آراء وافكار - مقالات الكتاب

رحلة الضياع في دهاليز الحرب

"أيام من الزمن القبيح"

الأيام تمر في الزنزانة، حيث أصبح حسنين يرى الجدران وكأنها صفحات كتاب يكتب عليه أحلامه المفقودة. يحاول أن يراجع حياته، أن يتذكر كيف بدأ كل شيء، لكنه يجد أن كل ما يملكه هو سلسلة من الاختيارات التي لم تكن يومًا بيده. في إحدى الليالي، جلس مستندًا إلى جدار الزنزانة...

الهواء المليء برائحة البارود يخنق صدره، لكنه لم يكن واثقًا إن كان ما يشعر به من ضيق ناجم من الحرب نفسها أم من الصراع الداخلي الذي تزداد وطأته في كل يوم. 

جلس حسنين مرتضى، وهو شاب نحيل مائل إلى الطول، مسندًا ظهره إلى صندوق ذخيرة فارغ، في موضع ترابي، ممسكًا قطعة نقود إيرانية بين أصابعه.  

كانت النقود تلمع بخمول تحت ضوء خافت يشق طريقه بصعوبة عبر الغبار والدخان، وقد سقطت من بين أصابعه.  

مد يده ليمسك بها، بينما امتد بصره نحو نافذة صغيرة في أعلى الموضع الترابي، ليلمح السماء الرمادية التي لا تمنح وعدًا بالأمل ولا تهدئ المخاوف.  

للحظة، توقفت عينه عند تفاصيل النافذة، وكأنها بوابة لعالم بعيد، عالم ليس فيه حرب وأصوات رصاص.  

تفحص السماء، واندفعت ذكرياته على مخيلته، كأنه رأى نفسه عائدًا إلى المنزل منهكًا بعد يوم طويل من العمل في البناء.  

يداه تشققتا من خشونة الطابوق وحرارة الإسمنت، وقد أرهقه العمل ولم يرحم صغر سنه، حين كان يعود آخر النهار إلى منزله تكاد قدماه لا تقويان على حمل جسده.  

ما زالت صورة والدته وهي تنتظره عند باب الدار كل يوم، تثير مواجعه، أنهكها العوز والمرض، وكم حاول جاهدا ان يدخل السرور على قلبها وهو يعطيها كل أجرته اليومية ويداعبها مازحا.

تدرك أم حسنين أن مستقبله كعامل بناء لن يكون مثاليًا بالنسبة لشاب في مقتبل العمر يحلم بزوجة صالحة وأسرة تملأ عليه حياته.  

أيقظته أصوات رفاقه من شروده، فتحسس قطعة النقود الإيرانية في كفه، وكأنها تحمل إجابات الأسئلة التي لا يجرؤ على طرحها. 

" لماذا بدأنا هذه الحرب، ومتى يمكن لها أن تنتهي، وهل سيكون حيًا ليشهد نهايتها؟"  

كان رفاقه في الموضع الرطب يثيرون الجدل من حوله بحديثهم عن أبطال تحولوا إلى رماد في ساحات المعارك.

حدق فيهم، محاولًا التقاط كلماتهم، لكنه شعر أن تلك البطولات مجرد أكاذيب تختبئ خلف وجوه مرهقة زُجّت في حرب تفتقر إلى المبررات والمنطق.

الحياة هنا لا تشبه نفسها في مكان آخر، فكل شيء فيها موحش، حتى المقاتلون يكرهون ضباطهم القساة، ويقسون على بعضهم ومن لا يموت بشظية ساخنة قد يقتله تقرير وشاية يقدمه أحدهم إلى الاستخبارات العسكرية.

دس حسنين النقود الإيرانية في حقيبته ليحتفظ بها كذكرى ليوم قد يكون بعيدًا.

لا يدري لماذا اهتم بتلك القطعة من النقود وهو يدرك انها لا تنفعه بشيء. شعر برغبة في الاحتفاظ بها بعد ان وجدها في جيب أسير إيراني أثناء تفتيشه.

 تفاجأ أن الأسير يتحدث العربية فقد كان من أهالي عبدان في جنوب إيران. قال له حسنين: لماذا تقاتلنا ونحن عرب مثلك؟  

رد عليه الأسير الإيراني: أنا أقاتلكم فوق أرضي، فلماذا أنتم هنا؟ 

لم يجد جوابًا! لكن الشعارات والخطابات السياسية التي ساقت تبريرات للحرب سقطت في رأسه وتيقن أنه ورفاقه وقود حرب تفتقر إلى المنطق.

عندما أوقفه رجال الاستخبارات أثناء عودته إلى المنزل بإجازة قصيرة، وفتشوا حقيبته واشياءه، كان يعلم أن تلك النقود ستقوده إلى شيء لا يستطيع التحكم فيه.

التفتيش كان دقيقًا، ونظرة الضابط إليه كانت كافية لتجعله يقلق. "هذه نقود إيرانية، كيف وصلت إليك؟" سأله الضابط بنبرة حادة. 

حاول أن يشرح له، لكن الكلمات تلاشت بين صوت الصراخ والاتهامات.

اقتادوه حيث يريدون بعيدًا عن الطريق الذي يوصله إلى أمه، كانوا يبحثون عن إنجاز يبرر وجودهم في المناطق البعيدة عن المعارك.

في دهاليز التحقيق، جلس أمام مكتب خشبي عليه مصباح يضيء بالكاد. المحقق كان يحدق فيه بعينين فارغتين، كأنما يفتش عن شيء داخل رأسه.

"لمن تعمل؟ ما هي مهمتك؟" كانت الأسئلة تأتي متتالية دون توقف، بينما كان حسنين يحاول أن يجيب بما يعرفه..

"لا أعمل لأحد. وجدتها بين متعلقات الأسرى. لم أظن أنها ستسبب مشكلة." لكن المحقق لم يكن يريد الإجابات، بل كان يبحث عن تأكيد لتهمته.

لم يكتفوا بالأسئلة، بل لجأوا إلى التعذيب. ضربوه على ظهره ورأسه بعصا خشبية حتى تورمت، وصبوا الماء البارد على جسده في ليلة باردة. 

كان الألم يزداد، لكنه لم يكن أقسى من شعوره بالعجز أمام الاتهامات التي لا يستطيع دحضها.  

كانت الحرب العراقية الإيرانية واحدة من أطول الحروب في القرن العشرين، استمرت ثماني سنوات (1980-1988)، وخلّفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى.

بدأت الحرب بعد اجتياح العراق للأراضي الإيرانية، مدفوعًا بأطماع صدام التوسعية، لكنها سرعان ما تحولت إلى صراع دموي استنزف موارد البلدين.

الأيام تمر في الزنزانة، حيث أصبح حسنين يرى الجدران وكأنها صفحات كتاب يكتب عليه أحلامه المفقودة.

يحاول أن يراجع حياته، أن يتذكر كيف بدأ كل شيء، لكنه يجد أن كل ما يملكه هو سلسلة من الاختيارات التي لم تكن يومًا بيده.

في إحدى الليالي، جلس مستندًا إلى جدار الزنزانة، نظر إلى سقفها الخشبي وقال: "ربما لو كانت الحياة أقل قسوة، لتمكنت من تحقيق شيء أفضل."

اليوم الذي صدر فيه الحكم كان أكثر الأيام هدوءً. وقف أمام القاضي العسكري، يحدق في كلماته التي خرجت خالية من أي مشاعر.

"حكم عليك بالإعدام بتهمة التجسس لصالح العدو." كانت الكلمات ثقيلة، لكنها لم تكن مفاجئة.  

عندما اقتيد إلى زنزانة الإعدام، جلس وحيدًا، يكاد لا يصدق أنه سيغادر هذه الحياة بسبب قطعة نقود لا قيمة لها وجدها في جيب أسير إيراني.

وفي اللحظة الأخيرة، عندما أُطفئت الأنوار، شعر أن حياته كانت مجرد فصل صغير في كتاب الحرب والظلم.

اضف تعليق