وبقدر ما يتعلق الأمر بتأمين انتخابات نزيهة، وهي مطلب أساسي للجماهير تدعو الضرورة إلى تخويل المجتمع المدني، والصحافة المستقلة أيضا بانتهاج تطوير أساليب علمية مبتكرة تحول دون إمكانية التزوير، ومن ثم تمكين جميع الأصوات المحلية للتعبير عن إرادتها وحضورها في الساحة السياسية خدمة لمناطقها...
دراسة تجربة اللامركزية في العراق وتأثيرها في التنمية المحلية في المحافظات، وكيف يمكن أن تسهم في تحسين الخدمات، وتخفيف الضغط عن الحكومة الاتحادية
أكثر من عقد ونصف العقد من السجال الدائر في أوساط النخبة فضلا عن عموم المواطنين العراقيين بخصوص الإبقاء على مجالس المحافظات أو إزالتها ينتهي (مؤقتا) لمصلحة المطالبين بإلإزالة، ولكن البهجة التي عمّت نفوس الفريق المنتصر تبددت تدريجيا بعد إعادة تفسير الإلغاء بوصفه (تعليقا لا إلغاء) من لدن المحكمة الاتحادية العليا، ومن ثم التمهيد لاستئناف إجراءات الانتخابات المحلية سنة 2023، لتعود المجالس المغضوب عليها شعبيا إلى ممارسة الحياة السياسية بما تتضمنه من إشراف ورقابة وتشريع.
إن مغزى التذكير بهذا السجال الذي شهده العراق على مدى أكثر من ثلاث سنوات (شداد) يكمن في أن مجالس المحافظات، وما يتفرّع منها من وحدات إدارية تمثّل الوجه اللامركزي الأكثر بروزا في المشهد العراقي العام، وذلك بعد إقرار دستور عام 2005، وما أعقبه من انتخابات مجالس المحافظات والأقضية والنواحي في نهاية ذلك العام نفسه.
وعلى الرغم من أن الدافع وراء إعادة الروح لمجالس المحافظات بعد محاولة إقصائها كان دافعا سياسيا صرفا، ويخدم الكيانات السياسية الكبرى القابضة على دفّة الحكم، ويهمّش الكيانات الناشئة فضلا عن تهميش المرشحين المستقلين، واصلت هذه القصة رحلتها إلى نهايتها المخطط لها غير آبهة بالنعوت التي تصمها بالصفقة المشبوهة المناقضة لمطالب شعبية واسعة النطاق، لاسيما تلك التي تزامنت مع انطلاق احتجاجات 2019 في وسط وجنوب العراق، وهي الآن أي المجالس المحلية -بحكم الأمر الواقع- تعدّ مؤسسة دستورية (منتخبة)، وتمارس أنشطتها بحسب ما لديها من سلطات وصلاحيات في ظل تفاوت في النظرة إلى أدائها العام اجتماعيا من محافظة إلى أخرى.
والملاحظة العامة في هذا السياق تتمثّل في أن المحافظات المتناغمة سياسيا أي ما يكون الفريق الإداري العامل فيها ينتمي إلى كتلة سياسية معينة أو خط سياسي محدد هي الأكثر قبولا من وجهة نظر الشارع، والعكس من ذلك حادث في المحافظات ذات التركيبة الإدارية المتنازعة، أو المتشاكسة سياسيا حيث شبهات الفساد وسوء الإدارة تحوم حول أعضاء مجلس المحافظة، أو تنال من بعضهم في أقل تقدير، ما انعكس سلبيا على حُسن الأداء في تلك المجالس ، ونتج تبعا لذلك الأداء المتعثر إخفاق واضح في تلبية احتياجات (الناخبين)، وزيادة النقمة على (النظام اللامركزي) الذي يحمله هؤلاء الناقمون المسؤولية عن تردي أحوالهم المعاشية، وظروفهم الحياتية.
ومع هذا التصور فإن التخفيف من حدّة التفاوت في النظرة لعمل مجالس المحافظات يمرّ عبر حلّ المعضلة السياسية، هذه المعضلة التي ترسم واقعيا حدود الفشل والنجاح بين المجالس المحلية المختلفة، ويترتب على حلّ تلك المعضلة حلّا ناجعا تحويل المجالس المنتخبة إلى أداة قوية في تنمية مجتمعاتها، والأخذ بها إلى معدلات متقدمة من حيث الرخاء والرفاهية، وهذه النتيجة المنشودة والمتوخاة لا يُرجى نوالها من دون اتباع حزمة من السياسات في مقدمتها تعزيز الأطر القانونية المحددة بوضوح لأدوار المجالس المحلية، وما يكتنفها من مسؤوليات، ومساعدتها في تحسين صناعة القرار.
وذلك من خلال تكثيف إجراءات الشفافية، والمساءلة، واتباع آليات التدقيق المنتظم، وإصدار التقارير العامة التي تتكفل بالتصدي لآفة الفساد، والتلاعب السياسي. ويمكن للمنظمات غير الحكومية أن تؤدي دورا مهما في إطار مجابهة الفساد والتأثير السياسي الضار، ومن ثم الدفاع عن مصالح السكان المحليين، وحقوقهم وذلك عن طريق السماح لها بمساءلة المجالس في جو من (الإشراف الديمقراطي المدني) المتجرد من سوء الظن المنطوي على عدائية معلنة أو مضمرة؛ لأن عمل هذه المجالس في نهاية المطاف هو عمل مشروع بسند واضح من الدستور النافذ، وأنها أي المجالس المحلية في حال توظيفها توظيفا سليما ستخدم بلا شك السكان المحليين، وبلا شك أيضا فإن توفير التدريب اللازم لأعضاء المجالس، ومعيتهم من الموارد البشرية الأخرى سيسهم في تحسين قدرتهم على إنجاز ما في عهدتهم من مسؤوليات.
وبقدر ما يتعلق الأمر بتأمين انتخابات نزيهة، وهي مطلب أساسي للجماهير تدعو الضرورة إلى تخويل المجتمع المدني، والصحافة المستقلة أيضا بانتهاج تطوير أساليب علمية مبتكرة تحول دون إمكانية التزوير، ومن ثم تمكين جميع الأصوات المحلية للتعبير عن إرادتها وحضورها في الساحة السياسية خدمة لمناطقها.
إن اختيار ساعات العمل المناسبة لإجراء أعمال الصيانة البلدية الدورية في أوقات لا تسبب إرباكا لعموم المواطنين، وتؤدي إلى تعطيل أعمالهم اليومية من شأنه أن يمد جسور الألفة والاحترام بين الطواقم الحكومية العاملة في المحافظة وبين مجتمعاتهم المحلية هذا على سبيل المثال طبعا.
وتتعاضد مع هذا السياق أفكار من قبيل إنشاء خطوط ساخنة، ومنصات إلكترونية مخصصة لإبلاغ السكان المحليين بالأنشطة الرسمية المجدولة في قطاعات الأمن والخدمات، والاستماع إلى مقترحات المواطنين بخصوص مدى رجاحة التخطيط، وتحديد الأولويات الخاصة بتلك الأنشطة، مع تزويدهم بالبيانات، والتحليلات الخاصة بالمناطق ذات الاحتياج الأعلى للخدمات درءًا لاحتمالات التفكير بوجود محاباة وتحيّز في مناطق دون أخرى.
ومما يصبّ في هذا الغرض اقتراح معالجات عملية لتحسين موارد الدخل في نطاق المجتمعات الأكثر فقرا، وخلق حلول جذرية لمشاكل البطالة، والأمية، وما يرتبط بها من هموم اجتماعية كارتفاع كُلَف السكن والعلاج والتعليم وصولا إلى جعل المشهد العام لهذه المحافظة أو تلك مشهدا باعثا على التفاؤل، ومعزّزا لقوة الانتماء والترابط الاجتماعي بين السكان.
وبما يجعل من المنطقة الجغرافية الناجحة في هذا (التنافس الإداري) مثالا يُغري بالتقليد والمحاكاة، وهو الأمر الذي قد يمتد إلى سائر الرقعة الجغرافية للبلاد، ويؤدي بالنتيجة إلى إحداث فرق إيجابي كبير ضمن الإدارات المحلية العاملة بمقتضى مبادئ اللامركزية من جهة كما يسهم في رفع ضغط هائل عن كاهل الحكومة الاتحادية من جهة أخرى.
اضف تعليق