واحدة من أصعب المواقف التي يواجهها الباحثون الصادقون هي اختلاف حقائق ووقائع الميدان عما يتمنونه أو يريدونه. فإما الكذب وتزييف الحقائق، وإما الصدق والتهيؤ للوقائع في المواجهة الحالية مع الكيان الغاصب، هناك أمنيات أتمناها كعربي طالما آمن بعدالة قضية فلسطين وأجرام الصهاينة. لكن هناك معطيات يجب أن أتعامل معها بموضوعية الباحث...
واحدة من أصعب المواقف التي يواجهها الباحثون (الصادقون) هي اختلاف حقائق ووقائع الميدان عما يتمنونه أو يريدونه. فإما الكذب وتزييف الحقائق، وإما الصدق والتهيؤ للوقائع في المواجهة الحالية مع الكيان الغاصب، هناك أمنيات أتمناها كعربي طالما آمن بعدالة قضية فلسطين وأجرام الصهاينة. لكن هناك معطيات يجب أن أتعامل معها بموضوعية الباحث أذا تحريت الصدق وأردت عدم توريط من أحب بشعارات وبيانات كتلك التي فبركها أحمد سعيد في نكسة حزيران، أو الصحاف عند احتلال بغداد.
جرائم وحشية
على الرغم من الجرائم الوحشية التي أرتكبها الكيان الغاصب في غزة، وكل التدمير الممنهج الذي مارسه هناك، لكنه لا يستطيع أدّعاء نصر حاسم لأنه وضع هدفين لم يتحققا للآن. الأول هو تدمير حماس، والثاني هو تحرير رهائنه.
صحيح أن الكلفة الإنسانية الفلسطينية كانت هائلة وغير مسبوقة، ولم تحسن حماس تقديرها، لكن الصحيح أيضاً أن الكلفة (الإسرائيلية) الاستراتيجية كانت غير مسبوقة وستظهر بشكل أوضح مستقبلاً، سواءً على الصعيد الداخلي أو الصعيد العالمي، وهو ما يمثل أكبر الخسائر الاستراتيجية للعدو باعتقادي. وربما كان أدراك «نتن ياهو» وقياداته لهذه الحقيقة هو ما دفعهم لفتح جبهة جنوب لبنان ليس لتعويض خسائرهم العسكرية، بل لتعويض خسائرهم الاستراتيجية واستبدالها بنصر أوضح داخلياً وخارجياً، و(ربما) بكلفة أقل. فما الذي دفع (إسرائيل) لهذا الاعتقاد؟
1.على الرغم من حرص حزب الله ومحور المقاومة على دعم حماس في مواجهتها مع العدو، الا أن من الواضح أن هناك أرادة بحصر التصعيد العسكري ضمن نطاق محدود لا يؤدي لحرب شاملة. ولاختبار هذه الفرضية قام الصهاينة بالإيغال بالدم الفلسطيني واغتيال كثير من القيادات والناشطين والصحفيين هناك. ثم انتقلوا لاغتيال قيادات لبنانية وفلسطينية في لبنان، واغتالوا قيادات إيرانية في سوريا، بل ودمروا القنصلية الإيرانية هناك، ثم أخيراً اغتالوا هنية في طهران. في مقابل كل ذلك رفع محور المقاومة شعار» الصبر الاستراتيجي» أو «الرد المحسوب»، وهما شعاران تمت ترجمتهما للقيادات المتطرفة هناك بعدم الرغبة في القتال، والاستمرار بتحمل الخسائر.
2.أذا كان القضاء على حماس في غزة يتطلب حرب عصابات وشوارع، مكلفة ويصعب حسمها عسكرياً، فأن القضاء على حزب الله أو تدمير قدراته مع بقية مكونات المحور، ممكنة بدون خوض حرب برية واعتماداً على (السيادة الجوية) التي تمتلكها «إسرائيل» فضلاً عن التفوق التكنولوجي والاستخباري الذي ظهر جلياً خلال الأسابيع الماضية. حرب مثل هذه لن تكون مكلفة (لإسرائيل) على الصعيد الداخلي.
3.أذا كان يصعب تبرير الكلفة الإنسانية وجرائم التطهير العرقي التي يرتكبها الصهاينة وجلبت غضب كل المجتمع الدولي في غزة، فأن تبرير قصف لبنان وسوريا والعراق وإيران سيكون أسهل، تحت شعار التخلص من محور الشر الذي عرضه النتن ياهو في الأمم المتحدة.
وخلال الأسبوعَين الماضيين لم نسمع أو نشاهد أدانات رسمية أو شعبية قوية تدين العدوان الصهيوني على لبنان، حتى من أقوى حلفاء المحور، أقصد الصين وروسيا. فالصين أكتفت بإدانة هجوم إسرائيل على بعثة اليونفيل والتعبير عن «قلقها» مما يحصل في لبنان، في حين أكتفت روسيا ببيان خجول على لسان الناطق باسم الخارجية الروسية.
وفي الوقت الذي يركز فيه الأعلام العالمي على المأساة الإنسانية في غزة، فأنه يركز على عدد صواريخ حزب الله وقدراته العسكرية، ومدى دعم أيران وترسانتها العسكرية له!! وفي خضم المأساة الإنسانية الكبرى والخسائر البشرية الفادحة في لبنان وتهجير أكثر من مليون لبناني في غضون أيام قليلة فأن الأعلام العالمي كله مشغول بالرد الإسرائيلي (الشرعي)على أيران !! وعلى الرغم من الضربة الكبيرة التي راح نتيجة لها أطفال ومدنيين كضحايا لتفجير أجهزة (البيجر) الا أن الجميع ترك المسألة الإنسانية وأنشغل بالخرق الاستخباراتي الكبير لحزب الله. وفي الوقت الذي يعرف كل العالم أن آلة الدمار الصهيونية قد حصدت بحدود 45 الف فلسطيني.
قدرات عسكرية
فأن غالبية الأعلام والناس في كل أنحاء العالم يجهلون أين وصل عداد الموت في لبنان! باختصار، فأن سردية الحرب في غزة إنسانية، في حين أن سرديتها في لبنان «دفاعية»! وهذا فخ وقع فيه حتى أعلام المقاومة الذي يركز على المعارك والقدرات العسكرية أكثر من تركيزه على المأساة الإنسانية.
4.أن مهاجمة لبنان وإيران، ومحور المقاومة، سيضمن حرف وتشتيت الانتباه عن الحرب في غزة وما تسببه من كلف إنسانية هائلة تفاعل كل العالم معها وأدانها.
وفعلاً فقد أنزوت مأساة غزة لتصبح أولوية ثانية أو حتى غائبة. وبذلك خففت «إسرائيل» كثيراً من الضغط الدولي عليها والذي جعلها ترفض منح سمة دخول للأمين العام للأمم المتحدة!
أذا كانت غزة أرضاً فلسطينية لا يعيش عليها أي (إسرائيلي) فأن هناك 100 ألف (مواطن إسرائيلي) تم تهجيرهم من مستعمرات شمال (إسرائيل) بسبب تهديد حزب الله. بالتالي فأن ضرب وتحجيم حزب الله سيمثل نصراً داخلياً كبيراً للنتن ياهو. واذا كانت هناك كثير من الأصوات الإسرائيلية الوازنة داخل (إسرائيل) وحتى في أميركا والغرب تطالب بوقف العدوان في غزة فأن هناك شبه أجماع على شرعية شن حرب ضد حزب الله وإيران ومحور المقاومة واستثمار هذه الفرصة للقضاء عليه.
كل هذه الأسباب تجعل من وقف العدوان الصهيوني على لبنان مستبعداً. وهي ذات الأسباب التي تجعل توقع عدم مهاجمة إسرائيل لإيران وبقية محور المقاومة، وهماً. للأسف فأن العدوان الصهيوني على لبنان سيستمر وستزداد كثيراً كلفه البشرية والاقتصادية، بل و (الاجتماعية) وهي الأهم في رأيي.
أما بالنسبة لإيران فهي تمثل التهديد الوجودي الأخطر لإسرائيل ليس بسبب قنبلتها النووية المحتملة فحسب، بل بسبب قوتها الايدلوجية التي تم توظيفها (بذكاء) لأنشاء أذرع عسكرية فصائلية على امتداد ما بات يسمى «الهلال الشيعي». هذه الفصائل لها دوران رئيسان في استراتيجية أيران في المنطقة.
الدور الأول (ردعي) والثاني(وقعي). فهذه الفصائل تمثل خط الدفاع والصد الأول عن أيران في مواجهة أي هجوم عليها. كما أنها أداة فعالة لزيادة نفوذ ووقع السياسة الإيرانية في المنطقة. هذان الدوران يحجمان من نفوذ أمريكا والغرب في المنطقة، فضلاً عن تهديدهما لحلفاء أمريكا فيها، وهم حلفاء مهمين جداً ليس للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة حسب، بل لكل الاقتصاد والتجارة العالميَين.
هنا أشير مثلاً الى أن الصين (وهي حليف مقرب من أيران) فضلاً عن كل دول شرق آسيا تأثروا كثيراً بهجمات الحوثيين على السفن المارة من قناة السويس للمحيط الهندي عبر البحر الأحمر وبالعكس مما يجعلهم(على الأقل) يغضون الطرف عن أي هجوم (إسرائيلي) على أيران وحلفائها.
من هنا تبدو الفرصة سانحة (دولياً وداخلياً) للكيان لمهاجمة أيران وهو ما سيقوم به بلا شك خلال الأيام، ربما الساعات القادمة. يبقى السؤال ما الذي ستتم مهاجمته في هذه المرحلة من قبل (إسرائيل)؟ أغلب الظن فأنه لن تتم مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية في الهجوم المقبل وسيتم تأجيل ذلك لمرحلة لاحقة بحسب تطورات الموقف. أما بالنسبة للمنشآت الاقتصادية النفطية فقد تم توجيه ضربة كبرى لها يوم أمس من خلال العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي استهدفت ما يسمى بالأسطول (الشبح )، وهو أسطول البواخر التي تنقل النفط الإيراني المهرب خارج العقوبات الأميركية.
وبالتالي سيكون من الصعب جداً بعد الآن استمرار أيران بتهريب نفطها وبيعه في الأسواق العالمية متجاوزةً العقوبات الأمريكية كما كانت تفعل سابقاً. فخلال الإدارة الديموقراطية الحالية للبيت الأبيض كان هناك غض نظر عن تهريب النفط الإيراني مقابل تفاهمات (ضمنية أو صريحة) أمريكية-إيرانية بخصوص الأوضاع في المنطقة عموماً والملف النووي خصوصاً.
أما بعد تصعيد الموقف العسكري (الإسرائيلي)- الإيراني الحالي ومحاولة أمريكا احتواء ذلك التصعيد وتخفيفه، فيبدو أن المكالمة الأخيرة بين نتنياهو وبايدن تضمنت عدم مهاجمة إسرائيل للمنشآت النفطية الإيرانية مقابل تشديد العقوبات النفطية الأميركية على ايران. فبايدن وأدارته يهمهما عدم استفزاز أيران بشدة كي لا ترد بقوة وتندلع حرب شاملة، بخاصة وأن هناك أسابيع فقط تفصلنا عن الانتخابات الأمريكية. لذا فأن الهجوم الإسرائيلي سيقتصر(غالباً) على هجمات عنيفة وقوية على المواقع العسكرية الإيرانية الحيوية (منظومات الدفاع الجوي، ومنشآت الصواريخ، والمسيرات ومصانعها) فضلاً عن ضرب أذرع أيران في المنطقة. وستحتفظ (إسرائيل) بضرب المنشآت النووية الإيرانية لمرحلة لاحقة من التصعيد اعتمادا على طبيعة الرد الإيراني من جهة، وتطورات الموقف في لبنان والمنطقة من جهة أخرى.
اضف تعليق