في العام 2006 توجهت الى سوريا مثل الاف العراقيين هربا من الاقتتال الطائفي في العراق، وقتها لم يكن هناك من ربيع عربي في تونس او مصر او ليبيا او سوريا، ضد الحكومات لتلك البلدان تحت شعارات الديمقراطية او تداول السلطة وغيرها من شعارات ظهرت مع هذا الربيع في سنوات لاحقة على ذلك التاريخ.
وقتها كان الامريكان في العراق بقوات عسكرية كبيرة، لم تكن ام محمد جارتي السورية من النخبة المثقفة، فهي امرأة مثل ملايين النساء العربيات والمسلمات، همها وبمساعدة زوجها توفير لقمة العيش والأمان لأبنائها، وهي كانت تحضر دروسا دينية في احد المساجد في منطقة ببيلا حيث كنت اسكن وقتها، كانت ام محمد في احاديثها معي تصر على تسمية الامريكان بالكفار، وتمتد تلك التسمية لتشمل الاوربيين أيضا، وان ما يعيش فيه هؤلاء من رغد وطبيعة هو جنتهم في هذه الحياة، وان للمسلمين جنتهم في الآخرة..
لم تكن ام محمد تمانع في قتل هؤلاء (الكفار) منطلقة من دوافع دينية تربت عليها، وساهمت في ترسيخها دراستها في احد المساجد، وهي لا تختلف كثيرا عن اخريات واخرين غيرها في بلداننا وحتى بلدان المهجر بالنسبة لملايين المسلمين والمسلمات.
بعد ظهور داعش، اختلفت النخب الثقافية، سياسية ودينية، في أسباب ظهورها، وتوزعت على نظام بشار الأسد او نظام الحكم الشيعي في العراق، او ايران، او أمريكا، وغير ذلك. وكل يدافع عن وجهة نظره بترسانة من التبريرات والمماحكات التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
هناك من النخب من يذهب في محاججاته الى ابعد من ذلك، حين يعتبر ان من ثار على بشار الاسد هو كل الشعب السوري او هم من يمثلونه، منطلقا من مسلمة اساسية برأيه في الرد على المواقف الداعمة للرئيس السوري وانه منتخب من قبل شعبه، وهي لو أن الشعب انتخب الرئيس بحرية إرادته وخياره، هل كان هناك مجال لكل هذه الميليشيات أن تدخل سورية، خصوصاً أن الرئيس نفسه استعان بالكثير من هذه الميليشيات؟
ونسي هذا الكاتب، وهو صوت الكثيرين من النخب، ان العراق فيه حكومة منتخبة من قبل الملايين من العراقيين، ولكن رغم ذلك ظهرت داعش فيه وتمددت، لكنك لاتجد صعوبة في من يبرر ظهورها بسبب سياسات الحكومة العراقية الشيعية التي همشت المكونات الأخرى، وخاصة العرب السنة.
هذا المثال الذي أوردته ربما يكون مقابل مايردده الكثيرون من النخب الثقافية، سياسية او دينية، في وارد تفسيرهم لظهور داعش في سوريا، حيث يعتبرون ان نظام بشار الأسد هو من ساهم في ظهور هذا التنظيم الإرهابي، ومنهم من يعتقد جازما ان داعش ظهرت من مختبراته المخابراتية واجهزته الأمنية.
قبل نهاية العام الماضي 2014 وتحديدا في الثالث عشر من شهر كانون الاول، أصدر الازهر الشريف بيانه الذي انتظره ملايين المسلمين، ورفض فيه تكفير داعش، مستندا على نصوص ضخمة من الميراث الفقهي، وان كان قد دعا الى مقاتلتهم.
وقتها انقسمت النخب الثقافية بجميع اطيافها بين مؤيد ومعارض لهذا البيان، فالمؤيدون انطلقوا من مقولة أنه "لو حكمنا بكفرهم لصرنا مثلهم ووقعنا في فتنة التكفير، وهو ما لا يمكن لمنهج الأزهر الوسطي المعتدل أن يقبله بحال".
هذا المنهج الوسطي لم يمنع الازهر من تكفير عدد من الكتاب المصريين في وقت سابق أدت فتاواه بحقهم الى قتلهم او اصابتهم، (فرج فودة – نجيب محفوظ).
هذا الموقف المثير للالتباس من قبل الازهر الشريف، تقابله هذه الأيام مواقف اقل ما يقال عنها ان تثير السخرية والتهكم من أصحابها.
واحدث المواقف تلك، هو الإدانة التي صدرت من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في السعودية للهجمات الإرهابية التي وقعت في العاصمة الفرنسية باريس، وأشارت في بيانها إلى أن هذه الأعمال لا يقرها الإسلام وتتنافى وقيمه التي جاءت رحمة للعالمين.
ولم تنس تلك الهيئة ان تؤكد أن هذه الأعمال الإرهابية وغيرها مما وقع مؤخرًا هي امتداد للإرهاب الذي يمارسه النظام السوري وأعوانه ضدّ الشعب السوري الذي يمطره بوابل من البراميل المتفجرة، وخرج من عباءة هذا النظام تنظيم داعش الذي يتبادل الأدوار مع نظام بشار، وإن غض العالم الطرف عن ذلك هو الذي أدى إلى هذه الجرائم المروعة. الخ الخ الخ.
وهي نفس الهيئة التي تبارك خطاب شيوخ الفتنة ومن على منابر الحرم المكي في كل صلاة، وهم يدعون بالويل والثبور ضد الكافرين من نصارى ويهود وشيعة، وغيرهم لا تتوافق عقائدهم مع عقائد تلك الهيئة.
ما يحدث في عالمنا الاسلامي اكبر من بيانات ادانة او رفض واستنكار، يطلقه اصحابه بعد كل حدث، ويكون عادة خاضعا للكثير من الانتقائية.
فداعش وغيرها من تنظيمات إرهابية لا يمكن لها ان تظهر الا وسط أجواء وحواضن تشجع على التطرف والتعصب، وهي في حالتنا الاسلامية كثيرة جدا، تقوم على دعامات من التأويلات للنصوص القرآنية ونصوص الاحاديث، تستفيد منها هذه التنظيمات وبدفع من كثير من الدول التي تتوافق سياساتها مع تلك المنطلقات الدينية، إضافة الى توافقاتها الاجتماعية والثقافية مع مواطنيها، كما في السعودية الوهابية والمنتج الأكبر للنفط.
وهي نفس الأجواء التي ساعدت جارتي السورية ام محمد في توصيف مخالفيها الدينيين بالكفار، يوم لم يكن هناك ربيع عربي ولا هم يحزنون.
اضف تعليق