أوجلان أدرك أن دور حزب العمال الكردستاني العسكري قد تراجع بشكل كبير أمام القوات التركية، وأن الحل السياسي مع تركيا قد يكون الخيار الأفضل لضمان استمرار وجود قسد في سوريا، والتي أسسها قيادات سابقة من الحزب. وبهذا، يسعى أوجلان إلى إطلاق كيان كردي جديد يتماشى مع التغيرات السياسية...

دعا عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني (PKK)، في 27 شباط 2025، من سجنه في تركيا، الحزب إلى إلقاء السلاح وحلّ نفسه، جاءت دعوته عبر رسالة قرأها وفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، واشتملت دعوته على ثلاثة امور اساسية يمكن تلخيصها بالآتي:

اولا/ إنهاء دور الحزب: اذ أكد أوجلان أن حزب العمال الكردستاني، الذي تشكل في ظروف الحرب الباردة بسبب إنكار الهوية الكردية، قد أنهى دوره بعد تغير الظروف الدولية وتراجع إنكار الهوية الكردية.

ثانياً/ رفض الانفصال: دعا اوجلان إلى التخلي عن أي حل قائم على انفصال الأكراد عن تركيا، سواء عبر دولة كردية منفصلة أو فيدرالية، معتبراً أن هذه الحلول لا تتناسب مع الواقع الاجتماعي.

ثالثا/ الاندماج في تركيا: حث الأكراد على الاندماج في الدولة التركية والمشاركة في الحكومة، مشيراً إلى أن انفتاح تركيا الديمقراطي في مئويتها الثانية يتطلب ترك المعارضة والمشاركة دون تمييز.

جاءت هذه المبادرة في ظل ظروف وتحولات داخلية وخارجية فمنذ اعتقاله عام 1999، قدَّم عبدالله أوجلان عدة مبادرات لحل القضية الكردية سلمياً، بما في ذلك إصدار أوامر بوقف إطلاق النار من جانب واحد تجاه الدولة التركية ومع ذلك، واجهت هذه الجهود معارضة شديدة من التيار القومي التركي، الذي عطَّل حتى المحاولات التي قادها حزب العدالة والتنمية الحاكم عام 2013، والتي هدفت إلى تسوية القضية سلمياً ودعوة حزب العمال الكردستاني إلى التخلي عن السلاح، وعلى مر السنين، خفَّض أوجلان سقف مطالبه تدريجياً، حيث انتقل من المطالبة بدولة كردية مستقلة إلى المطالبة بنظام فدرالي كردي داخل تركيا، ثم إلى الحكم الذاتي للأكراد في المناطق الجنوبية الشرقية من البلاد. لكنه في النهاية تخلى عن هذه المطالب تماماً في اعلانه الأخير.

يبدو أن أوجلان، بدوافع شخصية وسياسية، يسعى إلى إيجاد حل نهائي للقضية الكردية، حيث أكد أنه يتحمل المسؤولية التاريخية عن هذه الدعوة، ومع ذلك، يبدو أن هناك هدفاً سياسياً أوسع يطمح إليه، حيث لم يوجه دعوته للتخلي عن السلاح إلى قوات سورية الديمقراطية (قسد)، من جانبه، أكد قائد (قسد) مظلوم عبدي أن قواته ليست معنية بدعوة أوجلان، وأنها ستواصل التفاوض مع الحكومة السورية لترتيب أوضاعها ضمن الجيش السوري الجديد، خاصة بعد توقيع اتفاق مع الإدارة السورية لدمجها في مؤسسات الدولة.

بناءً على ذلك، يمكن القول إن أوجلان أدرك أن دور حزب العمال الكردستاني العسكري قد تراجع بشكل كبير أمام القوات التركية، وأن الحل السياسي مع تركيا قد يكون الخيار الأفضل لضمان استمرار وجود قسد في سوريا، والتي أسسها قيادات سابقة من الحزب. وبهذا، يسعى أوجلان إلى إطلاق كيان كردي جديد يتماشى مع التغيرات السياسية في المنطقة، مع الحفاظ على أفكار سياسية متجددة للحزب.

كما انه أدرك أن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني (PKK) وحل نفسه قد يُحقق مكاسب عديدة للحركة الكردية، أبرزها:

١- تخفيف الضغوط الأمنية والسياسية على الأكراد في تركيا، اذ سيسمح ذلك للتيار الكردي، وخاصة حزب الشعوب الديمقراطي الذي حصل على حوالي 10% من الأصوات الانتخابية البرلمانية، بممارسة العمل السياسي بحرية أكبر، في حال ايقاف استخدام تهمة الإرهاب كذريعة من قبل السلطات التركية لقمع الحزب، اذ سيتمكن الحزب من تعزيز نفوذه السياسي وزيادة شعبيته، ليصبح قوة سياسية رئيسة في تركيا.

٢- تخفيف الضغوط على قوات سوريا الديمقراطية: اذ مع اختفاء حزب العمال الكردستاني، ستضعف حجة تركيا في استهداف قسد، خاصة إذا غادرت القيادات الموالية للحزب الأراضي السورية، هذا قد يمنح الأكراد السوريين فرصة أكبر للمشاركة في اعادة تشكيل مستقبل سوريا سياسياً.

٣- تحسين وضع إقليم كردستان العراق: سيؤدي حل الحزب إلى تخفيف الضغوط التركية على إقليم كردستان العراق، مما قد يوقف العمليات العسكرية التركية هناك، هذا بدوره سيمكن الإقليم من تعزيز علاقاته مع الأكراد في سوريا وتركيا.

٤- تحول الحركة الكردية إلى لاعب إقليمي: اذ هدف خطاب أوجلان، إلى تحرير الحركة الكردية من الضغوط التركية ومن صفة الإرهاب، وتحويلها إلى قوة إقليمية مؤثرة في الشرق الأوسط، بدلاً من أن تكون محصورة في نطاق الدول التي يعيش فيها الأكراد، كما عرض أوجلان على تركيا أن تكون الراعية لهذا التيار الكردي في المنطقة، مما قد يقلل من تأثير إسرائيل على الأكراد ويُنهي المطالبات بتقسيم تركيا.

٥- موقف المعارضة التركية: لم تبدِ الأحزاب المعارضة الرئيسة في تركيا معارضة قوية لمسار الحكومة في حل القضية الكردية عبر الحوار مع أوجلان، ومع ذلك، طالبت هذه الأحزاب بأن يكون المسار شفافاً وتحت رقابة البرلمان، وأن تعترف الحكومة علناً بمفاوضاتها مع أوجلان، ويُذكر أن زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، أوزغور أوزيل، أكد على أن الدولة التركية كانت تتفاوض سراً مع أوجلان منذ أشهر، هذا الموقف يعكس حسابات سياسية داخلية، خاصة بعد أن استخدم حزب العدالة والتنمية الحاكم اتهامات بأن المعارضة تتفاوض سراً مع الأكراد كجزء من حملته الانتخابية في 2023. بشكل عام، يبدو أن المسار الحالي يحظى بقبول واسع في الداخل التركي.

في ضوء ذلك يمكن تحديد المشاهد المحتملة لدعوة اوجلان والتفاعل معها في تحقيق اهدافها من عدمه الى الاحتمالات الآتية:

الاحتمال الاول/ نجاح المسار السياسي للدعوة والمبادرة: في هذه الحالة يعلن حزب العمال الكردستاني (PKK) وقف إطلاق النار من جانب واحد، ويبدأ عملية حل نفسه تنفيذاً لدعوة زعيمه عبدالله أوجلان، وتنسحب قيادات الحزب من سوريا وتفصل نفسها عن قوات سوريا الديمقراطية.

بالمقابل ستوافق الحكومة التركية على الإفراج عن أوجلان ووضعه تحت الإقامة الجبرية في جزيرة إمرالي، مع السماح بزيارته والإشراف على العملية السياسية، ثم يتم العفو عن بعض قيادات الحزب والسماح لهم بالعودة إلى تركيا أو السفر إلى أوروبا، ويمكن ان يتطور الحال من خلال طرح إصلاحات دستورية، اذ من الممكن يتم إعداد دستور جديد يعترف بالهوية واللغة الكردية في تركيا، مع السماح بالتعليم باللغة الكردية بشكل اختياري، بالمقابل يُسمح للرئيس أردوغان بالترشح لولايتين رئاسيتين إضافيتين، مع ربط الدستور الجديد بحل القضية الكردية.

اما في اطار العلاقات الإقليمية فتتراجع تركيا عن عملياتها العسكرية في شمال العراق وشمال سوريا، وتُعيد بناء علاقاتها مع قوات سوريا الديمقراطية، مع مراعاة مطالبها في العلاقة مع دمشق، وهذا المشهد بدأ يتحقق فعلياً في سوريا ما يمهد لتأكيد فرضية تحقق مسارات هذا الاحتمال.

الاحتمال الثاني/ فشل المسار السياسي: اذ من المتوقع ان يرفض حزب العمال الكردستاني حل نفسه أو وقف إطلاق النار بشكل كامل، مما يؤدي إلى استمرار التوترات والعنف.

بالمقابل، سترفض الحكومة التركية الإفراج عن أوجلان وتشدد عملياتها العسكرية ضد الحزب في تركيا وسوريا والعراق، ما يؤدي الى تصعيد عسكري في المنطقة، مع استمرار العمليات التركية ضد قوات سوريا الديمقراطية وزيادة التوترات مع الأكراد، وحصول تأثير إقليمي، قد يؤدي الى تعقيد العلاقات التركية مع دول الجوار، وزيادة التدخلات الخارجية في المنطقة، واستمرار العمليات التركية في اقليم كردستان وسنجار يعزز من تأكد فرضية حصول هذا الاحتمال وقد يتعزز اذا ما حصلت خلافات بين قوات قسد والحكومة السورية الجديدة وتراجع او تفكك الاتفاق الاخير.

الاحتمال الثالث/ مسار سياسي جزئي وتفاوض محدود: قد يتم التوصل إلى اتفاق جزئي بين PKK والحكومة التركية، يتضمن وقف إطلاق النار لفترة محدودة وبدء مفاوضات حول بعض المطالب الكردية.

عبر إفراج مشروط عن بعض قيادات الحزب أو تخفيف الأحكام بحقهم، مع استمرار بقاء أوجلان في السجن بظروف مخففة، وتطرح إصلاحات دستورية محدودة، تعترف بالهوية الكردية، ولكن دون تحقيق جميع المطالب الكردية قومياً، مع استمرار التوتر بين الحين والاخر خاصة مع قرب الانتخابات وتصاعد التوترات الاقليمية واستحضار التوتر بين الأطراف، مع احتمال تجدد العنف في حال فشل المفاوضات، والعودة لمسار الاحتمال الثاني.

شخصية اوردغان المتشددة من الاكراد، ووجود أطراف اقليمية ودولية تريد استخدام الورقة الكردية لتوتير المنطقة تعرز بشكل متفاوت حدوث هذا الاحتمال واستغلاله في سياق التهدئة المؤقتة تارة، والتصدع والعودة للمربع الاول تارة اخرى.

الاحتمال الرابع/ تدخلات خارجية ودور دولي واضح في دفع مسار حل القضية الكردية في تركيا وسوريا والعراق وانجاح هذه الدعوة: اذ قد تتدخل دول أو منظمات دولية لفرض حل سياسي، مما قد يؤدي إلى تغيير في ديناميكيات الصراع، عبر ممارسة ضغوط دولية على قسد تركيا لضغوط للإفراج عن أوجلان أو لوقف عملياتها العسكرية في سوريا والعراق.

وقد تؤثر التدخلات الخارجية على العلاقات التركية مع حلفائها التقليديين، مثل الولايات المتحدة وحلف الناتو، ولهذا الاحتمال فرضيات تحققه بعيدة رغم عدم استبعاده في عهد الرئيس ترامب، لوجود مصالح اخرى مشتركة بين واشنطن وانقرة وتل ابيب، فضلا عن دول الاتحاد الاوربي التي تريد من تركيا ان تكون صمام امان، امام المهاجرين اليها، ما يقتضي عدم الضغط عليها بقضية قومية حساسة كالقضية الكردية.

هذه السيناريوهات تعكس الاحتمالات المختلفة بناءً على التطورات الحالية والمواقف المعلنة للأطراف المعنية، لكن المشهد الاكثر احتمالاً للحصول هو الذي تدفعه وجود تحولات سياسية في المنطقة تعزز من مكانة إسرائيل على حساب جيرانها، مما يدفع تل أبيب إلى البحث عن حليف إقليمي قوي، قد تتمثل في قوات سورية الديمقراطية واستغلال الورقة الكردية للضغط على دول المنطقة، لهذا سيواجه الرئيس التركي أردوغان خيارين صعبين: إما السعي إلى تفكيك قسد وحزب العمال والقضاء عليهما، وهو أمر يبدو بعيد المنال في الظروف الحالية، أو التعامل معهما كواقع قائم عبر التفاعل مع مبادرة عبدالله أوجلان، وضمان منع أي سيناريو لقيام دولة كردية قد تؤثر على الأراضي التركية.

ان تداعيات الداخل التركي وطموح اردوغان لتعديل الدستور لصالح ترشحه لولايتين اضافيتين من جهة أخرى، وادراك عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، أن الحزب لم يعد قادراً على تحقيق أهدافه، بل تحول إلى عبء على القضية الكردية بسبب تصنيفه كمنظمة إرهابية من قبل تركيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية، بالإضافة إلى عجزه عن تحقيق انتصارات عسكرية ضد الجيش التركي، دفع بأن الحل الأفضل يكمن في التضحية بالحزب والاعتماد على قوات سورية الديمقراطية، التي يمكن أن تصبح قوة سياسية وعسكرية مؤثرة في المنطقة، مع إمكانية التواصل مع الأكراد في تركيا والعراق، وربما إيران في المستقبل، بما يدفع باتجاه تعزيز نجاح المسار التفاوضي ومخرجاته بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، خاصة مع التخوف من الصعود الاسرائيلي التي تريد اعادة ترتيب الاوضاع في المنطقة لصالحها، والورقة الكردية احد مداخل تحقيق ذلك، ولهذا انعكاسات ايجابية مهمة في استقرار المنطقة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق