياسي لجبهة او كتلة هذه الشخصية، وذلك لعدة أسباب منها:
ان رجل السياسة يقرب الشخصيات على أساس الولاء والاستفادة منها لا على أساس المهنية والكفاءة العالية، ويأتي من بين معايير الاختيار هو ضعف الشخصية المختارة من اجل مجاراتها لرغاب المسؤول الذي يرغب في الهيمنة والاستحواذ على كل شيء ومن بينها سلب الإرادة او تذويب شخصية الضابط ونسف مكانته الأمنية والوظيفية.
من المفترض أن يكون العسكري جزءًا من منظومة مهنية هدفها حماية البلاد والدفاع عن المواطن، لكننا نرى اليوم انزياحا واضحا في طبيعة الأدوار التي يؤديها بعض الضباط، حيث تحوّلوا إلى حمايات شخصية للمسؤولين أو رجال أعمال بلباس عسكري، حتى باتت الرتبة أداة للوجاهة والمصالح، أكثر من كونها التزاما أخلاقيا ووظيفيا تجاه المؤسسة الأمنية.
ولم يعد مفهوم "الحماية" مقتصرا على أداء وظيفة أمنية منظمة، بل تحوّل في حالات كثيرة إلى وسيلة للتقرب من السلطة أو الاستفادة من النفوذ السياسي، فبعض الحمايات لا يلتزمون بواجباتهم العسكرية بقدر ما يسعون لإظهار الولاء لشخص المسؤول، حتى وإن كان ذلك على حساب القانون أو كرامة المواطنين وكرامتهم، وبذلك انتقل العسكري من رمز للهيبة والانضباط، إلى صورة مرتبطة أحيانًا بالتسلط والتملّق.
بينما المفارقة الأكبر تكمن في دخول بعض الضباط إلى عالم الأعمال والمقاولات والتجارة، ما أضعف انتماءهم للمؤسسة العسكرية، فحين يصبح الضابط شريكا في شركات أو وسيطا في صفقات، فإن الحياد والالتزام بالمهنية يتعرضان للاهتزاز، ومن النتائج المباشرة لذلك تبدأ المؤسسة العسكرية تفقد صورتها تدريجيا كقوة مهنية رادعة، وتتحول إلى إطار تُستخدم كغطاء اجتماعي أو اقتصادي.
هذا التراجع في قيمة الرتبة العسكرية انعكس على نظرة الشارع العراقي للمؤسسة الأمنية ككل، فلم يعد المواطن ينظر إلى العسكري باعتباره "حامي الوطن"، في أحيان كثيرة وليس دائما، بل يراه كأداة بيد المسؤول، أو موظف يبحث عن مصالحه الخاصة.
وهنا يتطلب التدخل لإعادة الاعتبار والهيبة للرتبة العسكرية، اذ لا بد من وضع او سن قوانين إصلاحية أهمها إعادة تعريف وظيفة الحماية لتكون ضمن مهام مؤسسات الدولة، لا امتدادا لنفوذ المسؤول، وكذلك تعزيز الانضباط العسكري ومحاسبة من يسيء إلى صورة الرتبة، وأخيرا إعادة ربط المؤسسة العسكرية بالمجتمع عبر برامج تعيد الثقة والهيبة.
اضف تعليق