في فلسفة الخير والشر كُتبت الأسفار على مرّ التاريخ. الشرّ في كلّ تجلياته حتى الأكثر تطرفًا في الأذى والقسوة والوحشية يمكن أن يوجد فيه جانب من جوانب الخير! الحرب أو القتال هو المثال البارز للشر من وجهة نظر الغالبية الساحقة من البشر...

في فلسفة الخير والشر كُتبت الأسفار على مرّ التاريخ. الشرّ في كلّ تجلياته حتى الأكثر تطرفًا في الأذى والقسوة والوحشية يمكن أن يوجد فيه جانب من جوانب الخير! الحرب أو القتال هو المثال البارز للشر من وجهة نظر الغالبية الساحقة من البشر، مع هذا بوسعك أن تأتي بحشد من الاقتباسات الموثوقة في حكمتها وحنكتها من النوع المُشعر بخيرية الحرب. 

يقول الله جلّ وعلا في هذا السياق (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ). وقد أسهب المفسرون في بيان وجه الحكمة في هذا (الدفع) الذي هو كناية عن الحرب، ومما أورده المفسرون في معنى الكلمة المتقدمة أنّ المقصود بها القتال، هذا القتال الذي ينتج عنه -أحيانا- حفظ ما يجب حفظه كدور العبادة على حدّ تعبير الآية الكريمة.

وفي ضوء المقدمة السابقة بودي أن أستشهد بمثالين (مؤلمين) من وحي التجربة العراقية التي كنتُ من جملة شهودها، وأول هذين المثالين متصل بالمؤسسة العسكرية العراقية السابقة من جهة ما كانت تسمى آنذاك بالخدمة الالزامية، فعلى الرغم من كثرة الشرور التي رافقت تلك التجربة المؤلمة لكننا يمكن أن نُبصر بين تضاعيف تلك التجربة وجها من وجوه الخير من حيث إنها كانت -بمعنى من المعاني- معهدا لتعليم الشاب كيف يكون رجلا منضبطا، ومسؤولا فضلا عن منحه فرصة التواصل (الحيّ) مع أبناء شعبه على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية، وتفهم تلك الاختلافات، وكلٌ بطبيعة الحال حسب ثقافته وما يمتلكه من مرونة، وتكيّف، وسعة أفق. 

وهذا أمرٌ في غاية الأهمية لجهة التعايش السلمي بين عموم المواطنين، ومن هنا لنا أن نقارن موضوعيا بين جيل الآباء والأبناء من هذه الحيثية، فأبناؤنا أصبحوا الآن في عمر الرجال، ومع ذلك فأغلبهم يفتقر إلى الانضباط المطلوب، والقدرة على تحمّل المسؤولية، وكذا احترام الأعراف الاجتماعية السائدة بين الجماعات المختلفة، ومن ثم تقبل الاختلاف العرقي، والديني، والطائفي، وهي قيم يتفوق الآباء فيها على الأبناء غالبا، ويعود الفضل في اكتسابها إلى عوامل عدة منها ما ينتمي إلى تجارب الآباء إبان خدمتهم العسكرية المرّة...

أما المثال الآخر فيتعلق بظاهرة التهجير التي برزت بوصفها إفرازًا للحرب الأهلية التي استعر أوارها في العراق بين الأعوام 2005-2007 ثم ما تلا هذه الحقبة من سنوات داعش المظلمة التي بلغت أوج عتمتها سنة 2017. 

وبقدر ما يتعلق الامر بفكرة تعالق الخير بالشر فإن عددا كبيرا من العوائل التي هاجرت مناطقها الأصلية اتخذت طواعية قرار المكوث في المدن التي هاجرت إليها، وكثير من أبناء تلك العوائل الكريمة كان قد انخرط في ميادين العمل المختلفة، واكتسب عادات وتقاليد لم يكن له سابق عهد بها كما استطاع هذا (الآخر) أن ينقل جزءًا مهمًا من ثقافته المحلية السابقة إلى بيئته الجديدة.

ولعلّ ما نشاهده الآن من رواج أكلات موصلية بواسطة من هاجر من الموصل إلى كربلاء بسبب ظروف الأزمة الماضية يعزز من قوة الحجاج في إثبات ما نحن بصدد إثباته من فكرة وجود الخير في الشر.

قد يعمد البعض للتقليل من شأن وأهمية الطرح المتعلق بتأثير المطابخ بعضها في البعض الآخر، أو ما يصطلح عليه (دبلوماسية المائدة) لكن الواقع يقول عكس ذلك، وبالمناسبة فقد بدأ الترويج لمصطلح دبلوماسية المائدة مع بواكير الألفية الثالثة على أيدي علماء الدبلوماسية العامة من أمثال (بول روكاور)، وهو فيلسوف فرنسي، وعالم إنسانيات معاصر ذكر في مقال له نشرته المجلة التايوانية عام 2011 أن أسهل طريقة لكسب القلوب، والعقول تمر من خلال المعدة، في حين كتب مواطنه (تشابل سوكول) في مقال نشره عام 2013 بمجلة لاهاي للدبلوماسية ما مضمونه أن فلسفة دبلوماسية المائدة تنطلق من النظر إلى المطبخ بوصفه أداة لخلق أو تحسين التفاعل والتعاون بين الثقافات المختلفة. 

والخلاصة التي نبغي التوصل إليها مما عرضنا له في السطور السابقة، والأمثلة التي سقناها تكمن في أن كلًا من الخير والشر يمكن أن يتداخلا في أحيان كثيرة، وبمقدور العقلية المنفتحة بحسب هذا التصور أن تتوقع دائما وجود مكامن للخير في أكثر مناطق الشر بؤسا وإيغالا بالعنف والقسوة...

اضف تعليق