ان الإحساس بالآخر واحترامه يعد ركناً ركيناً في الثقافة اليابانية وهو التفسير المنطقي الرئيس لكثير من سلوكيات اليابانيين وفي مقدمتها الاعتذار، والشكر، والكياسة الاجتماعية التي أشرت لها في مقالي السابق. ومع أن الاهتمام برأي الجماعة وتقديمه على رأي الفرد ومصلحته هو أحد سمات المجتمعات الجماعية...

ظاهرتان اجتماعيتان استرعتا انتباهي ضمن ملاحظاتي الكثيرة في زيارتي الأخيرة لليابان وثقافتها الاجتماعية والتي سأنتهي منها في مقالي اليوم. أنهما احترام الآخر، والإحساس بالمسؤولية، واللذان يتجسدان في أكثر من سلوك اجتماعي وفردي لاحظته هناك. 

ان الإحساس بالآخر واحترامه يعد ركناً ركيناً في الثقافة اليابانية وهو التفسير المنطقي الرئيس لكثير من سلوكيات اليابانيين وفي مقدمتها الاعتذار، والشكر، والكياسة الاجتماعية التي أشرت لها في مقالي السابق. ومع أن الاهتمام برأي الجماعة وتقديمه على رأي الفرد ومصلحته هو أحد سمات المجتمعات الجماعية عموماً (ومنها مجتمعاتنا العربية)، الا أنه يأخذ شكلاً فلسفياً مضافاً في الثقافة اليابانية يتجسد في مفهوم WA والذي يعني الانسجام الاجتماعي والذي هو مقدّم على الرغبات الفردية.

ان أوضح تجلي لهذا المفهوم هو في ثقافة الاعتذار في اليابان. فالفرد الياباني لا يجد أي صعوبة في الاعتراف بالخطأ، وتحمل المسؤولية وتقديم الاعتذار لأنه مبرمج على كون مصلحة الجماعة وسمعتها وكبرياءها هو من يمنحه الكرامة والفخر. 

ان هناك فرق شاسع بين الياباني وسواه في الإجابة على عنوان هذا المقال: هل كان خطأي أم خطؤك؟ فحينما يخطئ الفرد في الغرب-وفي مجتمعاتنا أيضاً- فأن رد الفعل المبرمج والفوري هو أنكار الخطأ، ثم أتخاذ موقف دفاعي غالباً ما يرمي الذنب على الآخر، سواء كان ذلك الآخر صديق، أو حبيب أو عدو، أو شخص آخر، أو مؤامرة دولية أو دينية أو طائفية. 

يحصل كل ذلك حتى قبل أن نفكر برهةً في احتمال أن نكون قد أخطأنا فعلاً! ويحدث ذلك دون التفكير بمدى منطقية أعذارنا، أو بمدى إيلامها للآخر الذي نتهمه بعدم الفهم أو التآمر علينا! باختصار فأننا غالباً ما نتنمر قبل أن نتدبر، وننكر قبل أن نفكر، ونندفع قبل أن ننتفع. 

أما الياباني فأن رد الفعل الفوري والأولي له هو الاعتذار ثم التفكير الداخلي الأوتوماتيكي فيما لو كان هناك خطأ ما تم ارتكابه فعلاً. ان احترام الآخر والثقة به تجعل الياباني يفكر في كل الاحتمالات قبل أن ينفي المسؤولية عن نفسه. كما أن تفكيره بأهمية سمعة المؤسسة التي يعمل بها والجماعة التي ينتمي لها تجعله يتقبل فكرة أن تصحيح الخطأ أهم من سمعته الذاتية. 

ان فكرة الذات الاجتماعية (تسمى Honne باليابانية) فكرة أصيلة للحفاظ على التناغم والوئام الاجتماعي عند الياباني. والحب عنده لا يقتصر على حب الأسرة والأصدقاء فقط بل حب المجتمع والطبيعة ككل. لذا فالاهتمام بمشاعر الآخر وبالانسجام الاجتماعي فكرة أصيلة في الثقافة اليابانية.

سواق التكسي

ذكرتني زيارتي الأولى هذه لليابان بزياراتي الأولى لأميركا في 2004. فقد فاجأني سواق التكسي في أمريكا بطلبهم للبقشيش أضافة لأجرة العداد وهو أمر لم أألفه من قبل. وكانوا يصرخون ويتذمرون، أذا لم أدفع 10-20 بالمئة أضافة لأجرة العداد كبقشيش. والحق أنه في كل دول أوربا والشرق الأوسط التي زرتها توجد مثل هذه العادة على الرغم من أنهم لا يشترطون ذلك أو يفرضونه كما هو الحال في أمريكا عموماً. 

لذا حاولت (كما تعودت) تقديم بقشيش لسائق الأجرة الذي أوصلني من المطار في طوكيو فرفض بكياسة. كذلك كان الحال مع نادل المطعم الذي أصرّ-بشدة هذه المرة-على رفض البقشيش وكأنه يقول لي أنك تهينني ببقشيشك، ولا تكرمني. 

بالنسبة للعامل الياباني فأن أتقان العمل ثقافة أصيلة لا يحتاج معها الى عوض مادي. أن واجبه، الذي يتقاضى عليه أجراً، أن يخدمك بإخلاص بغض النظر عن المقابل الذي يتوقع أن يناله منك. وأن خدمته هذه تنعكس أيجاباً على سمعة المحل والمنشأة التي يعمل بها ويجب أن يخدمها بإخلاص. من هنا تجد أن كل المطاعم اليابانية يتم دفع أجرة الطعام فيها لدى المحاسب عند مدخل المطعم وليس على طاولة الطعام. أن العمل بالنسبة للياباني هو أسلوب حياة، وتعبير عن ذات، وليس مجرد (باب رزق) كما هو سائد في كثير من بلدان العالم ومنها نحن.

أخيراً يجب التنبيه الى حقيقة مهمة سبق أن كررتها في كتاباتي السابقة، وفي برنامج الأخ الأكبر على قناة الشرقية، وهي أن الثقافة الاجتماعية ليست سلعة تشتريها من السوق، بل هي أسلوب حياة ينشأ وينمو ليلائم الظروف الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية التي تواجه شعب ما أو مجموعة ما عبر كل تاريخه. لذلك فأن فكرة أمكانية استيراد أنماط سلوكية ثقافية لشعبٍ ما(كاليابان) لتعمل في بيئة ثقافية مختلفة (كالعراق أو سواه) هي فكرة ساذجة علمياً. لكن المفيد في الموضوع هو التعرف على الكيفية التي استثمرت بها البيئة الثقافية لذلك الشعب لتطوير قدراته وإمكاناته. 

من جهة أخرى، فأن لكل ثقافة اجتماعية، مهما كانت، مزايا معينة كما أنها تحمل معها تبعات وكلف معينة أيضاً. لذا يجب عدم تصور الحياة في اليابان بأنها وردية وأن هذه الأنماط السلوكية التي أشدتُ بها طوال الحلقات السابقة لا يترتب عليها كلف نفسية واجتماعية معينة. 

ويقيني أننا كعرب، مثلاً، سنُعجب بالحياة هناك في أول أسابيع نمضيها، لكن شهر العسل هذا سينقضي لتتكشف لنا كثير من القيود والمعايير الاجتماعية التي لا تلائم ثقافتنا. كما أننا أذا تعمقنا في طبيعة مشاعر اليابانيين تجاه نمطهم الثقافي هذا، فلربما نكتشف أنهم يعانون وينتقدون كثير من المظاهر الاجتماعية بخاصة تلك الناجمة عن صراع الماضي مع الحاضر، وانعكاس متطلبات الحياة الاقتصادية والتكنولوجية والتحديث على شعب يمتاز بتمجيد التراث والتقاليد والتاريخ.

ان الضغوط النفسية والاجتماعية الناجمة عن العصرنة من جهة ونمط الثقافة السائدة في اليابان من جهة أخرى. فطبقاً لآخر أحصاء لحالات الانتحار في اليابان فأن معدل الانتحار بلغ في عام 2023 17.6 شخص لكل 100 ألف نسمة، وهو أعلى من معدلات الانتحار في جميع البلدان الصناعية المتطورة في العالم. 

وطبقاً لمقياس المشاعر السلبية في العالم فقد جاء اليابانيون في المرتبة الخامسة من بين 120 دولة من حيث أكثر الشعوب شعوراً بالحزن. كما كانوا سادس أكثر شعب في العالم من حيث الشعور بالقلق. أن الثقافة الصلبة Tight Culture للشعب الياباني تفرض قيود كبيرة على فردانية الأنسان وحريته، وهذا ما قد يسبب كثير من المشاكل النفسية للفرد.

اضف تعليق