يبقى الحل كامناً في تنويع الاقتصاد بالخدمات وبرامج البناء والاعمار وتقليل الاعتماد على النفط وتعزيز الشفافية والمساءلة لضمان التوزيع العادل للموارد، كي ينصلح الحرس القديم ويتحول الحرس الجديد من فوره الى احزاب حقيقية تتولى بناء حياة سياسية تلبى شروط الديمقراطية من خارج لعبة الصراع على المنافع لكي تضمن مكاسبها السياسية بالصوت الشعبي الحقيقي لا بالصوت الريعي...

ليس بالأمر المستغرب ان يتجه منحنى تطور الاحزاب السياسية المختلفة ليعلن على الدوام ولادة الجديد منها سراعًا وتقوقع القديم منها عبر التاريخ الديمقراطي الحديث للعراق. فمنذ العام 2003 والبلاد تلتئم في نزاعات طبقية بين الاحزاب نفسها، ليفصح لنا ان ظاهرة تكاثر الاحزاب او الكتل المنبثقة عنها سراعاً، تؤكد ان صراعات القوى السياسية على ادارة الدولة الريعية بعد ان هيمنت الاولغارشيات على الجيل التقليدي منها وولادة مصالح اقتصادية قوية.

جاءت بعد ان انكمشت مسارات الحرس القديم من دون ريب عن جماهير البلاد، لتُظهر لنا تجربة العقدين المنصرمين، ان النسيج الاجتماعي لم يعد يتقبل أحزاباً تقليدية اغرقها الريع النفطي وامتيازاته على حساب تعطيل التنمية لسنوات، وانه لا مخرج اليوم الا باتجاهين اما اصلاح الاحزاب القديمة (الحرس السياسي القديم) وهو امر يبدو شديد التعقيد، او قبول الدور الجديد للقوة الناعمة من (الحرس السياسي الجديد).

اذ لايزال من المبكر الحكم على ما إذا كان هذا الحرس السياسي الجديد سيؤدي إلى إصلاح فعلي، أم أنه سيعيد إنتاج المشكلات نفسها في التحالف الاوليغارشي - الريعي للحرس القديم ولكن بوجوه جديدة في الانتخابات البرلمانية المقبلة. فالتحدي الأكبر أمام الحرس الجديد، هو تجاوز المحاصصة والفساد، وإقناع الشارع العراقي بأنه يمثل بديلاً حقيقيًا للقوى السياسية التقليدية من الحرس القديم وليس مجرد امتدادًا له.

ومن هنا يطالعنا المفكر السياسي الكبير ابراهيم العبادي في مقال بعنوان: احزاب لادارة الدولة … !! مؤكداً القول ((…. احوال العراق الراهنة- رغم كل الجهود المبذولة لتحسين الاداء وتفكيك المشكلات - تشي بالحاجة الى حراكات نخبوية، حسب مطالبات بيان المرجعية الدينية بعد لقاء المرجع السيستاني مع ممثل الامم المتحدة محمد الحسان، لانعاش الحياة السياسية وتجديد الطواقم الحكومية والادارية، ووضع البلاد على طريق التنمية الشاملة، التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية. القوى السياسية الراهنة، بشيوخها وشبابها، باجيالها المتعددة، واحزابها القديمة والجديدة، وزعاماتها التقليدية توقفت عن صناعة بدائل مقبولة للوضع القائم، الانتخابات التي تكرر نفسها تعيد انتاج ذات القوى وتسمح لها بشرعية ناقصة بالسيطرة على مراكز القوة والثروة ما افقدها القدرة على اقناع الجمهور ببرامجها وشعاراتها وافكارها وحتى تحليلاتها للاحداث اليومية.

ويواصل المفكر العبادي القول: ثمة حراكات صامتة تجري في احشاء المجتمع العراقي، تقوم بها نخب مختلفة، لبناء تصورات وتأسيس بنيات لعملية العبور من القديم السياسي القائم الى الجديد الضروري، والحقيقة ان القديم يحتضر فعلا كما يقول (المفكر الايطالي غرامشي) لكن حتى يولد الجديد لابد من تجاوز العقل السياسي القديم المأزوم، بالقطيعة مع متبنياته وخطوطه الحمر ومعاركه التاريخية وخصوماته السياسية، الحراكات الجديدة مطالبة بأن تكون متوافقة مع ما يحتاجه المجتمع من افكار وقيم واخلاقيات سياسية، وان تستجيب لمتطلبات ادارة دولة حديثة ترتكن الى القانون والمؤسسات، وقادرة على تنفيذ اصلاحات أو تغييرات جريئة، فالعراق في عين عاصفة التغييرات والاستحقاقات السياسية، والاستجابة لهذه التحديات منوطة بعقل جديد راكم فهما لما يجري في الاقليم والعالم من متغيرات، ويمتلك حدسا قويا بما ستحدثه الموجة الراهنة من الشعبوية واليمينية واللامتوقع من تفاعلات النظم السياسية والتحديات الاقتصادية .

العالم يتغير بسرعة من حولنا، والاستجابة لهذه المتغيرات لم تعد خيارا يمكن قبوله او رفضه، بل هي متطلبات عاجلة لادارة الدولة عبر تشكيلات حزبية حديثة ذات اهداف تنموية قبل الاهداف الفكرية والايديولوجية، الحزب الحديث شرط لدولة حديثة ديمقراطية. والحزب الناجح هو الحزب الذي يولد بمتطلبات مجتمعية محلية وليس صدى واستنساخ لافكار الخارج)).

وبناء على ما تقدم، فان الحراك الانتخابي الديمقراطي القادم سيبقى مولدا لظاهرة الحرس السياسي الجديد عبر (الظاهرة الريعية السياسية) التي تشير إلى اعتماد النخب السياسية في الصراع على الموارد الريعية، مثل عائدات النفط أو المساعدات الخارجية، بدلاً من الإنتاج الاقتصادي الحقيقي مما يؤدي إلى استمرار مسار نشاط الدولة الريعية التي تُهيمن فيها الحكومات على توزيع الثروة والامتيازات، و تستخدم الأحزاب المال الريعي لتوظيف أتباعها في القطاع العام أو منحهم عقودًا حكومية، ما يعزز الزبائنية السياسية و ترسيخ حكم الأحزاب المهيمنة، حيث تتحكم في توزيع الموارد للحفاظ على نفوذها، وهو الفساد السياسي بعينه. لذا فان تعطيل الديمقراطية الحقيقية، يتم باستخدام الأموال الريعية لكسب الولاءات بدلاً من بناء برامج سياسية حقيقية.

ختاما، يبقى الحل كامناً في تنويع الاقتصاد بالخدمات وبرامج البناء والاعمار وتقليل الاعتماد على النفط وتعزيز الشفافية والمساءلة لضمان التوزيع العادل للموارد، كي ينصلح الحرس القديم ويتحول الحرس الجديد من فوره الى احزاب حقيقية تتولى بناء حياة سياسية تلبى شروط الديمقراطية من خارج لعبة الصراع على المنافع لكي تضمن مكاسبها السياسية بالصوت الشعبي الحقيقي لا بالصوت الريعي… لذا فالكل ينتظر ليرى ما ستسفر عنه الانتخابات البرلمانية المقبلة؟؟

اضف تعليق