ان اميركا قد لعبت اللعبة المزدوجة لتجمع بين الامبريالية المالية والماركنتالية الجديدة وهو امر لم يتحقق الا للمرة الاولى منذ الحرب العالمية الثانية، باعلانها النمط الجديد من الحمائية التجارية وحرب الرسوم او التعريفات، وهي جزء من شبكة معقدة من الحروب التجارية التي يصعب تفكيكها في الوقت الحالي...

1- تمهيد: 

لقد انتهت حالة سياسة الاسترخاء التي عاش عليها الاقتصاد الامريكي بالتعايش على عجز مستمر في الحساب الجاري لميزان المدفوعات مقابل اعادة استثمار الدولار داخل الولايات المتحدة الامريكية وبفائض او توازن في الحساب المالي لميزان المدفوعات، ذلك منذ ان اتكلت عليها اميركا مع اليابان بعد الحرب العالمية الثانية وتبعتها الصين في السنوات الاربعين الاخيرة ومن ثم تمدد الولايات المتحدة مالياً في العالم من خلال نظامها النقدي وهيمنة الدولار وهو ما اطلق علية بالإمبريالية المالية financial imperialism ، حتى اعادة هيمنتها مجدداً بإحلال الحروب التجارية وهو ما يطلق عليه بالماركنتالية المالية الجديدة

‏New Financial Mercantilism

وتعني تبنّي اميركا سياسات مالية وتجارية تهدف إلى تعظيم الفائض التجاري والاحتياطات النقدية الأجنبية، من خلال تعزيز الصادرات، وتقليل الواردات، وتقييد تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج.

بعبارة ادق، الهدف هو تحقيق قوة مالية امريكية (قومية الخصائص) من خلال تراكم الثروة (خصوصًا من العملات الأجنبية) على غرار ما كانت تسعى إليه الدول في العهود “الماركنتالية” التقليدية (Mercantilism) في القرن السادس عشر ولغاية القرن الثامن عشر، لكن بأدوات مالية حديثة تتقدمها سياسة حمائية من نمط جديد تتمثل بالحروب التجارية وبهيمنة الدولة الواحدة وبغية تحقيق فائض في الحساب الجاري لميزان المدفوعات الامريكي، ضمن خطط تحقيق حلم القوة الامريكي .

وفي 2 نيسان 2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض تعريفات كمركية جديدة شملت جميع الدول تقريبًا. تضمنت هذه الإجراءات فرض تعريفة أساسية بنسبة 10% على جميع الواردات ، مع استثناءات محدودة.

بالإضافة إلى ذلك تم فرض تعريفات أعلى على حوالي 57 شريكًا تجاريًا رئيساً، استنادًا إلى ما وصفه ترامب بالممارسات التجارية غير العادلة.

وبناءً على ذلك ، تأثرت أكثر من 100 دولة بهذه التعريفات الجديدة ، حيث خضعت جميعها للتعريفة الأساسية البالغة 10%، بينما واجهت 57 دولة تعريفات أعلى تتراوح بين 20% و50%، اعتمادًا على الفائض التجاري لكل دولة من تلك الدول مع الولايات المتحدة.

2- العراق والولايات المتحدة: الصديق التجاري البارد

على الرغم من ان الرسوم الكمركية الامريكية الجديدة لاتشمل {النفط والغاز } ما يعني ان العراق لم يتأثر من ذلك وهو في منأى عن اجراءات الحماية التجارية الامريكيه المفروضة على نفوط العراق كافة، في وقت لاتوجد لدى بلادنا صادرات اخرى تستحق الذكر الى اميركا كي تفرض عليها رسوم كمركية مؤثرة او يتم وضع معيار قياسي لها.

وبذلك نجد ان مجمل الصادرات النفطية العراقية للولايات المتحدة قد اخذت حدها الاعلى من الرسوم الكمركية التي فرضتها الولايات المتحدة بنحو 78% بدلا من 39% اذا كانت عملة الدفع غير الدولار الامريكي ((ولو نظرياً)).

ويمكن بهذا الصدد القول ان الصادرات العراقية النفطية الخام الى الولايات المتحدة الأمريكية هي الاخرى لا تتعدى 7,4مليارات دولار امريكي سنوياً، والسوق الامريكية هي سوق نفطية ثانوية في الاسواق التي يتعامل معها العراق بالغالب وهي ليست من الاسواق المثالية في الصادرات النفطية العراقية مقارنة بسوقي الصين والهند التي نصدر اليهما قرابة 70% من النفط العراقي حاليا. 

في الوقت نفسه لا توجد استيرادات مدنية مهمة من اميركا مقارنة باستيرادات العراق من بلدان ذات اولوية مثل تركيا والهند والصين ودولة الامارات وكذلك من المجموعة الاوروبية وغيرها، حيث يستورد العراق 90% من استيراداته السنوية من السلع من هذه البلدان ، وبالنظر لانعدام الصادرات الاخرى غير النفطية الى الولايات المتحدة ، فان الرسوم المفروضة على صادرات العراق غير النفطية لا تشكل اية اهمية ولا تعرض بلادنا الى اي معوقات تؤثر على الاستقرار التجاري والاقتصادي للعراق او ميزانه التجاري … فأميركا مازالت شريك تجاري ثانوي جدا مقارنة بالشريك الاساسي الاسيوي و الاوروبي في الاستيراد والتصدير .

وعسى ان تكون بلادنا في منأى عن هذه التحولات في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية التجارية الشديدة الحمائية من خلال فرض الرسوم الكمركية على مجموعة واسعة من تجارة استيراداتها مع بلدان العالم ومنها العراق و التي تتاجر معها اميركا لكون بلادنا ترتبط مع الولايات المتحدة الأمريكية باتفاقية الاطار الاستراتيجي الموقعة بين البلدين الصديقين منذ العام 2008 وهي معاهدة تعاون وشراكة عالية المستوى في المجال التجاري والاستثماري والاقتصادي.

ولكن ما تريده اميركا من هذا الانقلاب الحمائي في نظام التجارة العالمية هو تحول الدول نحو الولايات المتحدة الأمريكية وتحسين الميزان التجاري الامريكي ذلك بحصر تجارة استيرادات العالم نحو السوق الامريكية وبعملة الدولار حصرا لكي تكون خالية من المخاطر الحمائية الامريكية . وهي بوادر انقسام العالم الى اقطاب تجارية بالتدريج قبل التحول الى اقطاب جيوسياسية.

3- مفارقة فرض الرسوم الجديدة على العراق 

هل هي اخطاء في الحسابات الاستراتيجية مع الاصدقاء؟ لقد تضمنت معادلة التعريفة الكمركية الامريكية على العراق بانها عدت النفط من ضمن جداول الصادرات المشمولة بالتعريفة الجديدة ، بالوقت الذي يلحظ فيه ان النفط والغاز هما خارج نطاق الاحتساب اصلاً ، ما جعلت الفرق بين الصادرات النفطية البالغة 7,4 مليار دولار سنويا امر اقتضى مناصفته بالتقريب والتخفيض من 78% الى 39%( طالما ان عملة الدفع هي الدولار ).

ولكن نتساءل لماذا دخل العراق خريطة التعريفات الترامبية الجديدة والنفط والغاز هما خارج المعادلة؟

في وقت نرتبط مع الولايات المتحدة الأمريكية باتفاقية الاطار الاستراتيجي الموقعة بين البلدين في العام 2008 وهي المعاهدة التي تتضمن محور تجاري واقتصادي من التعاون المشترك بين البلدين الصديقين، إنه امر يتطلب النظر والتفاوض !!

4- الاستنتاجات: 

ان ما يطمن نظامنا المالي و التجاري الراهن يدور باتجاهين مبهمين جاء بهما الامر الرئاسي التنفيذي:

الاول: حقيقة ان النفط والغاز الطبيعي هما خارج الرسوم الأمريكية وهذا هو الشي الآمن ظاهرياً . ولكن المخيف في الامر هو انه قد تتعسف المصارف الامريكية المراسلة في فرض رسوم على تحويلات العراق إلى بلدان اخرى عند التسديد بتحويل الدولار إلى عملات دولية اخرى وهي بلدان ممن يفرض عليها رسوم بنسبة 78% والعراق من بينها.

وثانيا: احتمال فرض رسوم على عوائد استثمار الاحتياطيات الدولارية في أميركا عند تحويلها إلى عملات اجنبية اخرى لكون عوائد النفط هي مودعة في أميركا حاليا وهذا هو الجانب الغامض في الموضوع . فظاهريا لا توجد اثار تذكر إلا بشكل محدود و عمليا هناك تشابكات حمائية فرضتها اميركا على الاقتصاد الدولي ما سترفع من كلفة التجارة الدولية ونحن بلد مستورد عالميا يقتضي الدفع بعملات مختلفة .

5- ختاما: 

ان اميركا قد لعبت اللعبة المزدوجة لتجمع بين (الامبريالية المالية والماركنتالية الجديدة) وهو امر لم يتحقق الا للمرة الاولى منذ الحرب العالمية الثانية… باعلانها النمط الجديد من الحمائية التجارية وحرب الرسوم او التعريفات، وهي جزء من شبكة معقدة من الحروب التجارية التي يصعب تفكيكها في الوقت الحالي، وأن العراق في انتظار حل لهذه العقد من الحروب الباردة في النظام الاقتصادي الدولي بالتدريج.

اضف تعليق