تحتاج أنظمة الحكم والمجتمعات الحريصة على مستقبلها الى الحفاظ على منظومة قيمها المدنية، وتجنب الاسباب التي تشكل خطرا عليها، وهنا سيبرز أهمية تفعيل دور الاسرة، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسات الدينية، والمدنية، ووسائل الاعلام، ومؤسسات انفاذ القانون...كأدوات ناجعة ومؤثرة في حماية هذه المنظومة، وتعزيزها، وترسيخها كمصدر مهم من مصادر...
القيم المدنية هي مجموعة من المعايير التي تنظم علاقة الافراد فيما بينهم، وفيما بينهم وبين انظمتهم الحاكمة مثل: احترام القانون، احترام الملكية، احترام الرأي والرأي الآخر، التسامح، العدالة، الحرية، الشعور بالمسؤولية، الانضباط، الاعتدال، المبادرة، الشجاعة، الصدق، النزاهة...الخ.
وترتبط هذه القيم بالتمدن والمدنية، فهي ضد نوعي للبدائية والتوحش؛ كونها تحافظ على التماسك والوحدة ومد جسور الثقة والتعاون بين الافراد أنفسهم من جهة، وبينهم وحكوماتهم من جهة أخرى، لتصبح المجتمعات قوية، مستقرة، ومتقدمة ...لا على المستوى النظري فحسب، بل على مستوى التطبيقي -أيضا- من خلال أنماط السلوك السائدة في التعامل مع وجهات النظر المختلفة، ومعالجة المشكلات، ومجابهة المخاطر والتحديات، وفاعلية القوانين والمؤسسات، والعمل على بناء المستقبل المشترك لجميع افراد المجتمع بمختلف اثنياتهم وانتماءاتهم الفكرية.
وتكمن قوة القيم المدنية في قدرة المجتمعات على تحويلها من مجرد أفكار تجول في العقول والضمائر الى قواعد وأنظمة تحكم تصرفات الناس والحكومات؛ كاشفة عن متانة ورقي نظامها الأخلاقي، وقدرتها على ايجاد نظام حكم عادل يحافظ على مصالح المجتمع والدولة، ويحترم حقوق وحريات الافراد في الوقت نفسه، فالعلاقة طردية بامتياز بين صلاح نظام الحكم وصلاح النظام الأخلاقي، بحكم علاقة التأثير المتبادل بين الاثنين، فقيمة المؤسسات لا تظهر من خلال عظم هياكلها الخرسانية، ودقة وعدالة قوانينها، وتكامل بناها التحتية المادية، بل تظهرها طبيعة الافراد الذين يقومون بإدارتها، ويسهرون على تطبيق قوانينها وانظمتها...
وعندما يفتقر هؤلاء الافراد الى قيم مدنية تضبط تصرفاتهم عندها يتحولون من بناة لدولهم الى معاول تدمر المؤسسات، وتشوه تطبيق القوانين مما يحرفها عن دورها الصحيح المتوقع منها، هذا في حال زعم النظام الحاكم انتسابه الى الديمقراطية على مستوى المؤسسات والقوانين، اما عندما يكون النظام مستبدا وغاشما فان وجود افراد لا يتحلون بالقيم المدنية داخل وخارج مؤسسات الدولة يعد كارثة بمعنى الكلمة؛ اذ سيزيدون حكامهم السيئين سوءً، ويقحمون مجتمعاتهم في محن وخيمة العواقب.
لقد دفع التأثير المتبادل بين النظام الأخلاقي ونظام الحكم الى اعتقادات راسخة مفادها: لا وجود لنظام حكم جيد، بدون وجود نظام أخلاقي جيد، ولكن ما الذي يفسد النظام الأخلاقي ويحوله من نظام مدني القيم الى نظام بدائي القيم؟
لا يوجد في العالم شيء اسمه مجتمع جيد، ومجتمع سيئ بالفطرة، فجميع المجتمعات جيدة بفطرتها، ولكن ما يفرق بعضها عن البعض الاخر هو طبيعة التجارب التي تخوضها هذه المجتمعات، ومدى تعلمها من تجاربها، فهناك مجتمعات تكرر اخطائها فتعيش العنت والمصائب، ومجتمعات تتجنبها فتحولها الى فرص للتطور والارتقاء.
ومن يتابع الصنف الأول من المجتمعات يجدها تدور في دوامة من الأمور السيئة، ولوقت طويل من حياتها، دون ان تجد لنفسها المخارج الصحيحة من هذه الدوامة الملعونة، اذ تتحكم بمصيرها جملة من الأسباب المدمرة لقيمها المدنية، منها:
- سيادة الأفكار المتعصبة، وتلاقح النظام الأخلاقي ونظام الحكم بها؛ لتوظيفها في خدمة طموحات ومصالح مختلفة.
- الحروب، وهي أقسى التجارب التي تمر بها المجتمعات؛ كونها تفقرها اقتصاديا، وتضعفها اجتماعيا حتى لو كسبتها عسكريا، فما بالك لو خسرتها؟، وكلما كثرت الحروب وطالت زادت نتائجها الكارثية على المجتمع والدولة، ولذا قيل ان أفضل انتصارات الشعوب هي الانتصارات التي تتم بلا حرب، وإذا اضطرت اليها فينبغي ان لا تزيد عن حرب واحدة خلال الجيل الواحد.
- التطرف الديني؛ وجدت الاديان لتعزيز التسامح والمحبة بين الانسان وأخيه الانسان، ولكن عندما توظف سياسيا وعقائديا في تشظي المجتمعات وانقسامها مذهبيا ودينيا بفعل اعتقادات وتصورات خاطئة، تصبح أداة من أدوات تدمير القيم وبث الكراهية والقسوة بين الناس.
- الفساد؛ فهو آفة مدمرة للقيم المدنية، وكلما ارتفعت مؤشراته، ارتفع الشعور بعدم العدالة الاجتماعية، وغلبت اللامبالاة على سلوك الافراد، وسادت بينهم قيم متردية مثل: الخيانة، وعدم احترام القانون، والظلم، وضعف الأداء، وإساءة إدارة المؤسسات وتطبيق القوانين...
- الصراع السياسي؛ فاتساع الصراع بين القيادات والقوى السياسية يصيب بقية المجتمع بعدواه الضارة، وبدل ان تكون القيادات والقوى السياسية أداة لتوحيد مجتمعها وزيادة تماسكه وتقليل حدة اختلاف الآراء والمصالح داخله تصبح أداة لتمزيقه وتشتيته ونشر الفرقة بين افراده.
- التفاوت الاقتصادي والاجتماعي؛ فالمجتمعات التي تفتقر الى تنمية شاملة عادلة، وتشكو من اختلالات اقتصادية هائلة، وفجوات اجتماعية ظالمة، من الصعب ان يحافظ افرادها على سلامة نظامهم الأخلاقي، وهي مستعدة لكل ما يلحق الضرر بهذا النظام، ولذا تتصاعد فيها معدلات: العنف، والجريمة العادية والمنظمة، وخرق القانون، والتفكك الاجتماعي، والتطرف الفكري والسلوكي، وانحدار مستويات التربية والتعليم...
- وسائل الاعلام؛ يمكن لوسائل الاعلام ان تكون سلاحا مدمرا للقيم المدنية، عندما تتخلى عن رسالتها الأخلاقية، وترتبط برسالة الافراد والقوى والمؤسسات المشغلة لها، لاسيما عندما تكون الأخيرة متطرفة وضيقة الأفق، ولا تبالي كثيرا بمصالح المجتمع والدولة.
- التطور التكنلوجي؛ ان التطور الهائل الذي يحصل في تقنيات التواصل بين الناس، وسبل حصولهم على المعلومات يمثل خطرا حقيقيا عندما يكون خارجا عن السيطرة، ويجري في مجتمعات غير مهيئة له، لاسيما عندما يصبح الفضاء الالكتروني بديلا عن الفضاء الواقعي في صناعة وعي الافراد والجماعات، وعندها يصبح المجتمع اسيرا لنوايا ومصالح القوى التي تتحكم بهذا الفضاء الالكتروني، ويكون الإدمان في الفضاء الالكتروني المشبوه لا يقل ضررا عن الإدمان على المخدرات، بل هو اشد وأمضى.
بناء على ما تقدم، تحتاج أنظمة الحكم والمجتمعات الحريصة على مستقبلها الى الحفاظ على منظومة قيمها المدنية، وتجنب الاسباب التي تشكل خطرا عليها، وهنا سيبرز أهمية تفعيل دور الاسرة، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسات الدينية، والمدنية، ووسائل الاعلام، ومؤسسات انفاذ القانون...كأدوات ناجعة ومؤثرة في حماية هذه المنظومة، وتعزيزها، وترسيخها كمصدر مهم من مصادر قوة المجتمع والدولة، بل أهمها على الاطلاق، ولكن يبقى دائما الدور الرائد في هذا الموضوع هو للقيادات السياسية والاجتماعية؛ بحكم وضعها القيادي على رأس هرم المؤسسات والمجتمع، وما يمكن ان تلعبه من دور مؤثر كقدوة حسنة او سيئة في حياة شعوبها.
اضف تعليق