كيف سيتعامل العراق مع هذا الضغط الترامبي الصارم، الذي لا يعترف بالأعراف الدولية ولا يولي أهمية للأخلاقيات السياسية؟ في مراكز الأبحاث وورش العمل السياسية، يبرز اتجاه بحثي يرى أن العراق بحاجة إلى قراءة دقيقة للمرحلة السياسية الحرجة داخليًا وخارجيًا. فالخيارات المتاحة أمامه محدودة...
من دوائر التخطيط السياسي في وزارة الخارجية إلى أروقة النخبة السياسية والأكاديمية، ينشغل بعض العراقيين بمسألة قديمة - جديدة تتعلق بشكل ومضمون العلاقة بين بغداد وواشنطن. فالعراق لا يملك رفاهية الانتظار طويلًا في ظل إدارة ترامب ليقرر ما يريد وما لا يريد، إذ بدأت هذه الإدارة منذ وقت مبكر بتنفيذ هجوم دبلوماسي وسياسي سريع لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، معلنة عن منهجها في تصنيف دول الشرق الأوسط ضمن فئات محددة: حليف، شريك، صديق، محايد، أو عدو. وهي تسعى إلى تكريس هذه التصنيفات بشكل مستعجل لتتصرف وفقًا لاستراتيجيتها المخططة.
ليس سرًا أن إدارة ترامب تريد حسم ملفات العلاقة مع دول الشرق الأوسط بسرعة، خلافًا لما فعلته إدارة بايدن السابقة التي فضّلت أسلوب شراء الوقت. فترامب يسعى لفرض “السلام بالقوة”، ويركز على أولويات استراتيجية تشمل: أمن إسرائيل بلا حدود، وأمن الطاقة والممرات والاقتصادات بلا شروط، وإبعاد الصين وروسيا عن النفوذ في المنطقة، وفكيك محور المقاومة بقيادة إيران.
هذا المحور، الذي يضم حزب الله اللبناني، النظام السوري السابق، الفصائل المسلحة العراقية، أنصار الله الحوثيين في اليمن، وحركات المقاومة الإسلامية الفلسطينية، يعتبره ترامب تهديدًا يجب تصفيته نهائيًا. ولذلك، تسير استراتيجيته في اتجاه تقليم أظافر هذا المحور، وإجبار إيران على البقاء داخل حدودها الجغرافية وممارسة الدفاع الذاتي من داخلها فقط.
آخر حلقات هذا الاستهداف العسكري كان ضد أنصار الله في اليمن، فيما تبقى بعض القوى الفصائل العراقية التي تنتهج خطابًا موازيًا لخطاب الدولة العراقية. إدارة ترامب بدأت هجومها السياسي والدبلوماسي ضد هذه الجماعات، مؤكدة أن العراق الرسمي مسؤول عن تصرفات وخطابات مواطنيه، أيًّا كانت توجهاتهم السياسية. فمن منظور القانون الدولي، الدولة العراقية مطالبة بممارسة سيادتها الداخلية والخارجية، لأن الدول الأخرى تتعامل مع الحكومات وليس مع الجماعات. وبالتالي، ترسم مواقفها تجاه العراق بناءً على سياسات بغداد الرسمية، وليس على مواقف قوى سياسية غير رسمية.
وهنا يبرز التساؤل: كيف سيتعامل العراق مع هذا الضغط الترامبي الصارم، الذي لا يعترف بالأعراف الدولية ولا يولي أهمية للأخلاقيات السياسية؟ في مراكز الأبحاث وورش العمل السياسية، يبرز اتجاه بحثي يرى أن العراق بحاجة إلى قراءة دقيقة للمرحلة السياسية الحرجة داخليًا وخارجيًا. فالخيارات المتاحة أمامه محدودة، والأوراق التفاوضية التي يمتلكها صانع القرار العراقي ليست ذات تأثير كبير.
فالعراق، وفق الاستراتيجية الأميركية للأمن القومي، لم يعد أولوية أميركية مستقلة، بل يُنظر إليه كساحة نفوذ إيرانية ينبغي تقليصها في إطار سياسة الضغط الأقصى على طهران. وبناءً على ذلك، تدرك الجماعات العراقية المسلحة أن مساحة المناورة أمامها لدعم إيران أصبحت تضيق تدريجيًا، كما أن المنطقة بأسرها تمر بمرحلة إعادة رسم لموازين القوى، بحيث لا يعود العراق ورقة ضغط أو ساحة تفاوض أو منطقة حياد.
في ظل هذه المعطيات، يرى باحثون أن العراق مطالب باتباع سياسة “تقليل الأضرار ودفع المخاطر المحتملة”، عبر: تجنب أن يكون ساحة صراع إقليمي أو دولي. وتبني سياسة “الوسيط المقبول” في التوترات الإقليمية. والتخطيط الواقعي بدلًا من السياسات الارتجالية والخطابات المتناقضة.لكن تنفيذ هذه الرؤية يتطلب إجابة واضحة على سؤالين جوهريين: ماذا يريد العراق من علاقته مع الولايات المتحدة؟ وما هي العوائق التي تمنع تحقيق هذه الرؤية؟
هناك من يعتقد أن تحرر العراق من الضغوط الأميركية يستلزم اتخاذ مواقف حازمة ضد واشنطن، مستندًا إلى مبادئ سياسية وعقائدية، ومستعدًا لتقديم تضحيات في سبيل ذلك. لكن الإشكالية تكمن في أن بعض القوى السياسية المسلحة لا تتحرك من موقعها كجماعة سياسية فحسب، بل تحاول تحميل الدولة العراقية ككل مسؤولية تبني هذا النهج، دون أن يكون هناك إجماع وطني حوله.
القارئ السياسي يجد أن العراق لم يحسم موقفه بعد، وهو يسعى إلى ترتيب أوراقه مع واشنطن بأيدٍ شبه خالية. فلا يوجد لوبي عراقي نشط في الولايات المتحدة يدعم مواقف بغداد، ولا علاقات شخصية وازنة مع أركان إدارة ترامب أو الكونغرس، ولا شركات علاقات عامة تعمل لصالح العراق هناك، بعكس ما فعلت الأحزاب الكردستانية وبعض الشخصيات العراقية ذات الانتماء المذهبي المحدد.
في النهاية، الرؤية السياسية العراقية لا تزال تنتظر قراءة واقعية لعاصفة التغيير التي تضرب المنطقة والعالم. فالتماسك الداخلي هو شرط أساسي لعلاقات مرنة ومتوازنة مع الخارج، تأخذ في الحسبان تقلبات موازين القوى، وتستفيد من تجارب الآخرين في كيفية تفادي الأسوأ.
اضف تعليق