التغيير في العراق لن يكون دموياً ولا سريعاً، بل تدريجياً في المشهد السياسي والاقتصادي والأمني لصالح استحكام معادلة الدولة بشرط الادارة الناجحة. نحن أمام تغييرات في الأفكار ستنعكس على رؤى سياسية يضغط الخارج للاستجابة لها، ويدرك الداخل أن مصلحة الدولة تقتضي ذلك أيضاً...

"لم تقع حرب حقيقية، بل وجد الناس نظاما فاسدا وفاسقا فثاروا عليه وأسقطوه"... بهذه الكلمات أنهى الجنرال بهروز اثباتي أحد كبار المستشارين العسكريين الايرانيين توصيفه لما جرى في سوريا من تغيير، ولم يمارس الانكار Denail نتيجة الصدمة الهائلة كما فعلها غيره من مسؤولي بلاده، الاعتراف بالحقائق وفهمها وتقبلها هو الذي يجنب السياسيين الأخطاء، ويسمح بالمراجعة والتعديل وتركيب وتخطيط سياسات جديدة تواكب المتغيرات وتتعامل معها بمعطياتها المتجددة.

التغيير يبدأ بحدث كبير متوقع أو غير متوقع يكون كالزلزال، ثم تتبعه ارتدادات تمثل موجات لها مركز وتفرعات، تنتج عنها متغيرات أعمق ومشاهد غير مسيطر عليها. التاريخ القريب يعلمنا ذلك.

فبعيد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في فبراير 1979، انهالت التفسيرات والنظريات التي تحاول فهم ما حدث في إيران، التي وصفها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (1924- 2024)، قبل اندلاع الثورة بأنها "جزيرة الاستقرار في الشرق الأوسط". واذا بها تتغير بسرعة وتغير العالم من حولها. من بين التوصيفات الأكثر إثارة، كانت كلمات رئيس وزراء الكيان الصهيوني مناحيم بيغن الذي قال: "إن ما حدث في إيران هو زلزال سياسي". وبالفعل حصلت توابع لهذا الزلزال وارتدادات متسارعة وغير مسيطر عليها إلى يومنا هذا.

منذ ذلك الحين، أدركت نخبة السياسة والتخطيط في الكيان الإسرائيلي أنها أمام (عدو جديد) يحمل أيديولوجية إسلامية، ويعتمد مفاهيم مثل "الموت المقدس" و"الشهادة التي تعادل النصر" في قاموسه.

قرأ العالم هذا الزلزال الإيراني كلٌّ وفق رؤيته لأمنه القومي. أعلنت الولايات المتحدة مبدأها، على لسان رئيسها كارتر، مبدأ التدخل العسكري كلما تطلب الأمر حماية مصالحها، خاصة في الخليج، شريان الطاقة العالمي. أما الاتحاد السوفياتي، فقد احتاط لأمنه القومي بغزو أفغانستان في ديسمبر 1979. في العراق، أعاد صدام حسين صياغة العقيدة العسكرية العراقية، لتمسي "إيران" العدو الأول. دول الخليج أسست مجلس التعاون الخليجي وأقرت اتفاقاً دفاعياً مشتركاً، بينما اتخذت إسرائيل قراراً بغزو لبنان لتدمير منظمة التحرير الفلسطينية وإبعاد سلاح الفصائل عن "حدودها".

خلاصة القول، إن ما حدث في إيران كان حدثاً كبيراً تبعته هزات وارتدادات سياسية وتحالفات جديدة غيّرت وجه المنطقة.

من نتائج هذا الزلزال ظهرت الحركات الإسلامية المسلحة. في أفغانستان ثم في لبنان مع تأسيس حزب الله، ولاحقاً في فلسطين مع ظهور حركتي الجهاد الإسلامي وحماس. في العراق انطلقت المعارضة الإسلامية المسلحة، ممثلة بحزب الدعوة الإسلامية الذي قاوم جبروت نظام صدام حسين. وفي سوريا، أعلن الإخوان المسلمين الثورة الإسلامية ضد حكم حافظ الأسد. خلال عقد واحد، تغير وجه الشرق الأوسط. انسحب السوفيات من أفغانستان، تاركينها لحكم الإسلاميين الذين تصارعوا على السلطة. يلي ذلك تفكك الاتحاد السوفياتي. في الوقت نفسه، تورط صدام حسين في غزو الكويت، ما اضر بالمنطقة والعراق و بالحركات الإسلامية السنية التي أيدت هذا الغزو، متخيلة أن صدام سيكون بسمارك العرب ومحرر فلسطين. قبل غزو الكويت بعام، كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى تشهد تحوّلاً في أساليب المقاومة، حيث لجأ الفلسطينيون إلى الكفاح بالحجارة والأجساد العارية، مبتعدين عن خطف الطائرات والعمليات الفدائية. فحققت الانتفاضة مكاسب سياسية مهمة ووضعت الفلسطينيين على طريق الحل السلمي، الذي قادهم لاحقاً إلى اتفاقية أوسلو وسلطة الحكم الذاتي في رام الله.

جاءت الألفية الثالثة بزلزال كبير ابتدأ بهجمات 11 سبتمبر، التي خطط لها تنظيم القاعدة، لترد الولايات المتحدة بغزو أفغانستان ثم العراق، فانطلقت موجة من الإرهاب والطائفية، كان العراق أبرز مسارحها. في 7 أكتوبر 2023، تغير المشهد مرة أخرى. في غضون 13 شهراً، وبعد أن تعرضت إسرائيل لضربات هزتها واخافتها كثيرا، ردت ومعها حلفاؤها بهجوم واسع النطاق استهدف حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله وكل حلقات محور المقاومة. كما أدى هذا الحدث إلى انهيار النظام السوري ووصول المعارضة، مدعومة من تركيا، إلى السلطة.

القصة الجديدة تتمثل في الانتكاسة الكبيرة لمشروع منظمات المقاومة البديلة عن الحكومات (الفاعل السياسي المسلح). لم يعد المجال مفتوحاً لهذه المنظمات لتدير لعبة التوازن مع مؤسسات الحكم. سيمضي الشرق الأوسط في طريق جديد تحتمه معطيات القوة وعلاقتها وتقنياتها العلمية، كما لم تعد الجماهير تقبل المغامرات باسمها من أي كيان أو نظام سياسي.

سيكون المشروع المستقبلي الوحيد هو دعم الدولة وتقويتها لخدمة مواطنيها، بينما تتراجع المشاريع القومية أو اليسارية أو الإسلامية التي توحد الأهداف في كيان واحد.

العراق، الذي لم تستقر فيه معادلة الحكم والازدهار، لن يكون استثناءً. مع انطلاق قطار الرئاسة اللبنانية، وفق معادلة جديدة فرضتها المتغيرات العسكرية ونتائجها السياسية والميدانية.

 التغيير في العراق لن يكون دموياً ولا سريعاً، بل تدريجياً في المشهد السياسي والاقتصادي والأمني لصالح استحكام معادلة الدولة بشرط الادارة الناجحة. نحن أمام تغييرات في الأفكار ستنعكس على رؤى سياسية يضغط الخارج للاستجابة لها، ويدرك الداخل أن مصلحة الدولة تقتضي ذلك أيضاً.

التغيير في العراق سيكون فرصة لإعادة بناء الدولة، لكنه لن يخلو من صعوبات ومقاومة شديدة.

اضف تعليق