لفظ الإيمان مشتق جذريا من الأمن، ويدل على حال وجداني يرسخ في الإنسان فيبعث فيه أمانا واطمئنانا إلى ما حوله، أكان في محيطه البشري، كما في علاقته مع أفراد مجتمعه وأفراد المجتمعات الأخرى المتشاركين معه خبرةَ الحياة، أو في بيئته الطبيعية على هذا الكوكب المتواصل مع الكون اللامحدود. مبعثُ هذا الاطمئنان لدى المؤمن هو إحساسه العميق بسلامة الوجود على الإطلاق، وسلامة موقعه في الوجود، إذ الكونُ في إدراكه مُتقنٌ صنعُه، وسُنن الكون لا تحيد ولا تغدر. من حال الإيمان، لذا، لا يُعنى المرءُ بمصيره بقدْر ما يُعنى بمسيره، لما يعلم يقينا أن ضمانَ سلامة السير وصحةِ الاتجاه، ضِمن وجود مُتقن، يضمن - كنتيجةٍ منطقية - سلامةَ المصير. لذا أيضا، لا تستقبل نفس المؤمن نهاية الحياة بجزع أو قلق، بل تتهيأ للعبور بطمأنينة وتطلع.
من حال الإيمان يرى المرء لنفسه أصالةً وشرعية ككائن حي من جنس الإنسان، له، بمثلِ ما لبني جنسه، كرامةٌ وحرمة، إذ الجميعُ بشرٌ متساوون أمام الأحد الصمد. لا أمرٌ من الأمور، في بيئته القريبة أو الأوسع، يقلق المؤمنَ أو يزعجه، إلا بمقدار ما يخرج أمرٌ ما، بسوء فعل الإنسان أو خطأ تقديره في الغالب، عن سياقه الصحيح، فيعوق نماءَ الحياة عامةِ، ونماءَ الإنسان، ككائن متصدر في تطور الحياة، على وجه الخصوص. لا شيءَ من الأشياء يلقى لدى المؤمن جدارةً إلا بمقدار ما يتسق شيءٌ ما، إلى جانب مصلحة الفرد، مع الصالح العام، إذ أن جدارةَ أي عمل، من معيار الإيمان، تُقاس بعمومية النفع أكثر منها بخصوصية الانتفاع. في التعامل مع الغير، إذن، أياً كان الغير، ينطلق المؤمن من مبدأ التكافؤ معه، ويبني مع الكل علاقة تنشد التعاون والتبادل النافع، وترفض الضرر والضرار.
من حال الإيمان لا ينزع المرء للتظاهر بشيء ليس فيه، فللحقيقة لديه حُرمة لا تهتك. من حال الإيمان لا يزعم المرء أمراً لا يعلم له تحققا في الواقع، إذ الأمور، كما يرى، يجب أن تُدرك على ما هي كي تعالج بصواب. لا يغني الظن لدى المؤمن عن الحق شيئا، بل وإن لديه بعض الظن إثم. لا يُحرج المؤمنَ أن يُفصِحَ عن رأي توصّل له باقتناع، وإنْ خالف رأيا لأكثريةٍ سواه. إنه لا يأنف عن استماع القول فاتباعِ أحسنه، إذ العبرةُ لديه فيما يقال لا في من يقول. لا يُضير المؤمنَ أن يرجع عن رأي، أو أن يُقر بخطأ، إذا ما وجد رجاحةً في الرأي الآخر. أما إذا استدرك تقصيراً في أدائه، أو شططا في قوله، فإنه لا يملك إلا أن يطلب الصفح، فلديه الحقُ يعلو ولا يُعلى عليه، ولديه الحقُ، متى ظهر، أحقُ أن يُتبع في كل حال.
"الحقُ أحقُ أن يُتبع" قناعةٌ ترسخ لدى المؤمن فتحرره من التعصب لعادة أو تقليد أو موقف خاطئ، أو من تشبث بامتياز كاذب. ذلك يعني أن لا العادةُ ولا التقليد ولا التميّز بنَسَب، ولا ما يغذّي هذه الأمور من عصبيات فئوية، قبلية، أو شخصية، تُصرف المؤمنَ عن اتباع الحق حين يتبين له الحق بالمعرفة والمنطق ومعيار الخُلُق الكريم. ذلك يعني أيضا أنه حيثما يظهر الصواب، ولو بعد أمَد من تراكم الخطأ، ورغم كل ما يكون قد بُني على الخطأ من عادة وتقليد وموقف خاطئ وامتياز باطل، فلا خيارَ لدى المؤمن إلا أن يُقر الصوابَ ويدحضَ الخطأ، ويمحوَ، أو يدين، ما بُني على الخطأ.
لدى المؤمن، العقلُ أساسُ الاجتهاد وأداته، وللاجتهاد العقلي لديه روافد ثلاثة: المعرفة الموثقة، المنطق السليم، المعيار الخُلُقي. بالمنهج المعرفي يتقصّى العقل حقيقةَ الأمور والأشياء كما هي، وليس بالضرورة كما فُهمتْ في سابق زمن. بالمنطق يستنبط العقل الترابطَ بين الأمور والأشياء كما هو، وليس بالضرورة كما خُمِن في القديم. بالمعيار الخُلُقي يحكم العقل بصلاح الأمور والأشياء أو فسادِها بمقدار ما هي تنفع أو تضر فعلا بالصالح العام، وليس بالضرورة بما ورد من تحليل أو تحريم لها من قبل. في ذلك كله، يسترشد المؤمن بما قدّمت عقولٌ عاشت خبرة الماضي من معرفة ونظر، ومع أنه يُجلّ تلك العقول، ويُكنّ لها على ما قدّمت أعمقَ الحب والتقدير، إلا إنه لا يقرر ما يصلح للحاضر إلا بإعمالِ اجتهادٍ عقلي متجدد مستقل. لديه أيضا، أن لكل جيل من البشر أن يبدع لعصره ما هو أقوم، وأن ليس على قدرة الإبداع في الإنسان سقف.
لا يرى المؤمن في الإيمان إجهاداً للعقل، بل يُسراً وراحةً له. ذلك أن العقل يعمل بأوفق هديه وأوفي طاقته حين يكون آمنا على ذاته، مطمئنا إلى محيطه، هادئا في تفكيره، مشدودا إلى نزعة الصلاح فيه، وغير آسٍ ولا فرح بما فات وما ينتظر - وهذا ما يكون العقل عليه في حال الإيمان. لا شيء يربك العقل كالخوف، لا شيء يرجّه كالغضب، لا شيء يلهيه كالهوى، لا شيء يعميه كالطمع، لا شيء يفتك به كالحسد، لا شيء يقفل عليه كالتعصب، ولا شيء يفسده كسلطة بدون مساءلة. بالإيمان تتنامى في العقل حصانة ضد هذه الأسقام، فيصح العقل ويتحرر وينطلق، فيما هو حاله الطبيعي السليم، في طلب طيبات الحياة.
عندما يتحرر العقل بالإيمان، ينطلق في طلب العلم وفعل الخير وتلمّس ألطاف الوجود بالتفكر والتدبر: ينطلق وقد استقر حاله، ولَطُف سره، وصفت رؤيته، وزاد ثباته في الحق. ذلك يعني تحولاً في حال الإنسان بتحولٍ في حال عقله، فما الإنسان إلا عقلُه، وما الجسم إلا إطارٌ ساند للعقل وممكّن له من الحركة والاستكشاف. من هذا الإدراك ترى المؤمنَ أحرصَ ما يكون على سلامة العقل والجسم، إذ أن على سلامتهما تعتمد، وبها تتحدد، نوعية خبرة المرء في هذه الحياة.
لا يرى المؤمن للعلم تعارضا مع الإيمان، بل ارتكازا له فيه. فرغم ما يقال أحيانا أن العلم يتعارض مع الإيمان، إلا أنه، في وعي المؤمن، يرتكز في الإيمان في منشأه ومؤداه العملي، وذلك من حيث أن العلم يفترض – كأمر مسلّم – الثباتَ والتجانس في السنن الطبيعية، وهو افتراضٌ لا يمكن الأخذ به – كأمرٍ مسلّم – إلا بالإيمان. بعبارة أخرى: لولا إيمان الإنسان بثبات السنن الطبيعية وامتناعها على الاضطراب، لكونها عينَ مشيئة الله التي لا تحيد ولا تُخرق، لما ركن على علمه بها وهي على ما يراها غير مستقرة، ولأحجم عن الوثوق بمخترعات علمية يعتمد أداؤها على سنن طبيعية يراها قابلة للتبدل والتحول في أي وقت. وعندما يبدو أن سنةً لم تعمل كما كان محسوبا لها أن تعمل، لا يرتاب المؤمن في سلامة السنة وثباتها، لكنه يراجع حسابه، ويبقى مراجعاً حتى يهتدي لفهم صحيح يؤدي لنتيجة محسوبة من تسخير سنة يَفترض فيها الثبات.
العلم - بمعنى الإدراك في الذهن لما هو موجود في الواقع – يحتل لدى المؤمن محل رديف للخلق، إذ لو خُلق الإنسان من دون أن تودَع فيه قابلية التعلم لتعثر في التطور وربما انقرض. على أن علم الإنسان - ككل قدراته وملكاته - بالضرورة نسبي ومحدود، ينمو ويتسع، لكنه أبدا لا يبلغ الكمال. ذلك لأن الكمال لا يحتويه حال قاصر، كحال الإنسان، لذا الكمال، في كل إمكاناته، لا يكون إلا لله الذي لا يحده شيء وليس كمثله شيء. في وعي المؤمن أيضا، أن بالعلم النافع يرتبط رقي الإنسان، أن على مبلغ علم الإنسان في أي وقت يترتب تكليفه، وأن لا حجة لأحد على آخر في زعم ما هو صواب أو خطأ بدون سند علمي مبين. لدى المؤمن أيضا، أن العلم، كالهواء وضوء الشمس، لا يجوز أن يُحجب أو يُحتكر، فهو حصيلة تطور الإنسان في كل ثقافاته وحضاراته، لذا هو ميراث يعود للبشرية جمعاء.
العدل، المساواة، كرامة الإنسان، تقرير الأمر العام بالشورى، أصولٌ فكرية لدى المؤمن: هي في إدراكه مبادئُ إنسانية من حيث لزومها الحيوي لصلاح المجتمعات البشرية ورُقيها الحضاري في أي زمان ومكان، بصرْفِ النظر عما يوجد بين المجتمعات من تمايز ثقافي. الصدق، الكرم، التقوى، الاستقامة، الإحسان، التواضع، الحلم - تلك ومثيلاتُها من مكارم الأخلاق قيمٌ أصيلة وأثيرة لديه، بما هي تدرّ على أي فرد ومجتمع من نماء حميد. الجهاد لأجل تحقيق الأفضل، تعميم اليُسر، صلة الرحم، إتقان العمل، التكافل الاجتماعي، التواصي بالحق وبالصبر، رعاية صحة البدن والنفس - تلك ومثيلاتها لديه من مقومات الحياة وضروراتها للناس كافة. لديه أيضا، أن تأكيد المبادئ والقيم ومكارم الأخلاق كثوابت في تربية الأجيال، أمر أساس لتواصل البناء الحضاري في خبرة الأمم. ولدى المؤمن الحكمة ضالة لا ينتهي البحث عنها، وهي أيضا خير كثير.
من المبادئ، العدل في وعي المؤمن ووجدانه يحتل محورا مركزيا في بناء صلاح الإنسان، إذ بالعدل يُمكّن الإنسان، فردا وجماعة، من تحقيق اليُسْر وتعميمه، ومن توطيد الوئام بين أفراد الشعب الواحد وبين الشعوب. لا علاقةَ ولا مبادلةَ بين الناس، صغيرةً أو كبيرة، خاصةً أو عامة، بين أشخاص أو بين أوطان، تكتسب شرعيةً أو تدرّ نفعا في مؤداها الأخير ما لم تتّصف بالعدالة. المؤمن يدرك، اتساقاً مع إدراكه لطبيعة سُنن الكون التي لا تتبدل ولا تتحول، أن تراكمَ الظلم يؤدي إلى تفكك اجتماعي وتراجع حضاري، وأن بتفاقم الظلم يغدو الظالمون والمظلومون معاً ضحايا عواقب الظلم: الظالمون لما أتوا من فعل شرير يأباه الله في كونه، والمظلومون - وهم الكثرة عادة - لأنهم تقاعسوا عن صدّ الظلم عند أول فتكه، حين لم يكن قد مسّ بعدُ إلا قلةً من الناس، حتى إذا استحكم واستفدح، شقّ عليهم صدّه أو ردّه، وما استطاعوا عزل الظالمين ومعاقبتهم إلا بدفع ثمن باهظ وخوض كفاح مرير.
كما العدل، يحتل مبدأ المساواة في وعي المؤمن ووجدانه محورا مركزيا في بناء صلاح الإنسان، إذ بالمساواة – بمعنى التساوي أمام القانون والتكافؤ في الفرص - يُمكّن الإنسانُ من إرساء مجتمع مستقر، متوازن، متعاون، منتج. من حال الإيمان، لا ينكر المرءُ التمايزَ بين الناس في الفضل - كما بالعلم والتقوى والخدمة العامة - لكنه لا يرى مطلقا شرعيةً لتمييزٍ بين الناس في الوطن الواحد على أساس نَسَب أو جنس أو لون أو دين أو مذهب. في نظره، أيةُ امتيازات تُبنى على تلك الاعتبارات - سياسية، مالية، أو اجتماعية - مُجحفةٌ وباطلةُ، لخرقها مبدأ المساواة بين الناس، وضربها مفهومَ المواطنة المتكافئة عرضَ الحائط. لذا، لا يمكن للمرء – إلا إذا مارس نوعا من نفاق - أن يُقر بوجود المساواة أمام الله، ثم يتنكر للزومها بين الناس.
كما العدل والمساواة، يحتل مبدأ كرامة الإنسان في وعي المؤمن ووجدانه محورا مركزيا في بناء صلاح الإنسان، فردا ومجتمعا، إذ بإدراك هذا المبدأ تتصحح نظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر، كأخٍ له في دين أو وطن، أو كنظيرٍ له في الخلْق. لكافة أبناء البشرية وبناتها كرامةٌ لا تُهدر، لذا لا يجوز العدوان ولا الإيذاء، ولا الغش ولا الغدر ولا الغصب ولا الإكراه، كما لا يجوز امتهان كرامة أي إنسان، حتى حين يُدان سوءُ فعل بدَر منه، ويُنزل به عقابٌ على جرمه. في وعي المؤمن أيضا، أن كبْتَ الفكر، خنق حريةَ التعبير، وفرضَ سلطة سياسية غيرَ مشرّعة بالانتخاب الحر من أهل الوطن - رجالٍ ونساء - كلُ تلك خروقٌ فاضحة لكرامة الإنسان.
كما العدل والمساواة وكرامة الإنسان، يحتل مبدأ الشورى في وعي المؤمن ووجدانه محورا مركزيا في بناء صلاح الإنسان، إذ به وحْدِه تنتظم الحياةُ السياسة-الاجتماعية على أصلحها، ويستقيم أمرُ الحكم. لقد فطن الإنسان منذ باكورة وعيه أن بقاءَه كجنس مرتهنٌ بتماسكه الاجتماعي، وأن رُقيَه الحضاري مرتهنٌ بنمائه المعرفي والخُلُقي، وأن كلي المطلبين لا يتحقق في مناخ يسوده استبداد. لقد وعى أيضا أن من طبع الاستبداد نقض العدل والمساواة وكرامة الإنسان، من شروره التسلط بالعنف والتحكم بالمورد العام، ومن خطره تعريض الأوطان للدمار. لذا، لا بد من قطع دابر الاستبداد بتمكين الشعوب من ممارسة الولاية على النفس بنظام شورى يعمل بالاجتهاد الجماعي في الشأن العام، ممارَسا دستوريا من خلال مؤسسات حكم منتخبة من، ومساءلة لدى، المواطنين. ذلك أثرى عطاءً وأسلم عاقبة وأدني حفاظا على الصالح العام من تقرير فردي أو فئوي. بهذا المعني تغدو الشورى في قناعة المؤمن أمرا جوهريا في لزومه للحفاظ على سلامة الأشخاص والأوطان، ولتحقيق طموحات أجيال متعاقبة في حياة كريمة ونماء مطرد.
لكنْ، لا الثبات على المبادئ، ولا التحلي بمكارم الأخلاق، ولا الدأبُ على أداء العمل الصالح، يتحصل للمرء بمجرد الرغبة والنية. من حال الإيمان يدرك المرء - ولا يفتأ يُذكّر نفسه - أن عليه أن يجاهد على كل محاور الإصلاح دون انقطاع، ليحقق تقدما ويواصل فيه أمام شتى العوائق والتحديات. إنه يدرك أن من باب التمني لا العزم أن يقنع المرء بمجرد التوضّح حول متطلبات الإصلاح، ثم لا يسعى في تحقيقها فعلا من خلال ما يقول ويعمل. هو يدرك أن الإصلاح مهمة عامة تتدرج من مستوى وطن إلى أمة إلى حضارة إلى هَمّ إنساني مطلق، وهي أيضا مما يستثير كثيرا من نوازع الصراع، لذا لا يجدر بالمؤمن، كطالب إصلاح، إلا أن يدعوَ بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلَ بالتي هي أحسن، كسباً للعقول والأفئدة، واتقاءً للفتنة والعنف. في وعيه، لا أحد، مهما تحلى بحصافة وحسن نية، يمكن أن يعصم نفسه، في خضم الدعوة للإصلاح، من خطأ أو تعصب أو اغترار. لا أحد، مهما أوتي من عفة وتهذيب، أو تخيلهما في نفسه، يمكن أن يحسب نفسه فوق الإغراء، إذا ما تكثف الإغراءُ أمامه في دروب مسعى الإصلاح، في بريق سلطة أو مال أو جاه أو جنس. لذا المؤمن، بعد كل ما يسعى لتهذيب نفسه وصقل طاقته بالمعتاد من النظر والحذر، يبقى متعلقا بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس.
"الحبل من الله" هو الضمير في الإنسان، محك المحاسبة بين المرء ونفسه - المُضمَرُ عن الناس والمكشوفُ أمام الله العالمِ بذات الصدور. المؤمن يدرك أن ضميرَه استُودع قدرةَ التمييز بالفطرة بين الخير والشر، وأن لا حجةَ للمرء في إلقاء معاذير لتبرير غيٍّ يصرُ على اتباعه، أو نكران رُشد ٍ يصرُ على الإعراض عنه. هو يعلم أيضا أن الضميرَ هو ميزان القانون الخُلُقي الذي يحكم الخبرة البشرية، كما تحكم قوانينُ طبيعيةٌ أخرى سائر فعّاليات الوجود… وأن الكيلَ بهذا القسطاس المستقيم - الموصولِ "بحبل من الله" - فيه صيانة الجنس، وفيه، إذا ما صغى العقل لنصحه وامتثل لحكمه، أوفى الإمكانات وأوفرها للصلاح والنماء.
لكن المؤمن يدرك أيضا أن الميزانَ الخُلُقي – أي الضمير – وحدَه لا يكفي لتقويم سلوك الإنسان وتصحيح مساره، فطالما يصدُ الإنسانُ عن حكم الضمير ويصمُ عن تقريعه - لذا الحاجةُ " لحبلٍ من الناس" كرديف، أو صمام أمان، "الحبل من الناس" هو التدافع بين الناس: تناصحاً وتعاونا وتكافلا وتبادلا للمنافع والخدمات. وهو أيضا المساءلة ما بينهم لضمان سلامة كيان الأمة ونظامها، وصيانة حرمة الأشخاص: لكي لا ُيبخسَ حقٌ ولا تُظلم نفسٌ ولا تُهدر كرامة، ولا يَضيع أجر: لكي لا يعلوَ بعضٌ على بعض، ولا يسخرَ قومٌ من قوم: لكي لا تحتكِرَ السلطةَ فئةٌ وتتوارثها كحق محصور، ولا يستأثرَ أفرادُها من المورد العام بحظوظ ُمترفة على حساب استحقاقات سائر المواطنين. هكذا: بجهاد النفس، بصلة مع الله، وبتدافع مع الناس، يشق المؤمن دربه في الحياة مميزا بين الرشد والغي، بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ، وبين النافع والضار.
حالُ الإيمان، إذن، هو الحالُ الأمثل للإنسان والأجدر به كمخلوق كريم، فرداً ومجتمعا، شعباً وأمة: منه يُدرك المؤمن وضوحاً لزوم تنظيم الولاية العامة دستوريا كأمر مشترك بين الناس، رجالٍ ونساء، من خلال شورى منتخبة منهم تُشرّع المعروفَ وتُبطل المنكرَ وترعى الصالحَ العام. من خلال شورى منتخبة، شفافةٍ وملزمة، تتمكن الأمة من التزام أرسخ وأوفى بمبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان، ومن تحقيقٍ أدق وأشمل للقيم المنمية للخبرة الوطنية والدافعة لها إلى تطور حضاري.
في الإيمان - بعد ذلك - تقويمٌ للفكر، بناءٌ على العلم، تثبتٌ على المبادئ، سعيٌ لتحقيق الأفضل، تخلقٌ بمكارم الأخلاق. بالإيمان يرى المرءُ أبعدَ مما يرى بالعلم وحدِه: إنه يرى احتمالاتَ خير في المدى البعيد لا تُدرك من رؤية علمية منحصرة في المدى القريب. بالإيمان يعايش المرءُ الوجودَ كأمر بديهي: مستقراً فيه، مطمئناً إليه، شاكرا على ما ينال من خيره، صابرا على ما يلقى من عنته، ومغتبطاً بما يستكشف من لطيف أسراره. بالإيمان يُدفَع المرءُ إلى تأكيد إيجابيات الحياة ودحضِ سلبياتها، وينصرف إلى ما ينفع عما لا ينفع، واعياً أن الزبد يذهب جُفاءً وأن ما ينفع الناسَ فيمكث في الأرض. كما الزهرة تسبق الثمرة، كذا الإيمان يسبق ما يصدر من الإنسان من كلمة طيبة وعمل مفيد.
لقد قيل أنك إذا جردتَ خبرةَ الإنسان من الإيمان، فستكون قد أعطبت الميزانَ الخُلُقي المودَعَ في تكوينه، وقضيتَ على الدافع الفطري فيه لتحسين وضعه وتوسيع مداركه. ذلك يعني أن في الإيمان حافزاً إلى التطور، أو - بعبارة أخرى - أن وراء تطور الإنسان أيمانُهُ الدافع له إلى الصلاح، المهذب لخُلُقه، المُنمي لمعرفته، الموحد لطاقاته، المهيئ له لدور حضاري. أما الكفر - نقيضُ الإيمان - فحالٌ مُوهِنٌ للنفس، مُربكٌ للفكر، مشوهٌ للرؤية، مُبددٌ للطاقة، وعائقٌ للنماء. في الكفر عجز عن أداء العمل الصالح، جحودٌ بالنعمة، ارتياب في سلامة الوجود، خوف من المجهول، قلق من صروف الدهر، وسوءُ ظنٍ بالله الكريم.
الإيمان والكفر، إذن، كلاهما حال ينشأ في الداخل فينضح أداءً في الخارج، مدراً على الإنسان إما بخير ونماء، أو شر وتلف. على أن الإيمان حال نقي فطري في الإنسان قابل للنماء. أما الكفر فحال ملوث عارض، لذا قابل للتطهير بتوبة واستصلاح: لولا ذلك لما تمكن الإنسان – بلطف الله – من هذا التطور العظيم.
* كاتب ومفكر ودبلوماسي عُماني سابق ورئيس المجلس الاستشاري في مركز الحوار العربي بواشنطن
اضف تعليق