جيل هذا الزمان يقرأ التاريخ والدين والذات والهوية من زاوية غير الزاوية التي قرأناها، رغم ما يقال عن تصلب ثقافي وجمود فكري، فهذه تصدق على الاجيال التي هي غير جيل Z وجيل الفا، ولذلك لا عجب حينما نجد مشاعر أقل اكتراثا مقارنة بمشاعرنا حيال ما يجري في غزة ولبنان...
يشتكي الكثير من الباحثين والاكاديميين من الصعوبات، التي تواجههم في محاولة فهم اتجاهات الجيل الجديد سياسيا وهوياتيا وقياسها وتصنيفها. موضع الشكوى يتحدد عمليا في ان هذا الجيل لم يعد يفكر ويندفع في سلوكه، وفقا لسرديات الاجيال التي سبقته، والتي كان يغلب عليها المضمون الايديولوجي، اسلامويا أو قومويا أو أمميا أو ليبرالويا.
كان سهلا على الباحثين في ما سبق إجراء مقابلات مع مجموعة من الشباب أو توجيه استبانات وفق مقياس معين مستندا إلى نظرية تفسيرية، ليقول إنه اختار عينة تمثل مجتمع البحث، كانت التنشئة الاجتماعية والخطابات الرسمية والايديولوجيات المبثوثة في ثنايا المجتمع -ايا كان شكل ومضمون هذه الايديولوجية- تسهم اسهاما فاعلا في تشكيل ثقافة وعقل وهوية واتجاهات الشباب، وكانت (القضايا الكبرى) تستقطب الاهتمام وتحتل أولوية التفكير على المستوى السياسي، شأنها شأن القضايا الاجتماعية والشخصية. جيل اليوم المسمى بجيل Z(مواليد منتصف التسعينيات، والجيل الذي يليه جيل الفا)، بنى ثقافته وحدد خياراته، أو لنقل إنه تم تحديد خياراته واتجاهاته.
وفقا لعالم ومسار آخر غير مسار الأسرة والمجتمع الكبير والدين والوطن، ثقافة هذا الجيل شكّلها عصر الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، والآن الذكاء الصناعي، هي ثقافة تختلف إلى حد كبير عن ثقافة أسلافه. أسلافه تشكلت ثقافتهم واتجاهاتهم من منظور الدين والوطن والقومية. الدين الذي ينظر إلى الآخر من منظار الإيمان وعدم الايمان. الدين الصحيح والدين المحرف. الصراط المستقيم وفقا للطائفة أو المذهب أو الملة. الاستقلال والاستعمار، حرية الوطن وحرية الشعب. التاريخ المضيء والحاضر المأزوم.
الأهداف الكبرى في التقدم والوحدة القومية أو الوطنية. إلى آخر هذه الطموحات، حتى في العلاقات الخارجية، كانت الأجيال تصنف الآخر الدولي من زاوية القرب والبعد من القضايا الكبرى، فيصبح هذا قريباً وذاك بعيدا، وفي الجملة هناك معايير ومسطرة تبدو فيها القضايا منظورا إليها من زوايا الحق التاريخي كما صاغته السردية السياسية والدينية والقومية، وهي في الغالب تأتي متساوقة مع الخطاب السلطوي، ومناهج التعليم الرسمي والثقافة العملية التي تطبخ في المطبخ الوطني.
حاليا صارت قضايا الدين والوطن والهوية والحرية والتاريخ والسياسة والسلطة، تتشكل في اذهان الجيل من دون المرجعيات السابقة، أي دون الصياغة المسبقة التي كان يمثلها رجل الدين، وصاحب المعرفة المرجعية في الحقول المشار إليها آنفا، مرجعيات هذا الجيل ما يقرأه في محركات البحث، وما يجد من نظريات وأفكار وصور وممارسات وتجارب يعج بها عالم الانترنيت. أفراد هذا الجيل لم يتشبع وعيه السياسي بخيالاتنا عن ثورة العشرين، وما بعدها ومعارك الشعيبة ونكساتها.
هذا الجيل لا يعرف عن جعفر ابو التمن ولا كامل الجادرجي، ولا عن صراعات السياسيين وقاموس الوطنية والعمالة التي كان يصنف العراقيين. هذا القاموس لم يعد موجودا رغم جهود يبذلها البعض لترسيخ السرديات السابقة، ما كان يعرفه ويثمنه اجيال الدولة الوطنية منذ العهد الملكي والجمهوري الأول والبعثي، وما كانوا يكرهونه وينبذونه ليس هو العمود الفقري للثقافة السياسية لهذا الجيل، الرؤية الدينية والشرعية منها على وجه الخصوص ليس ما يشغل ذهن هذا الجيل.
بل مفاهيم دينية عامة يتأولها هذا الجيل، ويأخذ بتفسيراتها من مصادر مفتوحة غير مؤطرة هي مصادر النت والشبكة العنكبوتية، اكثر من ذلك يبدو هذا الجيل متمردا على أصول وثقافة وكليشيهيات الاباء، لديه صور تاريخية عن ايام الجوع والحصار والقمع السلطوي لا يكاد يصدقها، ولا يجد نفسه مهتما بالشعار القومي والحماسة المدرسية للعروبة (بلاد العرب أوطاني..)، جيل هذا الزمان يقرأ التاريخ والدين والذات والهوية من زاوية غير الزاوية التي قرأناها، رغم ما يقال عن تصلب ثقافي وجمود فكري، فهذه تصدق على الاجيال التي هي غير جيل Z وجيل الفا.
ولذلك لا عجب حينما نجد مشاعر أقل اكتراثا مقارنة بمشاعرنا حيال ما يجري في غزة ولبنان التي نقرأها نحن بوصفها حروبا انتجتها المبادئ والقيم وحسابات الصراع والحرب ضد الاستعمار والاستكبار والصهيونية. الجيل الجديد في طريقه إلى التفلت من كل الإملاءات والتنميطات، التي قيدت منظوراتنا إزاء الذات والآخر، نحن فهمنا ذواتنا والعالم المحيط بنا وفقا لمرجعية فكرية وثقافية ودينية وسياسية قد لا يتشاركها معنا الجيل الراهن، فاختلفت دوافعه وشعاراته ورؤاه.
وهي بجملتها لا تتطابق بل تتغاير مع ما نفكر فيه وننفعل من اجله، من يسعى إلى قولبة هذا الجيل ويتحرق لإشراكه وتعبئته في معاركنا وقضايانا عليه أن يفهم ما يفكر به هذا الجيل، ويفهم مصادر المعرفة والتنشئة التي يعيشها ويعتمدها، وهي أكبر من أن تحيط بها أدواتنا ومعاييرنا، التي تأخرنا في تجديدها وعقلنتها وتطويرها لتلائم اجيالنا التي تنتمي الينا بيولوجياً وتختلف معنا ربما بأشياء وقضايا كثيرة ومنها ما نعدها قضايا مصيرية ويعدها هذا الجيل ليست كذلك، بل قضاياه المصيرية شيء آخر وأولويات أخرى.
اضف تعليق