فاذا علمنا أن أميركا هي الحبل السري للكيان الصهيوني، وتذكرنا التاريخ الذي يخبرنا أن أحد أهم أسباب اندحار الصليبيين في حملتهم في فلسطين كان تقلص أو هبوط الدعم الغربي لهم كما أوضحت ذلك في مقدمة المقال، فهمنا مغزى هذه الأرقام ودلالاتها، لقد أنفقت أمريكا 22.76 مليار دولار لدعم إسرائيل في عدوانها الحالي...
"الماضي هو نظام أنذار مبكر متفوق" نورمان كوزنزNorman Cousins
في عام 1099 أحتُلت القدس وثلاث مناطق أخرى(أنطاكيه، والرها أو البقاع وطرابلس) تحت شعار ديني فيما عُرف تاريخياً بالحرب الصليبية. وفي عام 1948 أحتُلت القدس مرة أخرى(غربيها على الأقل) تحت شعارٍ دينيٍ أيضاً. وفي كلتا المرتين كان الدعم الغربي غير المحدود هو السبب الرئيس في إقامة دولة الاحتلال (الدينية) واستمرارها.
لقد كان لانقسام الدول الغربية بعد أنشاء دويلاتها المحتلة في فلسطين ولبنان في الحملة الصليبية الأولى، فضلاً عن عوامل مهمة أخرى، دوراً كبيراً في تحرير القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي في عام 1148. فقد أدى انشغال تلك الدول بمشاكلها الداخلية وبخاصة الاقتصادية الى تقليل الاهتمام والدعم للمالك الأربعة المحتلة وعلى رأسها القدس مما سهل للجيش الإسلامي القضاء على الجيشين الألماني والفرنسي اللذين أُرسلا في الحملة الصليبية الثانية آنذاك للدفاع عن مملكة القدس. ومن يهتم بالرأي العام في الدول الغربية، وأمريكا تحديداً يمكنه تلمس التغيير الكبير تجاه دعم «إسرائيل» بخاصة بين الشباب هناك، بعد المجازر الكبيرة وحملة التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي ترتكب الآن في فلسطين ولبنان.
كبار السن
ان السبب الرئيس (المعلن) للدعم الغربي لإسرائيل هو المحرقة التي تعرض لها اليهود على يد هتلر. لكن بعد ثمانين عاماً على تلك المحرقة لا يبدو أن الكثير من الشباب في الغرب يتذكرها جيداً. لذلك فحين أجرت محطة CNN استطلاعاً للرأي في عام 2018 شمل 7000 شخصاً في سبع دول أوربية عن تفضيلهم لدولة إسرائيل أو فلسطين كان هناك انقسام واضح بحسب عمر المستجيبين حيث فضل كبار السن إسرائيل في حين أن نسبة كبيرة من الشباب أما أجابوا بلا أعلم أو أنهم فضلوا فلسطين. وفي استطلاع آخر شمل 1000 أوربي في عدة دول ونشرته البولتبكو Politico في عام 2021 أفاد 41 بالمئة فقط (معظمهم من كبار السن) بمسؤولية أوربا عن المحرقة اليهودية. هذا يعني أن أحدى أهم الحجج التي تأسست عليها دولة إسرائيل لم تعد صالحة كثيراً للدفاع عن هذا الكيان المحتل.
في مقابل ذلك فأن المحرقة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين واللبنانيين يومياً ومنذ أكثر من سنة حاضرة وحية على كل وسائل الأعلام بخاصة مواقع التواصل. هذا ما قد يفسر الى حد كبير لماذا أن غالبية المواطنين في 5 دول أوربية مهمة (المانيا، فرنسا، بلجيكا، أيطاليا والسويد) تؤيد حظر على تزويد السلاح لإسرائيل بحسب استطلاع يوجوف Yougov قبل بضعة أشهر.
نفس الاستطلاع أشار الى أن حوالي نصف السكان في إيطاليا وبلجيكا والسويد، وحوالي ثلثهم في المانيا وفرنسا يعتقدون أن إسرائيل ترتكب جريمة أبادة جماعية في غزة. بنفس الاتجاه أظهر استطلاع في 43 دولة في العالم نشرته التايم Time في بداية هذه السنة أن التأييد لإسرائيل قد هبط بشكل ملحوظ وكبير(حوالي 20 نقطة) في 42 دولة. ولم تبدِ أي دولة منها نظرة إيجابية لإسرائيل عدا أمريكا التي شهدت هي الأخرى هبوط في مستوى النظرة الإيجابية لها.
انعاش اصطناعي
حتى في أمريكا، الداعم القوي لإسرائيل والذي لا يستطيع الكيان الصهيوني العيش أذا رفع البيت الأبيض أجهزة الإنعاش الاصطناعي عنه، فقد شهدت السنة الماضية أتجاهاً عاماً واضحاً، بخاصة بين الشباب نحو تأييد الفلسطينيين على حساب الإسرائيليين. فبعد أسبوع واحد من 7 أكتوبر 2023 أظهر استطلاع نشرته الفوكس نيوز أن 68 بالمئة من الأمريكان متعاطفين مع الإسرائيليين مقابل 18 بالمئة مع الفلسطينيين. بعد سنة من ذلك التاريخ هبطت نسبة من يتعاطفون مع الإسرائيليين الى 25بالمئة مقابل 15 بالمئة مع الفلسطينيين.
في حين أن 49 بالمئة من الأمريكان باتوا يتعاطفون مع الأثنَين بحسب معهد بيرسون Person Institute .لا بل أن من يلقون اللوم على إسرائيل في أشعلا الحرب باتت (75 بالمئة) وهي مساوية تقريباً لمن يلقون اللوم على حماس (76 بالمئة)، وأعلى ممن يلقون اللوم على أيران(73 بالمئة) بحسب نفس الاستطلاع.
أكثر من ذلك فقد ارتفعت نسبة الأمريكان الذين يؤيدون قيام دولة فلسطينية مستقلة من 22-29 بالمئة خلال سنة واحدة، وصارت نسبة الأمريكان الذين يعتقدون أن حكومتهم لا تساعد الفلسطينيين كفاية أكبر من نسبة من يقولون منهم أنها لا تساعد الإسرائيليين كفاية( 35 بالمئة مقابل 3 بالمئة!).
لقد كان لافتاً في جميع هذه الأرقام أن الشباب(قادة المستقبل) في أميركا هم أكثر المؤيدين للفلسطينيين وغي المتعاطفين مع إسرائيل.
فبحسب مؤسسة بيو PEW للأبحاث فأن 60% من الأمريكان الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة يتعاطفون مع الفلسطينيين، مقابل 46% من نفس الفئة العمرية ممن يتعاطفون مع الإسرائيليين! تكشف هذه الأرقام عن تحول كبير، وليس بسيط في فهم الأمريكان للقضية الفلسطينية وتأييدهم لها، فضلاً عن رفضهم للمجازر الصهيونية في غزة.
فاذا علمنا أن أميركا هي الحبل السري للكيان الصهيوني، وتذكرنا التاريخ الذي يخبرنا أن أحد أهم أسباب اندحار الصليبيين في حملتهم في فلسطين كان تقلص أو هبوط الدعم الغربي لهم كما أوضحت ذلك في مقدمة المقال، فهمنا مغزى هذه الأرقام ودلالاتها.
لقد أنفقت أمريكا 22.76 مليار دولار لدعم إسرائيل في عدوانها الحالي بحسب صحيفة The Hil، هذا فضلاً عن 110 مليون دولار مساعدات ألمانية في هذه السنة فقط ،ومئات الملايين التي حصلت عليها من دول الغرب الأخرى، بخاصة بريطانيا وفرنسا. فاذا علمنا أن تقديرات كل كلف إسرائيل في هذه الحرب بلغت 60 مليار دولار للآن فهذا يعني أن أميركا والغرب تحمّل حوالي 40% من كلفة الحرب وهو ما يؤكد فرضية هذا المقال بأن أسرائيل لا يمكنها أن تحيا بدون الدعم الغربي الذي بات يتقلص يومياً الى مستويات غير معهودة سابقاً. واضح تماماً أن الكلف الآنية المباشرة التي يتكبدها الفلسطينيون واللبنانيون هائلة ومريعة وتعبر عن أجرام صهيوني لا متناهي، لكن على المدى المتوسط والبعيد فأن إسرائيل لا يمكنها الإ أن تعترف بحقوق الفلسطينيين ودولتهم المستقلة.
اضف تعليق