الشركات الرقمية العالمية الكبرى التي خططت لظاهرة الإدمان الرقمي في عموم العالم، تجاوزت خططها إلى ما هو أبعد من ذلك وأخطر، حين تتعمد برامج أجهزتها الصناعية العملاقة سلب الحسّ النقدي، والتحليلي من الإنسان الطبيعي تمهيدا لتوحيد البشرية بدماغ واحد فقط من أجل توجيه الأوامر لها بوصفها كتلة بايولوجية موحدة...

مشكلة الخداع والتضليل في نطاق الصحافة والإعلام على وجه التحديد تمتد جذورها إلى مراحل التوثيق الأولى التي ابتكرها الإنسان القديم منذ حقب تاريخية سحيقة، وتجسدت أبرز مظاهرها ببعض نقوش الحضارات البالية التي دأبت على تصوير هزائم ملوكها بوصفها انتصارات عظيمة لقادة أبطال وأسطوريين!، فضلا عن تشويه الخصوم بأدنى ما يكون عليه الكذب والافتراء، وما تزال ألاعيب الخداع والتضليل مشكلة قائمة حتى اليوم، وتعدّ بمجملها عقبة كؤود أمام الصحفيين والإعلاميين ممن ينشدون إظهار الحقيقة مثلما تعدّ وسيلة محببة لدى مَن يتوخى منهم خلط الأوراق، وإخفاء الحقائق عن الرأي العام.

وعلى هذا الأساس يتوجب على العاملين في الصحافة عموما أن يتأنوا في عرض ما يردهم من أخبار خاصة ذات الطابع المثير، وأن لا يستعجلوا في نشرها قصد إحراز سبق صحفي معين، بل لا بدّ من التأني قبل إعادة نشر ما يرونه مستحقا للنشر حتى في صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأن الصحفي أو الإعلامي يعدّ محل ثقة لاسيما لدى متابعيه، وفي حين لا يتسنى لأكثر الناس متابعة الوكالات الإخبارية ذات المصداقية العالية يميل معظمهم للأخذ عن مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك قلة من الجماهير تفضل متابعة المحطات التلفزيونية، وعدم الاكتفاء بمصدر واحد منها للكشف عن مدى دقة الأخبار المتداولة.

ومسألة عدم الاكتفاء بمصدر تلفزيوني واحد لتلقي المعلومة تأخذ قيمتها وضرورتها من احتمالية وجود التضليل والتزييف في كثير من محطات التلفزة العالمية حتى الأكثر شهرة، ومصداقية، ولعلّ محطة سي أن أن الأمريكية تمنح أحدث الشواهد على فبركة الأخبار لأغراض سياسية، أو دعائية خاصة في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الصهيوني، وذلك عندما روجت هذه القناة لمزاعم اغتصاب النساء على أيدي فلسطينيين، واتضح بعد ذلك أنها أخبار عارية عن الصحة تماما، وكذلك اختلاقها مؤخرا لقصة درامية لسجين سوري خارج توا من أحد معتقلات دمشق، وتبيّن لاحقا أن الأمر لم يكن أكثر من مشهد تمثيلي جمع بين ضابط مخابرات سوري وصحفية أمريكية اسمها كلاريسا وارد.

إن حمّى الخداع والتضليل الإعلامي لاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي التي تمثّل مصادر الأخبار الرئيسية لمليارات البشر -كما أشرنا لذلك آنفا- بلغت ذروتها في الآونة الأخيرة مع توفر آليات الذكاء الصناعي التي أخذت تفعل الأعاجيب في هذا المضمار بحيث صار من المتعذر التمييز المباشر بين الحدث الحقيقي والحدث المزيّف، وبحسب خبراء في هذا المجال صار متاحا جدا لجماعات التزييف العميق تقديم أدلة كاذبة لكنها مقنعة للغاية وتشمل نطاق معلوماتي شاسع يبدأ من تزوير نتائج الانتخابات، ولا ينتهي بصناعة أفلام إباحية مزيفة، وهو الأمر الذي يكون له أبلغ الضرر على المجتمع وعلاقاته البينية، ويستلزم المسارعة في وضع قواعد عاجلة لحماية البيانات العامة، والخصوصيات الفردية، وحظر استعمال تقنيات التزييف العميق، ومحاسبة مروجيها، وبحسب بعض الإحصاءات المنشورة على الانترنت فإن التزييف العميق كانت معدلاته تتضاعف كل ستة أشهر في الفترات الماضية!.

واستجابة لهذا التحدي الخطير شرعت بعض الشركات العالمية بصناعة تطبيقات للكشف عن المحتوى المزيّف ووضعها في خدمة المستهلكين، ومثل هذه التطبيقات ينبغي دراستها من طرف أصحاب التخصص في الحاسوب لدينا، وتخير المناسب منها، ووضعه بين يدي مواطنيهم مساهمة منهم في الارتقاء بالمعرفة، والثقافة العامة، ولكي لا تكون مثل هذه الأدوات حكرا على المجتمعات الغربية فحسب، وبحدود اطلاعي فإن هناك بعض المنصات العربية التي حاولت كسر هذا الاحتكار الغربي، واجتهدت في تقديم خدماتها في هذا المجال، لكن الواقع يتطلب مزيدا من هذه المنصات تناسبا مع الاستبيانات التي تؤكد استفحال ظاهرة التزييف العميق ووصولها إلى معدلات مخيفة حول العالم -كما ذكرنا ذلك آنفا-.

وفضلا عن كشف الصور ومقاطع الفيديو المختلقة توجد حاليا العديد من التطبيقات الذكية المتخصصة بالتمييز بين النصوص الأصيلة المكتوبة من أناس حقيقيين، وتلك المصممة من قبل أجهزة الذكاء الصناعي، ومنها على سبيل المثال Detector Text Fake المتخصص بالكشف عن المحتوى النصي المُنشأ بواسطة أجهزة اصطناعية معينة لتقليد الكتابة البشرية، ويبدو أن مثل هذه التطبيقات لا توجد نظائرها في العالم العربي بحدود اطلاعي إلا في نطاق خاص لا يتعدى البحوث الأكاديمية، وهي عبارة عن منتجات أجنبية مشغولة بتعظيم أرباحها التجارية في المقام الأول.

أن مثل هذه البرامج والتطبيقات –من وجهة نظر أخرى- لا تحظ بدعم رقمي كافي لتكون شاملة لسائر الكتابات النصية، ذلك أن أصحاب الشركات الرقمية العالمية الكبرى التي خططت لظاهرة الإدمان الرقمي في عموم العالم، تجاوزت خططها -غير المعلنة- إلى ما هو أبعد من ذلك وأخطر، وذلك حين تتعمد برامج أجهزتها الصناعية العملاقة سلب الحسّ النقدي، والتحليلي من الإنسان الطبيعي تمهيدا لتوحيد البشرية بدماغ واحد فقط من أجل توجيه الأوامر لها بوصفها كتلة بايولوجية موحدة، بحسب بعض علماء الاجتماع، ومنهم الدكتورة الروسية أولغا شفتشينكا، ووجهة النظر هذه قد يعلوها شيء من الغرابة، والتطرف أيضا، لكن الاستطراد فيها قد يخرجنا من صلب ما نحن فيه.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2024 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق