عودة الاتزان إلى العالمين العربي والإسلامي في النظر إلى التاريخ والذات والآخرين، وتقويم الأمور وتحديد المواقف، وتعيين الأولويات، سيوفر للأمة جمعاء الكثير من الطاقات والقدرات التي تذهب سدى، من جراء غياب الاتزان في الساحتين العربية والإسلامية. فالدقة في التقويم، والاتزان في النظر إلى الذات ومكوناتها، والآخر ومكوناته...

تتميز المنظومات المعرفية المتكاملة، بأن جميع مفرداتها وجزئياتها في إطار نسق فكري واحد، لا تخالف ولا تناقض بينهما. فهي مجموعة مفردات لم تركب تركيبا أو أقحمت في البنيان المعرفي إقحاما. وإنما هي منبثقة انبثاقا ذاتيا في الإطار المعرفي المتكامل. وفي الدائرة الإسلامية، حيث يشكل الإسلام تلك المنظومة المعرفية المتكاملة والشاملة لجميع الأبعاد، نجد أن جميع مفردات وجزئيات هذه المنظومة لا تتناقض مع بعضها البعض، وإنما تتكامل تكاملاً مذهلاً.. بحيث يتشكل لدينا بناء تشريعي متراص ومتكامل. (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).

فالإسلام كبناء معرفي، لا يعلي من شأن قيمة إسلامية على حساب قيمة أخرى، وإنما هو يفاضل بينهما، بما ينسجم ومصلحة الإنسان.. فهو دين التوازن في كل شيء. فهو يوازن بين حاجات الإنسان الجسدية والمعنوية، بين القيم المادية والقيم الروحية.

وبإمكاننا أن نوضح قيمة التوازن في الدائرة الإسلامية من خلال المفردات التالية:

1- التوازن بين الواقعية والمثالية:

ولا نقصد بالواقعية القبول بالواقع بعلاته ومشاكله وسيئاته والخضوع له على ما فيه من هبوط وتخلف وانحطاط. وإنما نعني بالواقعية مراعاة الظروف، وأخذ الزمان والمكان طرفا في عملية التفكير والتشريع. وهذا لا يعني إخضاع القيم والمبادئ المثالية للواقع. وإنما يعني العمل على رفع سيئات الواقع، وإحلال حسنات القيم والمبادئ بشكل تدريجي ومتوازن.. ومن هنا فإن مثالية القيم في الدائرة الإسلامية، لا تعني أنه لا يمكن تطبيق بنودها ومفرداتها في الواقع الخارجي، وإنما يعني اتساق هذه القيم والبنود وانسجامها وملاءمتها للعقل والفطرة..

وعلى هدي هذه الحقيقة نستطيع القول إن الإسلام لم يحرم شيئا يحتاج إليه الإنسان في واقع حياته. كما لم يبح له شيئا يضره في الواقع.كما أن تقدير الظروف التي تعترض حياة الإنسان. وتضغط عليه فإنها أعطيت حق قدرها.. جزء من واقعية القيم والمبادئ في الدائرة الإسلامية.. وقد قال تعالى (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) (البقرة آية 173). وقد اعتبر الإسلام مجموعة من الأمور سببا في التيسير والتخفيف على الإنسان منها (المرض - الخطأ - النسيان - الإكراه) وقد قال تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) (البقرة آية 286).

2- التوازن بين الحلال والحرام:

حيث أن الإسلام متوازن في نظامه القانوني بين اليهودية التي أفرطت في التحريم وكثرت فيها المحرمات، والمسيحية التي أفرطت في الإباحة والتحليل.. ويشير القرآن الكريم إلى إفراط اليهود بقوله تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) (النساء آية 160، 161).

بينما الإسلام وسط متوازن بين إفراطين، إذ يقول تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) (الأعراف آية 157).

3- التوازن بين الفرد والمجتمع:

تعددت النظريات والفلسفات في قضية الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما ومن هو الأصل. فكان أرسطو يؤمن بالفردية المطلقة. وفي قباله أستاذه أفلاطون يؤمن بالجماعية المطلقة. وفي بلاد فارس القديمة ظهر مذهبان متناقضان في هذا الاتجاه. المذهب الماني وهو مذهب فردي، يدعو إلى التقشف والزهد والامتناع عن الزواج، ليعجل الإنسان بفناء العالم. والمذهب المزدكي الذي دعا إلى الشيوعية في الأموال والنساء..

بينما الإسلام جاء من أجل إيجاد التوازن بين الفرد والمجتمع، لذلك فهو يضم تعاليم شخصية واجتماعية.. وحينما ننظر إلى جسد الإنسان نجده يعتمد في حياته الطبيعية على التوازن بين حركتي الشهيق والزفير، وكذلك تركيب الإنسان المعنوي. إذ هناك توازن بين القلب والعقل أو الفكر والشعور.. وفي الدائرة التشريعية نجد التوازن بين النقل والعقل، والشهود والغيب، والمسؤولية والواجب، إذ لا تكليف بلا مسؤولية. وحقوق الفرد وحقوق المجتمع، فحقوق الإنسان الفرد مرتبطة بحقوق الغير وحق الله عز وجل، وعلى هذا لا يحق للإنسان الفرد، أن يسقط حقه، إذا كان لله فيه نصيب (إذا جاز التعبير) من قبيل حق الحياة.. فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه أو يبتر عضوا من أعضاء جسده من دون سبب وعلة مشروعة، فالإسلام لا ينظر إلى الإنسان الفرد، بوصفه كيانا مستقلا ومنعزلا عن المجموع. وإنما يعتبر الفرد وحقوقه في إطار وحدة إنسانية تعيش بشكل مشترك.

فالإسلام بنظامه الداخلي، وأصوله العامة، ومفاهيمه المختلفة، يؤكد على مسألة التوازن، ويعتبرها متوفرة في كل قيمة إسلامية.

من هنا فإننا في نظراتنا ومواقفنا من الأمور والقضايا المتنوعة، ينبغي ألا نحيد عن هذه القيمة العليا في الإسلام. فلا ننظر إلى القضايا التي نحبها وكأنها الخير المطلق، ونفقد بذلك مقومات النظرة المتزنة للأمور. كما أننا حينما ننظر إلى مسألة أو أمر نكرهه، ينبغي أن ننظر إليه برفق واتزان. لأن تلك الكراهية ليست من الثوابت التي لا يمكن أن تزول. وإنما قد تتوفر العوامل الذاتية والموضوعية التي تنهي تلك الكراهية.

إننا مطالبون دائما في علاقتنا الاجتماعية وأعمالنا التجارية، وأنشطتنا الثقافية وممارساتنا الفكرية، بأن ننظر إلى كل هذه الأمور بمنظار التوازن الذي لا يلغي حسنة أو يتجاهل سيئة.. وإنما ينظر بالمنظار المتوازن المتكامل، الذي يتلمس مواقع القوة، دون إغفال نقاط الضعف. ولعل في المأثور العربي القائل (احبب صديقك هونا ما، عسى أن يكون عدوك يوما ما. وابغض عدوك هونا ما، عسى أن يكون صديقك يوما ما) إشارة إلى ذلك. والاتزان على المستويين النظري والعملي تجاه القضايا والأمور، يتحقق عن طريق المعرفة الدقيقة والتفصيلية للمسألة المنظورة. لأن الكثير من الأسباب والعوامل، التي تؤدي إلى غياب الاتزان في النظر إلى الأمور والقضايا، بالإمكان اختزالها في غياب العلم التفصيلي والدقيق.

فالمعرفة المنقوصة، تؤدي إلى رؤية أو موقف بعيد بشكل أو بآخر عن الصحة ومتطلبات الموقف السليم. أما الموقف المتكئ على المعرفة الدقيقة، فإنه يؤدي إلى موقف منسجم وطبيعة القضية المنظور إليها، أو المتخذ تجاهها موقفا. وثمة مسألة أساسية من الضروري ذكرها في هذا المجال، وهي أن عودة الاتزان إلى العالمين العربي والإسلامي في النظر إلى التاريخ والذات والآخرين، وتقويم الأمور وتحديد المواقف، وتعيين الأولويات، سيوفر للأمة جمعاء الكثير من الطاقات والقدرات التي تذهب سدى، من جراء غياب الاتزان في الساحتين العربية والإسلامية. فالدقة في التقويم، والاتزان في النظر إلى الذات ومكوناتها، والآخر ومكوناته، تعتني المزيد من تعبئة الطاقات في سبيل البناء والتطوير.

وحينما نقرر أن الدين الإسلامي، هو دين التوازن والاعتدال، هذا لا يعني الجمود والتكلس، وإنما نحن نقول إن الإسلام هو عبارة عن منظومة مفاهيمية وقيمية متكاملة، لا يمكن أن تتناقض مع بعضها، فهي منظومة متكاملة ومتوازنة، وجاءت من أجل خدمة الإنسان وصيانة حقوقه ومكاسبه. وكل تشريعاته وأنظمته، منسجمة ومتناغمة وهذه الحقيقة.

فلا تناقض بين مفاهيم الإسلام وأنظمته، فجميعها جاءت في سياق معرفي وقيمي متكامل. فلا يمكننا فهم حقيقة الإسلام بعيدا عن هذه الرؤية التي لا تجزئ الإسلام، ولا تتعامل معه بوصفه صناعة بشرية. بل هو دين الباري عز وجل، وهو جل وعلا الذي صاغ مبادئه، لذلك جاءت جميعها متسقة ومنسجمة ومتكاملة.

اضف تعليق