علينا تحرير الرئيس مما يكبله بجعل الشعب هو الذي ينتخبه وليس الكتلة الأكبر في البرلمان، فالبرلمان في جوهره لا يمثل الشعب اطلاقا، وان جاء بالآليات الديمقراطية، ولو كان كذلك لوقف سدا منيعا أمام حكومات أهدرت من المال العام ما يجعل العراقيين أكثر شعوب الأرض رفاهية، طبعا بعضهم شريك في هذا الهدر...
أعرف مسبقا ان قلة من القراء سيواصلون قراءة هذا المقال حتى نهايته، وسيكون عددهم أقل بكثير ممن اطلعوا على مقالات سابقة، ولا يرتبط ذلك بشخصية كاتبه او اسلوبه، بل بمضمونه الواضح، وهو سياسي بطبيعة الحال، والناس ملّت من السياسة وأهلها وموضوعاتها، ليقينهم بلا جدوى الحديث فيها، او الاستماع لمتحدثيها، او قراءة ما مكتوب عنها.
ولكن السياسية تحيطنا من الجهات الأربع، فلا موضوع في بلادنا الا والسياسة عالقة به، بدءا من انسداد المجاري، مرورا بالذين ابتلعوا الدولة دون الحاجة لمسواك تنظيف الأسنان، وصولا الى فوز ترامب والتشفي بقهقهات هاريس التي ملأت الفضائيات، كل ذلك يحدث ومن بيده قرارنا الرسمي مكبل بالأصفاد حتى لا يستطيع الخطو، وحاله (كبلاع الموس) كما يقول مثلنا الشعبي، يوزع ابتساماته لكل من يمر به، وفي خلوته يشد على بطنه بأمتن الحبال قوة من فرط آلام القولون.
لست من الذين يروجون للسيد السوداني، فلم ألتقيه يوما، ولا تربطني به صداقة او قرابة، لكني أشعر انه أقرب من تولى رئاسة الوزراء للناس، وبعضهم يشم فيه رائحة الداخل المعجون بلوعة الحصار، ومنهم من يرى انه (منهم وفيهم) على حد تعبيرهم، ولذلك تدغدغ ابتسامته قلوبهم. ومع ان الحديث عنه جدلي، بمعنى هناك من يراه مخلصا مثلي، وآخرون يرونه كحال سابقيه، لكنه والحق يقال أكثرهم تحقيقا للانجازات الخدمية، فقد تمكن وبمدة وجيزة من تحقيق شيء فوق الأرض تراه الناس بعيونها، وهذا بذاته ذكاء منه، فما فوق الأرض يمكن رؤيته، وما تحتها خفي، كما ان الظاهر يصعب اخفاء الفساد المتسلل اليه، بينما الفاسدون السابقون بمستوى السوداني او دونه غالبا ما يختارون وبتأثير الحواشي ما تحت الأرض، لكي لا يعرف الناس ان كانت المشاريع تحققت ام لا، فأين هي مشاريع العشرين سنة الماضي؟
كل ما تحقق في عهد السوداني، وهو كبير قياسا بالماضي، وقليل بما نتطلع اليه، جاء حصيلة مراوغة دروب مكتظة بالعثرات، وأولها عدم حريته في اختيار فريقه الحكومي الذي توصي المرجعية الرشيدة أن يكون كفوءا ونزيها، فالفريق بجميع أعضائه من ترشيحات قوى سياسية متحاصصة، وهي تدفع بأصحاب الولاءات المطلقة وليس الأكفاء والنزهاء، ولو كان الأمر غير ذلك لما وصلنا الى ما نحن فيه من خراب عام من الانسان الى البنيان، وبالمحصلة هم معاول تهدم في جدار الوطن.
نظامنا السياسي يجبر من يتسلم رئاسة الوزراء على مسك العصا من الوسط لاعتبارات شتى، فاذا كان يتطلع للبقاء ضمن الطبقة السياسية فعليه ان لا يزعّل هذا الطرف او ذاك، فلا يمكن له تجديد الولاية مالم يراعي مصالح القوى التي وضعته في هذا المنصب، لذلك لم نر رئيسا حاسما وصارما في مكافحة رؤوس الفساد وهو يعرفهم خير معرفة، لكنه يكتفي للتدليل على تعهداته بمطاردة الذيول، اما اذا تقاطع معها، فلا مصير له سوى الاهمال عند نزوله من الكرسي، ان لم تكن العقوبة أشد.
يستغرب بعض الناس عدم تحلي الرؤساء بشجاعة كافية للتصدي للتدخلات الأجنبية او من يعمل من الاخوان لمصالحها، وقبل الاستغراب علينا تفهم مواقفهم، ففي دواخلهم سؤال يتعذر اعلانه: من يحمينا عند خروجنا من السلطة، فلا ثقة اطلاقا برفاق الدرب او من يقف ورائهم.
علينا تحرير الرئيس مما يكبله بجعل الشعب هو الذي ينتخبه وليس الكتلة الأكبر في البرلمان، فالبرلمان في جوهره لا يمثل الشعب اطلاقا، وان جاء بالآليات الديمقراطية، ولو كان كذلك لوقف سدا منيعا أمام حكومات أهدرت من المال العام ما يجعل العراقيين أكثر شعوب الأرض رفاهية، طبعا بعضهم شريك في هذا الهدر، لكن ذلك يقتضي اصلاح نظامنا السياسي، والمشكلة ان الاصلاح لا يصب في خدمة المتحاصصين، وهكذا سنبقى نراوح في المكان.
اضف تعليق