من بين القضايا الفكرية والسياسية التي بقيت محورا للحوارات الساخنة، يتصدر مصير تيارات المقاومة في المنطقة العربية -تحديدا- العنوان الأول لهذه القضايا، فالمقاومة -اصطلاحا محددا - ارتبطت بالحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها، واستهدفت استعادة الارض الفلسطينية المحتلة، واعادة المهجرين والنازحين الفلسطينيين -حق العودة -وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني عبر اقامة دولته...

من بين القضايا الفكرية والسياسية التي بقيت محورا للحوارات الساخنة، يتصدر مصير تيارات المقاومة في المنطقة العربية -تحديدا- العنوان الأول لهذه القضايا، فالمقاومة -اصطلاحا محددا - ارتبطت بالحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها، واستهدفت استعادة الارض الفلسطينية المحتلة، واعادة المهجرين والنازحين الفلسطينيين -حق العودة -وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني عبر اقامة دولته على جزء أو كل التراب الفلسطيني، المقاومة فعل الحركات والافراد والمنظمات، التي تعهدت بمنع استقرار الاحتلال الاسرائيلي وتوسعه ومصادرته للحقوق الفلسطينية بتواطؤ دولي وعجز عربي واختلال ميزان القوى لصالح دولة الاحتلال.

المقاومة الفلسطينية المسلحة والسلمية بتياراتها المتعددة، الوطنية واليسارية والاسلامية خاضت حربين في آن واحد، حرب المفاهيم وحرب المدافعة، حرب المفاهيم، ركزت على أحقية الشعب الفلسطيني في استخدام جميع الوسائل المتاحة لتحرير ارضه، بالأساليب العسكرية والدبلوماسية والاعلامية والقانونية، لإرغام العدو على الاعتراف بالحق الفلسطيني، وقد اصطدمت هذه المقاومة بجدار الدعم الدولي لدولة الكيان، بما فيها قرارات مجلس الامن الدولي، التي تركت للمقاومة الفلسطينية حق اقامة الدولة على ارض الضفة الغربية وقطاع غزة (7 الاف كيلومتر مربع من اصل 27 ألفا). 

المقاومة الوطنية واءمت شرعية وسقف مطالبها مع ما يمكن تحقيقه عمليا، المقاومة الاسلامية وجزء من المقاومة اليسارية رفضت ذلك وبنت استراتيجيتها على أبعد من السقف الذي اقتنعت به المقاومة الوطنية، انتهى الأمر بصراع على السلطة في الضفة وغزة ومناكفة مستمرة بلغت ذروتها بما حصل بعد هجوم السابع من اكتوبر، ثم حديث عن شروط لمنع حركات المقاومة الإسلامية من الإمساك بالسلطة في غزة بعد تدميرها، وبعد تضحيات هائلة دفعها الشعب الفلسطيني، ومازالت قضيته بين الاحياء والعودة الى سقف حل الدولتين أو ترحيل جزء من الشعب الفلسطيني، وتدمير الباقي ومنع قيام الدولة بذريعة وجود حركات اسلامية تشكل خطرا وجوديا على دولة الاحتلال.

حديث المقاومة يتصل بلبنان أيضا كون المقاومة الاسلامية تشكلت وجوديا بدافع مواجهة الاحتلال الاسرائيلي وكسر شوكته ومنعه من التمدد، وفرض شروطه السياسية بضغط من القوة العسكرية.

بعد 7 اكتوبر وتداعياتها الكبيرة على حزب الله، صار الحديث في لبنان جديا عن جدوى استمرار معادلة الدولة الجيش المقاومة، بعد أن اختل ميزان القوى مجددا، وتصاعدت الأصوات المحلية والاقليمية والدولية التي تربط بين اعادة اعمار لبنان وتمتعه بالأمن والسلام وبين صياغة معادلة سياسية جديدة، معادلة حكم، لا يعود فيها حزب الله قويا ومهيمنا وقادرا على إملاء شروطه. 

المعطيات على الأرض ليست بصالح الحزب ولا الثنائي الشيعي بعد الزلزال السوري، وبات مشروع المقاومة الذي انطلق لتحرير الارض والانسان ومواجهة الطغيان والعلو الإسرائيلي، يواجه استحقاقات كبيرة وأسئلة صعبة ترتبط بفلسفة وجوده ومشروعه، وامكاناته وتحالفاته وعلاقته بالدولة المحكومة بسقوف محلية ودولية، لا يمكن عبورها دونما تضحيات واعادة مراجعة للخطاب والمشروع في ضوء واقع مختلف وجغرافيا سياسية في غاية الصعوبة.

في العراق الذي انخرط بعض فصائله المسلحة في معركة الاسناد، تبدو معادلة المقاومة -الدولة، أو ثنائية الخطاب والقرار والسلاح، مرحلة توشك ان تنتهي، فمن الصعوبة بمكان اقناع المجتمع الدولي وقسم من المجتمع السياسي المحلي ببقاء هذه الثنائية، العبء السياسي والاقتصادي والأمني يحتم مراجعة لفلسفة الوجود والتشكيل، لا يمكن الاكتفاء بسردية الفعل التلقائي الذي يعبر عن نفسه بحتمية وجود مقاومة في مواجهة الاحتلال، اي احتلال، العراق ليس محتلا، والمقاومة في العراق، اذا كانت ضد الأمريكان، فوجود الأمريكيين تنظمه اتفاقات الدولة وسلطاتها معهم، واذا كان ضد المشروع الأمريكي -الإسرائيلي في المنطقة، فهذا المشروع لا تقاومه لوحدها فصائل وأحزاب تعاني من مشكلات بنيوية وتأسيسية ووجودها وسلاحها وعملها محل اختلاف كبير وجدل واسع مرتبط بفلسفة وجود الدولة ووظائفها، فمادامت الدولة قائمة فما مسوغ وجود المقاومة بموازاتها.

الدولة هي التي ينبغي أن تسعى للخروج من حالة الهشاشة أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وعلامة قوتها احتكار السلاح ووحدانية القرار والخطاب، والقدرة على التعامل مع العالم بمنطق المؤسسة القادرة على أحقيتها في اتخاذ قرار السلم والحرب، وفي حرية بناء التحالفات والالتزام بالتعهدات، والتقيد بالقانون الدولي، والتصرف وفقا لمقتضيات المصلحة الوطنية، والمصلحة تتجسد اليوم في حماية أمن البلاد وصيانة الاستقرار السياسي، وضمان معاش الناس وتنمية الاقتصاد، والحفاظ على الوضع المالي مستداما بلا هزات أو مطبات، الدولة في العراق امام محك واختبار كبيرين. 

الدولة هي خلاصة وجود الامة ومؤشر لإرادتها وخياراتها، الجدل الفكري والسياسي والاعلامي يقود الى الحسم لصالح الدولة، لان الدول اكبر من المقاومات ومشاريعها وايديولوجيتها، الدولة هي التجسيد العملي لمصالح وافكار وتوجهات وطموحات الناس، وجوهر وجود الدولة هو ضمان حرية وكرامة هؤلاء الناس كما يقول الفقيه والفيلسوف الاسلامي عبدالله الجوادي الآملي. 

وهذا القول له مغزى كبير في المرحلة الراهنة، الآملي كان يتحدث الأسبوع ما قبل الماضي عن فكر المؤسس الأول للفقه السياسي الشيعي المعاصر، الميرزا النائيني، حيث تستعد ايران لإقامة مؤتمر علمي عن مدونته وأفكاره، إيران ذاتها التي رعت مشروع المقاومة خارج حدودها ولا يزال موقفها يصر على جدوى هذا المشروع، تواجه أسئلة جادة وحاسمة عن جدوى استراتيجية باهظة الكلف، تحت مسمى الدفاع ومناهضة الظلم والاستكبار، مشروع المقاومة الآن تحت ضغط المراجعة، لأنه يستحيل أن تتعايش مؤسسة الدولة في عالمنا المعاصر مع مؤسسة المقاومة بأهداف وسقوف توقعات وتضحيات مختلفة. سيستمر هذا الجدل وسيتعمق اذا كانت اجواء الحوار علمية وصادقة تنشد الحقيقة وتهدف إلى أداء التكليف كما يردد الإسلاميون.

اضف تعليق