الذاكرة السياسية صناعة واستراتيجية تنميط للأفكار والمشاعر، والذاكرة الموضوعية الحية تهدف إلى صناعة وعي متقدم، يتجاوز التاريخ المشحون بالأخطاء والممارسات المضرة بإدارة المجتمع، لا سيما المجتمع المتعدد، الذي عانى كثيرا من الانقسام والتحيزات وفوضى المواقف ونقص الحكمة...

من المفارقات الكبرى التي تعاني منها الذاكرة المعطوبة أنها لا تمارس الانتقائية والنفعية واستجرار المصلحة خلال عملية التذكر فحسب، بل ثمة عيوب أخرى تكتنف مسيرة هذه الذاكرة، عالم النفس الامريكي من أصل روماني ستانلي شاختر (1922 1997) تحدث عن سبعة أساليب تتمظهر بها هذه التشوهات، منها التلاشي السريع للحدث ( النسيان)، وشرود الذهن، وعدم القدرة على التذكر (عوق التذكر)، والتحيز والعزو الخاطئ، إضافة إلى الاستمرارية (تذكر الاخفاق المفرد ونسيان النجاحات العديدة)، وأخيرا الايحاء وهو قبول الفرد للمعلومات الخاطئة الموحى بها اليه معتقدا أنها دقيقة وصحيحة، خصوصا عندما يفتقد القدرة على التذكر.

هذه التشوهات تحدث لدى أغلب إن لم يكن جميع الأفراد، وخيانة الذاكرة أمر شائع، بمعنى أن الذاكرة تخفق في استحضار المعلومات لأسباب عدة، الأمر الأهم الذي يخص الذاكرة السياسية بالتحديد، هو التحيز والعزو الخاطئ المتعمد، وليس اللاشعوري، فالتحيز عملية قصدية يقوم بها الفرد. 

حينما يستدعي الاحداث والوقائع، التي تدعم حججه ويحاول إسدال الستار على الأخرى، أو المكملة أو نصف الحقيقة الأخر، لأنها لا تنفعه، يتذكر العراقيون أو قل المتحدثون السياسيون والاعلام المرتبط بهم، سوءات وعيوب وموبقات وخطايا التاريخ السياسي للأنظمة والحكام والأشخاص، ويعيبون عليهم أخطاءهم وجنونهم وبداوتهم واستبدادهم. 

لكنهم يتعمدون إغفال السرد المتعلق عن النمط العائلي أو العشائري أو الاعتباطي في ممارسة الحكم والسلطة، فيتم التركيز على عيوب وجرائم وصفات، ويتم السكوت عن عيوب أخرى، فمن ابتلي بتقديم عائلته والأقربين له عشائريا وحزبيا لا يسعه تذكير الناس بجريمة السابقين في احتكار السلطة وتوريثها واستغلالها شخصيا، ومن يمارس السياسة بطريقة بدائية ويقصي أهل الخبرة والدراية والحكمة، ويقدم أهل الهتافات والمهاويل، لا يمكنه ان ينتقد ويدين من سبقوه الذين ساروا على نفس الشاكلة، بل يسعى للبحث عن عيوب فاقعة للآخرين الماضين، ويغطي على تلك الخصائص في شخصياتهم التي يكررها هو ذاته، وهذا هو التحيز في استعمال الذاكرة، أنها السردية المتحيزة، التي تخفي جزءًا من الحقيقة وتسلط الأضواء على الجزء الآخر.

يحصل أحيانا أن يتم استعمال الذاكرة في تبرئة الذات وإدانة الآخر في الأحداث المتماثلة، إذ يدان الشخص الفلاني والزعيم العلاني والسياسي الراحل على سلوكه في الوقت المحدد والمكان المحدد، لأنه اختار موقفا معينا ويدور الزمن وتتكرر الحالة نفسها أو الواقعة، ويرتكب السياسي الخطأ ذاته.

لكن يتم عزو الموقف السابق بطريقة معينة (إدانة ورفض وتبخيس)، ويعزى الموقف ذاته حاليا إلى عوامل وظروف وضرورات وإكراهات، أي أن العزو أخذ صفة خدمة الذات وتشويه الآخر، لا احد يعترف بالخطأ الا لمن امتلك القدرة على الاعتراف والتحدث بصراحة، وهذه مزية لا يفعلها الا الواثقون من انفسهم، المتصالحون مع ذواتهم الذين كانت لديهم قدرة ضبط أو مركز ضبط داخلي ولا يعزون الأمور إلى الخارج دائما.

عندما نتحدث عن حكم وهيمنة عشيرة أو قرية أو منطقة أو فكرة واحدة، ونحن نكرر الأساليب والأخطاء ذاتها، التي ندينها نتجه إلى التركيز على مواصفات واعراض، ونغض الطرف عن الأعراض، التي تفضح حالنا ونسعى إلى تفسير الامور بما يبرئ ساحتنا من العيوب، وهذا هو التذكر المتحيز والعزو الخاطئ، نلاحظ أن هدف الذاكرة العامة (السياسية) هو التذكير الدائم بالحقائق والتعلم من الأخطاء، والتحذير من تكرار الأخطاء ذاتها، وإدارة الأزمات والمشكلات بطريقة مختلفة. 

الذاكرة السياسية صناعة واستراتيجية تنميط للأفكار والمشاعر، والذاكرة الموضوعية الحية تهدف إلى صناعة وعي متقدم، يتجاوز التاريخ المشحون بالأخطاء والممارسات المضرة بإدارة المجتمع، لا سيما المجتمع المتعدد، الذي عانى كثيرا من الانقسام والتحيزات وفوضى المواقف ونقص الحكمة.

يتحدث عراقيون كثر عن مزايا الحكم الملكي وومضات الحكمة والواقعية، التي تحلى بها بعض ساسة وشخصيات تلك الحقبة، ويرد آخرون بالرفض ويدينون تزيين صورة ذلك العهد، ويرونه عملا غير موضوعي، لأن ذلك العهد شابته الخطايا والأخطاء، وأُسِّس لسلوك وأعراف قادت إلى الأسوأ لاحقا، بعد اشتداد لحظات اليأس والقنوط وانسداد الافاق.

كما يتحدث القوميون عن زعماء رفعوا شعار الوحدة القومية، ويدافعون عن تلك الحقبة بعنفوان وأسى، وينسون أن نموذج الدولة القومية التقدمية في المنطقة العربية اقترن بالعنف والاستبداد والقمع والفكرة الواحدة، وهكذا يفعل الاسلاميون مقلدين من سبقهم في تبرئة الذات واتهام الآخر، ووضع الفشل على عاتق الأعداء، حتى بتنا نشهد نسيان مقولات شهيرة، كانت تتردد على الألسن عن الزهد والعدل والترابية والتواضع، واذا ببقايا الجيل الاسلامي الماضي والجيل الحالي، يقبلون على الدنيا من أوسع الابواب، ولم تعد ذاكرة الزهد والتصوف والعدالة والقرب من الناس تحضر في الخطابات اليومية، صار التثقيف يركز على إشغال المحازبين القريبين باللهاث وراء الحصص، لئلا يفوز الآخرون بالغنيمة!، الذاكرة السياسية اليوم صارت قنطرة للتعبئة نحو التعصب والانغلاق.

اضف تعليق