إن عدم ارتباط ترامب بأي عقيدة سواء أكانت آيدلوجية أو أخلاقية، وغرامه العنيف بحيازة أكبر قدر من المكاسب التجارية من دون مراعاة إنسانية لمصالح الطرف الخاسر يسوّغ تصور الرجل بوصفه داعية حرب أكثر منه داعية سلام، بصرف النظر عن ترديده أثناء حملاته الانتخابية لعبارات محبة السلام، ومعاداة الحروب...

لا يدين بأي معتقد خارج رأس المال، والمسيحية التي تبناها، ودافع عنها بحماس منقطع النظير في حملته الانتخابية (الأولى) تبيّن بعد اختبار بسيط أنه يجهلها تماما، فقد تكشف للجميع أنه لا يملك أدنى معرفة بطقوس يوم الأحد، هذه التي يُفترض أن يلّم بها كل من حضر قداسا في كنيسة، ولو لمرة واحدة في حياته برأي بعض المراقبين...  

ترامب هذا المتمرد، والمتنمر صغيرا وكبيرا ماذا يمكن للعالم أن يتوقع منه؟ 

كل التوقعات ممكنة الحدوث حتى الأكثر سوءا منها إذا أدركنا حقيقة أن سلطة هذا الرجل تكاد تكون بلا حدود في غضون شهرين تقريبا من هذا التاريخ، فكل شيء في قبضته تقريبا، المحكمة العليا تحت إمرته، وكذلك الكونغرس ممثلا بـ(مجلس الشيوخ)، ويبدو أن مجلس النواب يسير بالأثر هو الآخر نحو أحلام ترامب، فضلا عن دعم حركة (الترامبية)، وهم بالملايين في أمريكا وأوروبا من ذوي البشرة (البيضاء)، والأجندة (السوداء)...

في فترته الرئاسية الأولى أخفق الرئيس دونالد ترامب في إدارة أزمة كورونا بحسب مواطنين أمريكيين، ومنهم خبراء في هذا المجال مثل الدكتور توماس فريدن، فضلا عن وصف الرئيس السابق باراك أوباما لإجراءات ترامب في مكافحة الجائحة بالكارثية والفوضوية. والرئيس ترامب لم يف بأشهر وعوده الداخلية لناخبيه، فلم يبنِ جدارا عازلا يفصل أمريكا عن المكسيك فصلا تاما كما وعد، فهل يفعلها الآن وقد بلغ عدد المهاجرين غير الشرعيين حوالي عشرين مليون شخصا ويستجيب للافتات أنصاره المطالبة بـالترحيل الجماعي للمهاجرين علما أن احتمال ترشحه لفترة ثالثة بحكم المستحيل دستوريا! 

هناك من يرى في شخصية ترامب في عام 2024 تبدلا واضحا عمّا كانت عليه في عام 2016، فالرجل الذي اُتهم في ذلك الوقت بالمتخبط والمتقاعس، والمتهور الذي لن يذكره التاريخ! صارت سيرته بين عشية وضحاها تُتداول في أوساط الملايين داخل أمريكا وخارجها بوصفها مثالا للتركيز وبعد النظر والهمّة العالية، فهو السياسي العنيد الذي استطاع أن يصمد وينتصر في حرب داخلية شرسة امتدت رحاها على مدى أربع سنوات، واستخدمت خلالها كل أسلحة الفنون والقانون والسياسة والإعلام. 

لكن هناك من يشكك في مستوى الانتصار الذي بلغه ترامب نوعا ودرجة. ويمكن اختزال الحجج التي يسوقها هؤلاء المشككون بمقولة مكثفة هي: لولا وجود بايدن ما وجد ترامب، بمعنى أن الأداء السيئ لجو بايدن ومسؤولياته عن تبديد ثروات أمريكا على حروب خارجية، وترشحه للانتخابات مع كونه فاقدا للياقة الصحية، ثم تنحيه لصالح نائبته (كمالا هارس) تحديدا مع تواضع مؤهلاتها قياسا بغيرها، وتصريحاته التي أضرّت عن قصد أو غير قصد بـتلك المرأة (الملونة) هو من أدّى إلى فوز ترامب...

الحقيقة أن الفرضية التي تنسب نجاح ترامب إلى فشل بايدن بشكل مباشر لا يمكن التسليم بها، كما أن الفرضية التي تفيد بحدوث تغير (دراماتيكي) في شخصية ترامب لا يمكن الإذعان إليها أيضا، فالرجل بسماته النرجسية المفرطة في تضخيم الأنا ما يزال هو الرجل نفسه، وصفاته الشخصية المتعالية على الآخر خاصة المختلف (جينيا) ماتزال حاضرة كذلك، وما لم يقله هو بلسانه قاله بعض أنصاره نيابة عنه، ويمكن الاستشهاد لهذه الفكرة بما جرى مؤخرا في التجمع الانتخابي الداعم لترامب بولاية نيويورك، حيث الإساءة العلنية المتعمدة للسود واللاتينيين... 

من ملاحظة تاريخه الشخصي فإن الرئيس دونالد ترامب ذو شخصية تؤمن بطريقة العلاج بالصدمة، ويغلب عليه جانب الحسم، ولا يتورع عن استعمال أقصى ما يمتلكه من صلاحيات إذا تطلّب الأمر ذلك، وهي الحالة العامة الظاهرة في سلوكه التي تنبّه إليها القادة العسكريون في فترته الرئاسية الأولى، فعملوا على تقييد وصوله إلى السلاح النووي، فقد اتخذ رئيس هيئة الأركان المشتركة (مارك ميلي) خطوات لمنع الرئيس دونالد ترامب من إساءة استخدام الترسانة النووية وفقا لما نشرته شبكة (إن بي سي نيوز). وربما من هنا أيضا يمكن تفسير أحاديث الهلع التي سادت الشارع الأمريكي في الآونة الأخيرة محذرة من مخاوف اندلاع حرب أهلية فيما لو لم يفز ترامب. 

وعلى الرغم من أن البعض قد يذهب باتجاه قراءة ما حدث بمنظور الإشاعات التي تسبق توقيت إعلان النتائج، ويمكن نسبتها بسهولة إلى أحد الحزبين الأمريكيين الرئيسيين، لكن واقعة اقتحام الكونغرس الأمريكي، عقب خسارة ترامب للانتخابات السابقة من طرف أنصاره، وما جرى خلالها من مشاهد دموية غير مسبوقة في التاريخ الحديث لأمريكا يصب في صالح قراءة تلك الأخبار المخيفة بوصفها احتمالات واردة جدا لا بوصفها إشاعات كاذبة. 

تؤكد الأكاديمية الأمريكية (باربرا ولتر) إن الحرب الأهلية تكون محتملة جدا في الدول ذات الممارسة الديمقراطية التي تسمح أنظمتها بانتخاب أشخاص دكتاتوريين بطبعهم. وعليه فإن إمكانية التصادم الأمريكي - الأمريكي بعد انتخاب ترامب مجددا هي فرضية ممكنة كما أن الصدام أو التوتر بأعلى مستوياته مع أطراف خارجية محتمل هو الآخر بالنظر إلى اشتعال المعارك في أكثر من بقعة في العالم تتواجد فيها أمريكا بوصفها داعما لطرف محارب ضد طرف آخر. 

إن عدم ارتباط ترامب بأي عقيدة سواء أكانت آيدلوجية أو أخلاقية، وغرامه العنيف بحيازة أكبر قدر من المكاسب التجارية من دون مراعاة إنسانية لمصالح الطرف الخاسر يسوّغ تصور الرجل بوصفه داعية حرب أكثر منه داعية سلام، بصرف النظر عن ترديده أثناء حملاته الانتخابية لعبارات محبة السلام، ومعاداة الحروب؛ لأن الإيمان بالسلام لا يمكن أن يغدو فكرة مطلقة في ذهن ترامب لما ذكرناه من مواصفات الرجل الشخصية القائمة على المغالبة، والقهر، والتقلّب، وتحقيق الحدّ الأقصى من المكاسب من دون أي اعتبار لمصالح الطرف الآخر ، ومشاعره.  

اضف تعليق