التطورات السياسية والأمنية في لبنان وفلسطين تذكرنا بالقصور الثقافي العربي بشكل عام مع "القضية العراقية" في سني السبعينات والثمانينات والتسعينات عندما حظي نظام صدام بشرعية ثقافية وفكرية، الى جانب شرعيته الدولية- الغربية، على أنه الخيار الأفضل للحكم في العراق...
ربما الأجواء الساخنة في لبنان هي التي دفعتني لأن أكرر الحديث عن الثقافة، بعد المقال السابق تحت عنوان: "هل يمكن فصل الثقافة عن الدين"، وهذه المرة عن علاقتها بالسياسة في ضوء التطورات الأمنية الخطيرة والمتلاحقة متمثلة بالهجمات الإسرائيلية لما هو "خلف سواتر حزب الله"، بتفجير آلاف من أجهزة الاتصال "البيجر" في وقت واحد كانت معظمها في جيوب افراد الحزب، وبعد يومين؛ تنفيذ هجوم صاروخي دقيق وفق معلومات استخبارية استهدف مكان اجتماع سرّي لقادة المقاومة الإسلامية في بيروت مما كلف حزب الله عشرات الشهداء ومئات الجرحى في معركة مباغتة غير تقليدية.
أمام هذا المشهد الدموي ما عسى يكون موقف المثقف العربي والعراقي تحديداً ممن فقد أطرافه، أو بصره، أو احترق بدنه، او فقد حياته وهو يحمل هوية ثقافية وعمق تاريخي وحضاري يدعمه في معركته مع العدو؟ فهو قبل أن يكون سياسياً مع حزب الله، وعسكرياً مع المقاومة، كان مثقفاً برفض الظلم والعدوان والبغي والفساد، إنما ظلم الساسة وعدوانهم وبغيهم اضطره لحمل السلاح، ولا أخال أن الاخوة المثقفين يجهلون تجارب مماثلة في بقاع مختلفة من العالم خاض فيها خريجو الجامعات ومثقفون القتال في الادغال والوديان ضد من انتهك حقوقهم أو احتل أرضهم، ولعل أبرزهم الثائر الارجنتيني؛ جيفارا الذي ترك مهنة الطب وحياة الدعة، وراح يقاتل الأنظمة العميلة لأميركا في اميركا الجنوبية وكانت نهايته في غابات بوليفيا، وليس من الصعب التمييز بين هؤلاء، وبين العصابات المسلحة، والجماعات الإرهابية ومن هم "بندقية للايجار".
ومن الطبيعي حصول أخطاء في معركة غير متكافئة تُراق فيها الدماء مع خسائر مادية متوقعة، وربما لو كان الركون الى أجواء القلم والفكر والثقافة في مكاتب هادئة ومؤثثة تساعد على التأمل، لما كنا نشهد ترمّل هذه المرأة الشابة، او يتم ذاك الطفل، وخسائر مادية فادحة، كما يخال البعض، وحتى لا ننسى أن قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية التي يقاتل من أجلها الثوار والمقاومون اليوم، كانت طيلة عقود وقرون من الزمن في بطون الكتب، ثم تحولت الى دراسات وبحوث على يد مفكرين ومصلحين على أمل التطبيق العملي لإصلاح ما أفسده الحكام مع الاقتصاد ما أمكن في الدماء.
لنقل انه نوعاً من الجهاد الكفائي في أوساط المثقفين، وكل من يحمل الفكرة والقدرة على التعبير عن هذه الفكرة، من علماء وخطباء وأدباء وأكاديميين ومتعلمين، فأنا امتلك مستوى من الوعي بفضل المتابعات والمطالعات، مع شيء من القدرة على التعبير عما أحمله من أفكار ومبادئ وقيم، يفترض بي أن اصطف في الجبهة الخلفية للمقاومين، لا أن أكون وجهاً لوجه أمامهم بدعوى النصح والإرشاد.
بلى؛ لابد من النصح والإرشاد لما فيه تعزيز القوى وسد الثغرات، ولكن ليس للقدح والإلغاء، كما سقط في هذا الخطأ المثقفون العرب مع الشعب العراقي المضطهد من قبل نظام صدام عندما انتفض ضده عام 1991 وتمنّى الجميع سقوطه والتخلص منه، فجاء الموقف من كاتب وصحفي معروف في افتتاحية صحيفته بأن "الأجدر بالشعب العراقي مقاتلة الاميركيين –خلال حرب تحرير الكويت- الموجودين على الأراضي العراقية، قبل التفكير في مقاتلة نظام الحكم في بغداد"! ثم تكرر نفس الخطأ في الحرب الأميركية الثانية على العراق عام 2003 عندما شهدنا ظهور علائم اللوثة الفكرية في أذهان البعض، وهذه المرة من على الفضائيات العربية وهي تصفق وتطبل لمجاميع عسكرية في منطقة أم قصر جنوب العراق بقيت لوحدها تقاوم الاجتياح العسكري الأميركي، وخرج الشيخ أحمد الكبيسي على الشاشة الصغيرة وهو يهتف: "بيّض الله وجوهكم يا شيعة"! فالمفترض بالشيعة أن يقاتلوا ويقاوموا، ليس وفق ما تعلموه من عاشوراء، وإنما وفق الأطر الفكرية الملونة بالقومية تارةً، وبالطائفية تارة أخرى.
اعتقد أن التطورات السياسية والأمنية في لبنان وفلسطين تذكرنا بالقصور الثقافي العربي بشكل عام مع "القضية العراقية" في سني السبعينات والثمانينات والتسعينات عندما حظي نظام صدام بشرعية ثقافية وفكرية، الى جانب شرعيته الدولية- الغربية، على أنه الخيار الأفضل للحكم في العراق، حتى جاء القرار السياسي الأميركي ليغير؛ ليس فقط الوضع السياسي، وإنما الإطار الفكري السابق في تلكم الاذهان، فلم يتجرأ أحد على الحديث بالضدّ من مشروع التغيير السياسي في العراق عام 2003 إنما انصبّ الحديث على ما بعد هذا التاريخ، وكيف يجب ان تكون الأوضاع في العراق؟ ومن الذي سيقود هذا البلد المحوري اقليمياً وعالمياً.
اضف تعليق