الوسطية من أهم مزايا المنهج الإسلامي، والأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، بمعنى استغلال جميع طاقاتها وجهودها في البناء والعمران، المادي، والتربوي، والعلمي، والثقافي، من غير إفراط ولا تفريط، فهي تحقق التوازن بين الفرد والجماعة، وبين الدين والدنيا، وبين العقل والقوة، وبين المثالية والواقعية، وبين الروحانية والمادية، وغيرها. فما أحوجنا...

المداراة وحفظ اللحمة المجتمعية قد نادت بها جميع الأديان السماوية ولا شكَّ أنَّ الإسلام يتميز عن سائر الشرائع والمعتقدات بالوسطية والاعتدال، بل إن منهجه قائمٌ على هذه الصفة في كل مجالاته، والوسطية شعاره منذ أن أرسل الله الرسل بدين الحق، من لدن نوح -عليه السلام- إلى سيد المرسلين محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وآله -والمسلمون الحق هم الأمة الوسط.

 والوسطية عند المسلمين هي الصراط المستقيم، وكذا هي الهداية والخيرية بلا شك، وقد عبر الله -سبحانه- عن ذلك بقوله: «وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا»، وقوله: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». ومن فضائل الإسلام أنه يدعو إلى الاقتصاد والاعتدال في التكاليف والأحكام، وذلك في نصوص شرعية صحيحة، لا تحتاج إلى تفسير أو تأويل، قال تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وقال تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا».

 الوسطية هي العدل والخيار، وهي أفضل الأمور وأنفعها للناس، كما تعرّف على أنّها الاعتدال في كلّ أمور الحياة ومنهاجها، ومواقفها، وتصرفاتها، فالوسطية ليست مجرد موقف بين التشديد والانحلال بل تعتبر موقفاً سلوكياً وأخلاقياً ومنهجاً فكرياً.

مفهوم الوسطية والاعتدال في الإسلام 

 تُطلق الوسطية في اللغة على ما يكون وسطاً بين الشيئين، وعادلاً بين طرفيه، ثمّ منه جاء وصف الله تعالى لأمّة محمد -صلّى الله عليه وآله - في قوله -تعالى-: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)،[ سورة البقرة، آية:143] وهو ما ميّز به -سبحانه وتعالى- أمّة محمد عن غيرها من الأمم، ودائماً ما يُطلق وصف الوسط على أخير الأمور وأحسنها، وهو ما يتفق مع الفطرة السليمة التي خلق الله الإنسان عليها. وإنّ الإنسان بطبعه الفتور والملل، ثمّ النشاط والهمّة العالية، وهو حالةٌ متقلِّبةٌ بين هذا وذاك، فجاء الإسلام بوسطيته بما يتناسب مع هذه الطبيعة، فجعل الوسط بين كل هذا هو أحسن الخيارات، ثمّ جعل أهل السنة من أهل الوسط وميّزهم عن غيرهم من الفرق، فقال فيهم رسول الله -صلّى الله عليه وآله -: (لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي علَى الحقِّ ظاهرينَ).

 الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة

وردت العديد من الأدلة والنصوص الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتي تدلّ على وسطية الإسلام ووسطية أمّة سيدنا محمد، منها ما يأتي: قال -تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، فقد وصف الله تعالى أهل الصراط المستقيم بأنّهم غير المغضوب عليهم؛ أي المغالين في الدين، وغير الضالين؛ أي الذين يغالون في التعبد والرهبانية، فالإسلام وسطٌ بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ. روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله -صلّى الله عليه وآله- فقال: (خطَّ لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآله خطًّا ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ ثم خطَّ خطوطًا عن يمينِهِ وعن شمالِهِ ثم قال: هذه سُبُلٌ قال يزيدٌ: متفرِّقَةٌ على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليهِ ثم قرأ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

وتعد الوسطية في كل الأمور من أهم مزايا المنهج الإسلامي، والأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، بمعنى استغلال جميع طاقاتها وجهودها في البناء والعمران، المادي، والتربوي، والعلمي، والثقافي، من غير إفراط ولا تفريط، فهي تحقق التوازن بين الفرد والجماعة، وبين الدين والدنيا، وبين العقل والقوة، وبين المثالية والواقعية، وبين الروحانية والمادية، وغيرها.

فما أحوجنا اليوم إلى نشر ثقافة الوسطية والاعتدال، على مستوى العالم كله؛ حتى نبين للناس مزايا الدين الإسلامي؛ من أجل تصحيح النمط الخاطئ، الذي كاد أن يلصق بالإسلام من غير دراية. فالغربي الذي يريد أن يدخل في الإسلام قد تهمه الوسطية، وربما يكون يبحث عنها بعد أن ملَّ من النظام المادي البحت، أو هرب من الرهبانية التي يراها أمامه!

رسول الله القدوة في الاعتدال

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وآله- القدوة في الاعتدال؛ حين طبَّق ذلك ليرى صحابته فعله ويقتدوا به فهذا الحديث يبين أن النبي -صلى الله عليه وآله - ترك الصيام في السفر؛ ليقدم القدوة لأصحابه، الذين شق عليهم الصيام، فأفطر ليفطروا، وسمى المخالفين له في إفطاره: عصاة؛ لأن الغلو في مثل هذه الأمور يؤدي إلى المعصية. 

 ولم يكن -صلى الله عليه وآله - يقبل من أصحابه أي نوع من الغلو والتطرف والغلظة في المعاملة، حيث وردت في سيرته مواقف عدة تبين هذا، ومنها الموقف مع ذلك الرجل الذي بال في المسجد فثار عليه الصحابة، وكادوا يوقعون به! فنهاهم النبي -صلى الله عليه وآله- عن زجره، وقال: دعوه! وأهريقوا على بوله ذَنوبًا من ماء –أو: سَجْلاً- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين. 

وكان -صلى الله عليه وآله- يقول عن نفسه: إن الله لم يبعثني معنتاً، ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسرا. لو تأملنا حياة النبي -صلى الله عليه وآله - في مختلف جوانبها لوجدناها تفيض بالوسطية والاعتدال، في كل أحوالها، ونستطيع أن نستخلص منها منهجًا معتدلاً في كل الجوانب الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وغيرها.

هذه وسطية الإسلام، الجمع بين حق الروح وهو العبادة، وحق البدن وهو متطلباته؛ هو ما يوافق الفطرة السليمة.

شروط الوسطية والاعتدال: 

1- التوسط والاعتدال يكون بالاستقامة على طاعة الله والخضوع لأوامره ونواهيه، والبعد عن معاصيه باطناً وظاهراً دون الغلوّ ولا التقصير ولا الإفراط ولا التفريط. 

2- التوسّط والاعتدال يكون بلزوم الصراط المستقيم، فالدين الوسط هو الصراط المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، ولا يتردد فيه سالكه ولا يتحيّر، ولا يضل.

ثم إن المنهج الذي جاء به القرآن الكريم إلى الحياة البشرية قائم على الاعتدال، في كل ما دعا إليه وأمر به وحث عليه، وهو الحكم العدل؛ الذي إن تمسك به الناس سلموا وسعدوا ونجوا في الدنيا والآخرة، ولذا نجد للوسطية أثراً في كل حكم من أحكامه، وفي كل آية من آياته، ونلمس معانيها في مواضع لا تكاد تُحصى؛ لكثرتها، وتنوعها، وتكررها في المضامين المختلفة، من أوامرَ ونواهٍ، ومواعظ وزواجر، وأحكام وأخبار، ودعاء وطلب، وفقه وقصص، وتذكير وبيان.

وإنها لوسطية ناصعةٌ تشرق مع كل حرف في قوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

وفي قوله تعالى: «وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».

وإنها لدعوةٌ إلى الاعتدال ونبذ الغلو والتطرف في مواجهة الآخرين، حتى يتم تبليغ الرسالة على خير وجه، فتؤتي أكلها، دون إثارة أحقاد، وبعث ضغائن؛ تمحو جهد الداعية، وتؤدي إلى ردة فعل غير مرغوبة.

فالذين أصبحت القيم المادية عندهم محور الحياة حوَّلوا الإنسان إلى آلة تتحرك، وقدَّسوا المحسوسات، وغرقوا في الشهوات، ولم يروا غير المنافع الدنيوية العاجلة، وهذا منهج النفعية المادية، الذي تمثل في المادية الماركسية، أو الرأسمالية المادية، والذين رأوا الجسد سجناً للروح ابتدعوا رهبانية قاسية حرمت النفس من ملذات الحياة، وعزلتها عن الحياة، وكبتت غرائزها، كما قال تعالى: «وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ».

وجاء الإسلام ليصحح المسألة، ويهدي الناس إلى أقوم السبل، وأعدل الطرق، الطريق الوسط؛ بين عبادة المادة ونسيان حق الروح، وبين إرهاق الروح ونسيان حق البدن، ليعطي كل ذي حق حقه، وفقاً لقوله تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا».

معالم الوسطية والاعتدال 

1- التيسير على الناس والرفق بهم التيسير مقصِدٌ من مقاصد هذا الدين، وصفة عامّة للشريعة في عقائدها وأحكامها، ومعاملاتها وفروعها، فالله سبحانه وتعالى بكرَمِه وفضله لم يكلِّف عبادَه بما يتعبهم ويشقّ عليهم، ولم يرد بهم الحرج، بل أنز عليهم ديناً ميسّراً وسهلاً، قال تعالى: قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]. - الموازنة بين متطّلبات الروح والبدن لا يجوز لأحد أن يَحْرم نفسه ممّا أحله الله تعالى له، بل عليه أن يتقرّب إلى الله بفعل المأمور به والمباح، والإنسان جسد وروح، وللبدن حقه، وللروح حقها، وللبدن حقه، فليعطِ كلّ ذي حق حقّه. 

2- الوسطية والاعتدال في الاعتقاد يجب أن يكون التوسط والاعتدال بين الماديّين الذين ينكرون كلّ ما وراء الحس ولا يسمعون إلى العقل، وبين متبعي الخرافات الذين يغلون في تصديق الاعتقادات، من غير أدلة قاطعة ولا براهين، وبين، فالإسلام يدعو الى الإيمان والاعتقاد، بشرط أن يكون هناك الدليل والإثبات القطعيّ في كلّ شيء. 

3- محبّة الخير للناس كافّة، وهذه السمة ظاهرة في هذا الدين وسمة من سمات تشريعاته وأحكامه، ومن تمام الإيمان أن يحبّ المرء لأخيه المسلم ما يحبّه لنفسه، وأن يحبّ المنفعة للناس كافة.

مظاهر الوسطيّة والاعتدال

1- الاعتدال والتوسط في المشي والحديث الحكمة الإلهيّة اقتضت التوازن والاعتدال في السلوك البشري لفوائد كبيرة، وكل هذا لمصلحة الإنسان وصلاحه الذي فضّله عن سائر الكائنات، فأمره بالاعتدال في المشي لما فيه من هيبة ووقار، وأمره بالاعتدال بالكلام والحديث لما فيه من جلال القدر للمتحدّث، وحسن الإصغاء من المستمع، حيث قال تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:19]. 

2- الاعتدال والتوسط في الطعام والشراب المسلم يجب أن يكون في مأكله ومشربه مثالاً للاعتدال والوسطية، فلا يبالغ في تناول الطعام فيؤدّي به إلى الأضرار الصحية المختلفة مثل تصلب الشرايين والسّمنة المفرطة، ولا يهمل كذلك في تناوله حيث يؤدّي ذلك به إلى الهزل والوهن والضّعف

3- الاعتدال في الإنفاق، دعا الإسلام إلى الاعتدال في الإنفاق والتنفير من التبذير والإسراف والبخل، والأمثلة كثيرة لوسطية الرسول -صلى الله عليه وآله- في أموره كلها، وقد تميزت حياة النبي -صلى الله عليه وآله- في جميع جوانبها بالاتزان والاعتدال، وكان مثلاً في تطبيق المنهج الوسط، الذي جاء به من عند الله سبحانه، حيث انعكس ذلك المنهج على تصرفاته وسلوكه القويم، فكانت حياته نبراسًا لأمته من بعده في التوازن والاعتدال.

 وكان -صلى الله عليه وآله- حريصاً على توجيه أصحابه إلى التوازن المقسط بين دينهم ودنياهم، وبين حظ أنفسهم وحق ربهم، وبين متعة البدن ونعيم الروح، فإذا رأى من بعضهم غلوًا في جانبٍ؛ قوّمه بالحكمة، وردّه إلى سواء الصراط. وهكذا تعلم الصحابة أن يوازنوا بين مطالب دنياهم وآخرتهم، وأن يعملوا للدنيا كأحسن ما يعمل أهل الدنيا، ويعملوا للآخرة كأحسن ما يعمل أهل الآخرة.

الآثار الحسنة للوسطية

بما أنَّ الوسطية منهجًا ربَّانيًا، فلا ريب في تكامله واتِّزانه وشموله لجميع النواحي؛ العقائدية، والعبادية، والأخلاقية في حياة الفرد المسلم، وسيكون له آثاره الحميدة والحسنة، والتي تعود على المسلم بنفع عظيم في الدنيا والآخرة، ومن أهم هذه الآثار:

1- السلامة من الوقوع في الزيغ والانحراف والتطرف، في الاعتقاد، وكذا البراءة من الشرك والنفاق والتكفير؛ لأن الوسطية تدعو إلى التزام العقيدة الصحيحة، البعيدة عن إفراط النصارى وتفريط اليهود، والبعيدة أيضًا عن غلو بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام -وهو منها براء- فانحرفت عن جادة الصواب؛ سواء كان ذلك في باب القدر، أو الأسماء والصفات؛ بين تعطيل وتمثيل، أو في الصحابة؛ حيث فضَّلوا بعضَهم، وكفَّروا آخرين، أو في ترك العمل اعتمادًا على التوكل.

2- مَنْ التزم منهج الوسطية في عقيدته وعبادته وسلوكه؛ فقد ذاق طعمَ الإيمان، وذاق حلاوتَه؛ ومما جاء في ذلك:

أ- عن الْعَبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله يقولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا». (فمعنى الحديث: لم يطلب غيرَ اللهِ تعالى، ولم يَسْعَ في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلاَّ ما يُوافق شريعةَ رسول الله محمدٍ (صلى الله عليه وآله)، ولا شكَّ في أنَّ من كانت هذه صفته فقد خَلُصَت حلاوةُ الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمَه. وقال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث: صَحَّ إيمانه، واطمأنت به نفسُه، وخامر باطنَه؛ لأنَّ رضاه بالمذكورات دليلٌ لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشته قلبه، لأنَّ مَنْ رضي أمرًا سهل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبَه الإيمانُ سهل عليه طاعاتُ الله تعالى، ولَذَّت له، والله أعلم).

ب- عن أَنَسٍ ؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله قال: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إليه مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».

3- من آثار الوسطية البعد عن اليأس والقنوط؛ لأنَّ دين الله تعالى وسط بين الإفراط والتفريط في هذا الجانب؛ فالإفراط يتمثَّل في اليأس والقنوط، والتفريط يتمثَّل في الأمن من مكر الله تعالى والإعجاب بالنفس والكِبْر، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وآله من هذا المسلك المُتطرِّف؛ كما جاء عن فَضَالَّةَ بنِ عُبَيْدٍ ؛ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أنه قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ نَازَعَ اللَّهَ عز وجل رِدَاءَهُ؛ فإنَّ رِدَاءَهُ الْكِبْرِيَاءُ، وَإِزَارَهُ الْعِزَّةُ، وَرَجُلٌ شَكَّ في أَمْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ».

4- من ثمار الوسطية التزام الكتاب والسُّنة؛ منهجًا وسلوكًا، سواء كان ذلك في العقيدة أو العبادة أو المعاملة، وعدم الخروج عنهما؛ لأنه ضلال وبدعة مُحدثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»؛ لأنَّ (الدِّين المستقيم وسطٌ بين انحرافين، وكذلك السُّنة وسطٌ بين بدعتين). 

5- مَن التزم منهج الوسطية في عقيدته وعبادته وسلوكه؛ يفهم فهمًا صحيحًا معنى التَّشدُّد والتيسير، وتنضبط لديه قواعدهما؛ لأنَّ هناك مَنْ يدَّعي: أنَّ التَّمسُّك بالقيم والمبادئ، والتزام الشرع ظاهرًا وباطنًا؛ هو التَّشدد، الذي يجب تركه، وعلى النقيض تمامًا؛ فترى مَنْ يدَّعي: أنَّ التَّيسير في الدِّين، والاعتدال في تطبيقه، والأخذ بالرُّخص الشرعية، والتَّمتُّع بالمباحات يعني التَّمييع وترك الدِّين، و(الدِّين المستقيم وسطٌ بين انحرافين).

6- من آثار الوسطية على الفرد المداومة والاستمرار على الطاعات والواجبات دون كلل ولا ملل؛ لانعدام المشقَّة والحرج ورخَّص لهم في مسائل الحج الكثير؛ ولا سيما الضعفاء والنساء والأطفال؛ كي لا يكون هناك مشقة أو ملل وانقطاع عن العبادة؛ ومن وصاياه المباركة في ذلك، قوله صلى الله عليه وآله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ، وَإِنْ قَلَّ» لأنَّ المللَ غيرُ جائزٍ على الله تعالى، ولا هو من صفاته... وإنما أخبر بالمَلَل عنه تعالى؛ للمساواة بين قِسْمَي الكلام؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 45]).

7- من الآثار الحسنة للوسطية على الفرد الاستقرار النفسي والعاطفي، والتوازن في التعامل مع قضاء الله تعالى وقدره؛ فيكون الصبرُ عند الشدائد، والشكرُ عن النعم، وبدون هذا التوازن ربما جَنَحَ البعد إلى الغلو والإفراط الذي يجرُّ أمراضًا نفسية؛ كالحقد والحسد وإلحاق الأذى بالغير، وجحود نعمة الله، وربما الاعتراض على أقضية الله تعالى عياذا بالله من هذه الحال، وهذا مما يجلب الأوزار، ويُفوت الأجور العظيمة، والتي يكون منشأها الوسطية المُستقاة من الكتاب والسنة.

8- من بركات الوسطية قلَّة الخطأ، وكثرة الصواب، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو الدِّين، ومُجاهدة النفس، والارتقاء بها إلى المعالي، ودوام المحاسبة لها والتوبة، وهذا يكبح جوانب سلبية كثيرة في النفس البشرية، تدور بين الإفراط والتفريط؛ كالكِبر، والغرور، والرياء، الذي قد يوصل إلى الغلو، والتنطع الممقوت، ويُبعد عن التوسط والاعتدال.

9- من فضائل الوسطية نبذ التعصب للرأي، أو المذهب، واحترام الآراء المخالفة المعتبرة شرعًا وعقلًا.

10- من الآثار المترتبة على الالتزام بمنهج الوسطية والاعتدال في الفرد والمجتمع: الإقرار بالسنة النبوية الشريفة مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، وتطبيق أحكامها، والعمل بما فيها. 

استمرار الإنسان بالسعي من أجل اكتساب المزيد من العلوم، فلا يصل لمرحلة يظنّ أنّه قد أكمل العلوم دراسةً وفهماً وتطبيقاً، وهو ما يقع فيه المغالون المتطرفون، قال -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).

 التأكد من الأخبار والتبيّن منها قبل نقلها وإشاعتها بين الناس. أخذ العلم من أهله، والتأدّب بآدابه والتخلّق بأخلاقه، وأداء حقوقه وواجباته. مخالطة الناس والصبر على أذاهم، وفهم العزلة فهماً سليماً، وتطبيقها بقدر ما يحتاج إليه الإنسان بلا إفراطٍ ولا غلوّ. تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، على وجهٍ يُعرف فيه حقوق كلٍّ منهما وواجباته، فلا يعتدي أيٌّ منهما على الآخر. التزام الأفراد داخل المجتمع بحقوقهم وواجباتهم؛ ممّا يؤدّي إلى تكافل أفراد المجتمع واستقرار حياتهم وتوازن أركان معيشتهم.

الاستنتاجات

مما تقدَّم نستنتج أنَّ:

1-منهجية الوسطية منهجية إسلامية محضة، فهي تدعو للاعنف ونبذ الطائفية وتؤكد على الوحدة والتعايش السلمي بين طبقات المجتمع.

2- نبذ القرآن الكريم التطرف بكل أشكاله ودعا إلى الوسطية.

3- أكد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) على المداراة وقطع دابر العنف والتمرد، وهي دعوة إلى الوسطية عبر الحوار وردم هوَّة الخلاف للملمة شتات الأمَّة.

4- الفطرة السليمة التي فطرها الله في الناس تنبذ التطرف وتميل إلى الأمان والحوار، وما استعمال العنف إلى حالة طارئة على النفسية الإنسانية. 

5- لا تُعدُّ الوسطية ضعفاً البتَّة ؛ وإنَّما قام الإسلام ونُشرت دعوته بالدعوة الحسنة، وما الحروب التي قامت إلَّا على سبيل (آخر الدواء الكي) فقد اضطُرَّ الإسلام لذلك، لأنَّ نتاج العنف توليد العنف الدائم والاستمرارية بالتشتيت والفرقة.

6- في الوسطية تسود العدالة والمساواة ومنها إلى حب الوطن والرقي به إلى التطور والإصلاح والحفاظ عليه، والعكس بالعكس.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق