ملامح سوريا الانتقالية حالياً ستعيد صياغة التحالفات الإقليمية والدولية وتشعل التنافس والصراع بين هذه القوى لتأمين المصالح ودعم الحلفاء لها، ما يعني ان سوريا ستكون ملعبا لضمان المصالح وتحريك السيناريوهات المطلوبة لتحقيق ذلك من جهة، وارضاً خصبة للانقسامات والتناحر الاجتماعي من خلال مشاريع القوى الخارجية التي قد توظف...

بعد اكثر من خمسين عام لحكم عائلة الاسد، سقط وزال نظام الاسد وحزب البعث في سوريا بشكل دراماتيكي خاطف، لا يمكن توقع حالة الاستقرار في سوريا مالم تتم معالجة ومواجهة التحديات الماثلة امام سوريا من قبل الحكومة الجديدة، والا فإن منزلقات عدم الاستقرار والفوضى ستكون هي الحاكمة في البلاد.

لقد أثار سقوط هذا النظام مشهداً من الذكريات المتكررة للمراحل المختلفة من الحرب والفوضى والدمار، والتي تركت بصمتها على الداخل السوري وعلى التوازنات الإقليمية والعالمية على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية، بدءاً من الاحتجاجات الشعبية المناهضة للحكومة في أعقاب الانتفاضات العربية؛ والاستجابة العنيفة الأولية من جانب قوات الأمن السورية؛ واستخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين السوريين؛ وحجة القتال الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش؛ وتدخل روسيا وإيران وحزب الله نيابة عن الأسد في مواجهة المجاميع المسلحة؛ والهجوم التركي ضد المسلحين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة؛ ومن خلال كل ذلك، تزايد التدفق الجماعي للاجئين السوريين إلى البلدان المجاورة وأوروبا، لقد دفعت الحرب الأهلية في سوريا كل هذه التحولات في المشهد الجيوسياسي، والتي بدورها شكلت الوضع الداخلي الاقليمي المعقد الذي تعيشه سوريا اليوم.

ومن عجيب المفارقات أن التحولات العالمية الحديثة سهلت هجوم المجاميع المسلحة المدعومة من تركيا وقطر والولايات المتحدة الذي بدأ في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، بعد انشغال روسيا وإيران وحزب الله في صراعات أخرى، وتطورت جماعة تحرير الشام المتمردة إلى منظمة مسلحة ذكية قادرة على شن هجومها المفاجئ ضد نظام الأسد بفعالية مدمرة.

لقد خلق الحكم الاستبدادي لنظام الأسد والحرب الأهلية تحديات متشابكة للمجتمع السوري، وتحتاج هذه التحديات إلى معالجات من أجل خلق نوع من الاستقرار، وللحكومة المؤقتة رغم التحفظات عليها دور اساسي في ذلك يراهن عليه وفق مسارات ومصالح القوى الخارجية التي تريد خلق توازنات جديدة في سوريا من خلال التحكم بمواجهة هذه التحديات من عدمها واهم هذه التحديات:

التحدي الأول: الذي أصبح واضحاً على الفور هو حجم الفظائع التي ارتكبت في نظام سجون الاسد، والذي سبق الحرب الأهلية ولكنه نما في الحجم والشدة بمجرد بدء الصراع، وهذا يثير أيضا السؤال الأوسع نطاقا حول العدالة الانتقالية وتداعياتها، اذ صرحت الحكومة المؤقتة بقيادة هيئة تحرير الشام إنها تخطط لمحاسبة المسؤولين في نظام الأسد، لكن الدرجة التي ستكون بها مؤسسات سوريا قادرة على القيام بذلك تظل سؤالا مفتوحاً، وسوف تحتاج أيضا إلى تشكيل مؤسسات جديدة كجزء من عملية الانتقال، وضمان أن تكون هذه المؤسسات شاملة سوف يقطع شوطاً طويلاً نحو ترسيخ الشرعية المحلية.

 ومع ذلك، سيكون هذا معقدا في مجتمع مجزأ مثل سوريا، فضلاً عن حقيقة أن الصراع الداخلي لم يتم حله بالكامل. اذ سوريا بحاجة الى سلطة قضائية جديدة مستقلة لا تكون اداة انتقام بيد المتضررين من نظام الاسد، بل تلجأ للقانون لإنفاذه فضلا عن ضرورة وجود المصالحة الوطنية والمجتمعية التي يجب ان تسارع هذه الحكومة على العمل بها؛ لان وجود مسار تحقيق العدالة يجب ان يرافقه مسار التعايش والمصالحة والمساكنة اجتماعياً، الحقيقة لاتوجد مؤشرات واضحة بأن تقوم حكومة ابو محمد الجولاني بهذا المسار والافعال المرتكبة لغاية الان لا تقرب حصول هذا المشهد رغم تصريحات الطمأنة والاحتواء التي تحدث بها.

التحدي الثاني: وهو تحدي واسع النطاق يتمثل في إعادة البناء والإعمار، لقد دمرت الحرب الأهلية سوريا، مما ترك الملايين من السوريين في فقر مدقع بسبب الاقتصاد الضعيف الذي يواجه عقوبات اقتصادية امريكية وغربية. كما دمر الكيان الصهيوني البنى العسكرية واحتلت اراضي جديدة من البلاد فوق الخط الفاصل، وتضررت بعض البنى التحتية نتيجة الاعمال العسكرية، وفي الأمد القريب، ستحتاج البلاد إلى كميات هائلة من المساعدات الإنسانية والدعم الدولي. وفي الأمد الأبعد، ستحتاج إلى إعادة بناء اقتصادها بالكامل من الألف إلى الياء. 

وقد تواجه سوريا ازمة عودة اللاجئين، الذين يعيش الملايين منهم خارج البلاد، والذين سيكونون سلاح ذو حدين اما يكونون جزءً من المساهمة بقوى إنتاجية -فضلاً عن رأس المال المحتمل اعتماداً على المكان الذي يأتون منه- في جهود إعادة الإعمار. او انهم سيكونون جزءً من العبء الاقتصادي خاصة ان مسألة إعادة دمجهم من شأنه أيضا أن يمتص الموارد التي تعاني من نقص شديد.

التحدي الثالث: اختلال التوزانات الاقليمية والدولية في سوريا؛ اذ خلف سقوط الأسد آثاراً كبيرة على المنافسة بين القوى العظمى وعلى الجهات الفاعلة الخارجية التي تريد ان تضمن مصالحها في البلاد.

من المؤكد أن روسيا قد تلقت الضربة الأكبر من عملية انتقال السلطة للمجاميع المسلحة، وبدأت تنكفأ مصالحها فيها حتى انها استسلمت نتيجة ذلك اذ بعد كل شيء من وجودها الفعال في سوريا، كانت فعالية الهجوم المفاجئ الذي قادته هيئة تحرير الشام تعزى بشكل كبير بالفعل إلى ضعف قدرة روسيا على فرض قوتها على المنطقة بالطريقة التي فعلتها قبل تركيز انتباهها ومواردها على غزوها لأوكرانيا وكيفية مواصلة هذه الحرب المكلفة، إن روسيا لن تكون قادرة على تحمل المزيد من الخسائر إذا ما قررت الحكومة الجديدة إنهاء الوجود العسكري الروسي في البلاد، الأمر الذي يعني أن موسكو ستخسر قاعدة بحرية على البحر الأبيض المتوسط في طرطوس ومطاراً جوياً استخدمته كمركز لوجستي لدعم عملياتها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا في اللاذقية. لكن بوتين أعلن ان روسيا ستضمن مصالحها في سوريا وتلقت تطمينات حول ذلك، ما يعني ان الصراع والتنافس سيعود بشكل أكبر مع القوى العالمية الموجودة في سوريا، وهذا بحد ذاته تحدي يواجه مستقبل سوريا.

اما الولايات المتحدة فهي بالحقيقة لم تلعب دوراً ذا مغزى في إدارة الأزمة في سوريا، وتآكلت قدرة واشنطن على تشكيل النتائج في المنطقة بشكل تام في عهد ادارة جو بايدن ماخلا دعم ادارته لتل ابيب في حربها على غزة ولبنان. أن تراجع النفوذ الأميركي يشكل أيضاً أحد أعراض وأسباب التآكل الأوسع للنظام الدولي الذي كانت تقوده ليتحول الى نظام متعدد الأطراف، اذ من المؤكد أن واشنطن لم تعلب دوراً الا ضئيلاً في انتقال السلطة في سوريا ودعمت بشكل محدود وغير مباشر المجاميع المسلحة لأنها تمر في فترة انتقالية للسلطة وان كانت دولة مؤسسات، ولوجود تعارضات بينها وبين هذه المجاميع لذلك تركت المجال لتركيا وقطر لأداء هذا الدور بشكل مباشر وفعال، لكن هذا لايعني انه سيشكل خسارة للدبلوماسية الأميركية في سوريا والمنطقة؛ لان الادارة القادمة ستكون لها مقاربة اكثر حزماً في فرض هذه المصالح ودعم حلفاءها وخاصة الكيان الصهيوني.

كما ان ايران بعد خسارة العمق السوري لن تتفرج على البديل التركي والقطري والامريكي والاسرائيلي وهم يعملون على تقويض مصالحها والسماح بتفكيك محور المقاومة دون وجود اليات للمواجهة او الزعزعة والفوضى او احلال النفوذ بأي طريقة كانت، كدعم اكراد سوريا او الاقليات المتضررة من الحكم الجديد، وهذا بحد ذاته سيكون تحدي لسوريا واعادة بناءها، إيران ستبحث عن مدخل جديد في سوريا بأي حال من الاحوال وستجد بديلاً مؤقتاً على الحدود الأردنية الطويلة مع سوريا، وهذا يعني بقاء المخاطر والتوترات نتيجة رغبة ايران باستعادة نفوذها في سوريا.

وأخيراً، فإن الغياب شبه الكامل للصين عن الموقف يبدو أمر ملحوظ أيضاً، فقد أثبتت بكين بوضوح أنها منافس اقتصادي للولايات المتحدة وقوة أمنية في شرق آسيا، ولكن على الرغم من الجهود المبذولة تنموياً وامنياً سواء في المنطقة لكسب النفوذ او في سوريا لإيجاد موطئ قدم لها ضمن المصالح المتنافسة فيها، فإن ثقلها الدبلوماسي لا يزال متخلفاً كثيراً عن القوى الأخرى، سواء في الشرق الأوسط أو على مستوى العالم، وهذا الثقل سيختفي ويتراجع بشكل اكبر في المنطقة بسبب المعطيات الجديدة في سوريا، التي ستخسر الدعم الصيني وتحسب على المحور الامريكي الغربي.

إن كل هذا سيترك فراغاً في سوريا، ويفتح الباب أمام تدخل القوى المجاورة والإقليمية، فقد قصفت إسرائيل سوريا بغارات جوية منذ سقوط الأسد وتقدمت بقواتها البرية عبر منطقة عازلة بين البلدين. وفي الوقت نفسه، تسعى تركيا إلى دفع وكلائها في الشمال الشرقي للاستفادة من سقوط الأسد، وتتنافس دول الخليج على النفوذ مع الحكومة الانتقالية.

باختصار ان ملامح سوريا الانتقالية حالياً ستعيد صياغة التحالفات الإقليمية والدولية وتشعل التنافس والصراع بين هذه القوى لتأمين المصالح ودعم الحلفاء لها، ما يعني ان سوريا ستكون ملعبا لضمان المصالح وتحريك السيناريوهات المطلوبة لتحقيق ذلك من جهة، وارضاً خصبة للانقسامات والتناحر الاجتماعي من خلال مشاريع القوى الخارجية التي قد توظف وتغطي هذه الانقسامات لتحقيق مصالحها.

السياق الوحيد والمهم الذي يمكن ان نضع من خلاله تصورات ايجابية لسوريا القادمة مرهون الآن فيما لو كانت القوى الإقليمية والدولية ستساعد في إعادة بناء سوريا ولن تغذي وتفاقم التوترات الداخلية التي من شأنها أن تعيق السلام والاستقرار المطلوب لبناء سوريا الجديدة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2024 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق