أراد الهرمينوطيقيون بث التمرد على الديانات التي جاءت بها السماء بذريعة أنَ الأنبياء بشر ولابدَّ من صدور الخطأ والخطل منهم ولا يوجد دين كله صحيح. فردَّ السيد الشيرازي على هذه الشبهة بعدم تحديد مفهوم النسبية بقوله: (إنَّ النسبية تختلف باختلاف المعنى المراد منها؛ فإنَّ المعاني المذكورة لها...

توطئة

 الهرمينوطيقا مصطلحٌ لم يكن بِدعاً من الدراسات والبحوث؛ حيث استعمله الباحثون القدامى في البحث للدراسات اللاهوتية الخاصَّة في النصوص المقدَّسة، وإن لم يُعيّنوا المصطلح إلا أنَّه كفكرة كانت مستعملة؛ فهي تُشير الى مجموعة من القواعد التي يتبعها مفسر أو مفكك السُّنن لفهم النص الديني. وإنَّ تاريخ الهرمينوطيقا (النظرية التأويلية) كثيراً ما عانى من مشكلات وتناقضات كثيرة؛ ولذا يتعسر الوصول الى تاريخ واضح وجامع وبيِّنٍ كامل لهذه النظرية لما فيها من مطبات وتعرجات في المسيرة البحثية.

اما نشوئها فمن الممكن أنه تزامن مع دراسة الهنود لكتابهم القديم (الفيدا) أو تفسير الكتاب المقدس (التوراة) في عهده القديم حينما وضع اليهود قوانيناً خاصَّة لفهم وتأويل التوراة، ولكن لا يوجد تاريخ محدد لنشوء هذه النظرية بحسب اطلاعنا.

المعنى الحرفي للهرمينوطيقا

تنوعت المعاني التي تُشير إلى الهرمينوطيقا من زمن إلى آخر ومن عصر الى عصر، ومن باحث الى باحث آخر، فالبحث فيها يكون بحسب المراحلة والإتجاه الذي يسلكه الباحث في تفسير الكتاب المقدس، ولم يكن بحث الهرمينوطيقا مقتصرا على الكتب المقدَّسة؛ بل تبحث ايضا في نصوص متعددة أو نظريات علمية بقواعد فهم النص.

مناهج الهرمينوطيقا 

بُحِثتْ الهرمينوطيقا في مناهج متعددة ومختلفة، خاضعةً لفهم الكتَّاب الذين بحثوا فيها، منها: منهج سوء الفهم، ومنهج تفسير الحقيقة، ومنهج الفهم المتعدد، ومنهج الدلالة المتعددة، ومنهج القراءة الذوقية، منهج الاستقراء الناقص، منهج موت المؤلف مما يُسمَّى بــ(البنيوية)، وغيرها من المناهج الأخرى، إذ صنعت الهرمينوطيقا تطبيقات جديدة في النصوص المبحوث فيها الى حد أجازت للقارئ أن يكون -وبحسب حصيلته المعرفية- أن يأخذ دور المؤلف، وبه أفرغت النصوص الدينية المقدَّسة من الربانية والتقديس، وحولتها إلى نصوص بشرية يقع عليها الخطأ، وحاولت قطع الصلة الوثيقة بين النبوة والوحي وإلغاء مفهوم المعجزة؛ لذا أرادت التشكيك في كل نص.

الفرق بين القراءة الجديدة والفهم الآخر

جاء الهرمينوطيقيون بقراءة يحسبونها جديدة للنصوص المقدسة، بوساطة مزيج مركب من فهم التفاسير اليهودية الموثقة وغير الموثقة ومزيج آخر من التعاليم النصرانية وفق مناهج خاصة بكل مأوِّل، لذا نجد لوثر يرشد أحد علماء النصرانية (البروتستانت) الى قراءة الكتاب المقدس قراءة مباشرة من دون أي تكلف أو وساطة وبنسخ موحدة للإنجيل -وهذا ما يؤكد صدق القرآن بتحريف الإنجيل- ليمنح بذلك تماسكاً للنصوص الواردة في الإنجيل، وليكشف بها: أن قراءة نصوص الانجيل هي ذاتها قراءة النصوص التي جاء من طريق النبي عيسى (عليه السلام). 

ان عصر التنوير -كما يُسمونه- يمنح السلطة لقارئ النص ويسمح له بإخضاعه لمنطق الحس والعقل، وهدفه من ذلك سلخ النص من قدسيته وجعله كالنصوص الأدبية الأخرى، ليصبح ملكاً للمتلقي ويخضعه لفهمه لا لفهم الباحث، ومن حق القارئ أن يعطي رأيه فيه وينتقده كيفما يشاء، لذلك تأثر التيار العلماني واللاديني والإلحاد في العالم العربي بنظرية الهرمينوطيقا في تأويل القرآن الكريم فاستقبلوها استقبال الفاتح العظيم وجنَّدوا لها وساندوها وروجوا لها بكل ما أُتوا من قوَّة.

 من هذا المنطلق نقد السيد مرتضى الشيرازي هذه المباني التي أخذت على عاتقها هدم الأسس الرئيسة لفهم النصوص، فوضع كتابه بعنوان: (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة) لأنَّ الهرمينوطيقا بنت أسسها على نسبية الحقيقة وتأويل المعرفة والمفاهيم اللغوية المتغيرة، فأشار السيد الشيرازي إلى اضطراب المفهوم العام والتاريخي للهرمينوطيقا وركَّة مبانيها ووهن تطبيقاتها، كما سنذكرها، فوضع أسساً منهجية لكل مفصل من مفاصل الهرمينوطيقا مثل:

أوَّلاً: الأسس المنهجية لنسبية الحقيقة

 وضع السيد الشيرازي مفهوماً إجمالياً عن مفهوم النسبية لأنّ النسبية (مصطلح شاع استعماله في الأزمنة الأخيرة، خاصَّة في الحقول المعرفية والابستمولوجية حيث سُمِّيت بـ(النسبية المعرفية) وقد شاع استخدامه خاصَّة في المجالات المعرفية، وفي البحوث عن الأديان والمذاهب والقضايا الميتافيزيقية...))، وهذا الأمر يُشير من طرفٍ خفي إلى هدم المعرفة الحقَّة والأسس الدينية المقدَّسة فكانت الشرارة الأولى في هذه الأسس:

1ــ نسبية الحقيقة في الديانات السماوية:

أراد الهرمينوطيقيون بث التمرد على الديانات التي جاءت بها السماء بذريعة أنَ الأنبياء بشر ولابدَّ من صدور الخطأ والخطل منهم ولا يوجد دين كله صحيح.

 فردَّ السيد الشيرازي على هذه الشبهة بعدم تحديد مفهوم النسبية بقوله: (إنَّ النسبية تختلف باختلاف المعنى المراد منها؛ فإنَّ المعاني المذكورة لها، أو التي يمكن أن تُذكر لها، بلغت، حسب تحقيقنا، خمسة عشر معنى، ولعلنا نتطرق في تفصيل ذلك عند كل معنى، إلّا أننا نكتفي ببعض الإشارات الآن، فإنَّ النسبية بمعنى:

- إنَّ كل معارفنا وعلومنا ظنية...

- ولو أُريد بالنسبية مؤثرية القبليات الفكرية والخلفيات النفسية في المعرفة، فهي مندرجة في مقولة الفعل...

- وأمَّا لو أريد بالنسبية مقولة الإضافة لكانت كـ(المعنى الحرفي)... 

[فـ] لا يمكن أن تكون النسبية بالحمل الذاتي الأولي، إلَّا النسبية لإستحالة سلب الشيء عن نفسه، وذلك ككل مفهومٍ آخر، ولكن هذا لا ينفي أن تكون النسبية كمفهوم من المفاهيم، أمراً مطلقاً، بحسب بعض معانيها، أو أن تكون النسبية أمراً نسبياً بالحمل الشائع الصناعي، بحسب معان أخرى، وإن وردت عليها إشكالات أُخرى من جهات أُخرى))، بهذا يكون حل مفهوم نسبية الحقيقة للأديان السماوية تابع لاختلاط مفهوم النسبية ذاتها عند الهرمينوطيقي لا بحقيقتها هي، ويبدو أنّ الأمرَ تتحكم فيه خيوط تريد التمرد على الثوابت المقدَّسة، فكان هذا الأساس الأول وردِّه من السيد الشيرازي.

2ـ مفهوم الواقع عند الهرمنيوطيقيين:

 خلط الهرمينوطيقيون بين الواقع الخارجي والواقع الذهني فقالوا: ((كل شيء خارج ذهن الفرد، ويعكسه هذا الذهن))، و(كل شيء) يشمل المادِّي والمجرد.

 فردَّ السيد الشيرازي على هذا المفهوم بقوله: ((الواقع بالمعنى الأعم، يُساوي الوجود، أي: وجود الشيء الأعم من الوجود العيني، والذهني، واللفظي، والكتبي، وذلك لأنَّ الموجود في الذهن أيضاً واقع ذهني، وإن كان بالقياس للخارج قد يكون خيالاً أو وهماً، كما لو تخيَّل نهراً من ذهب، أو المدينة الفاضلة في غير زمن الظهور المبارك))؛ إذ ميَّز السيد الشيرازي بين الواقع الخارجي والواقع الذهني، فنقد مفهوم الواقع الذهني الذي تشبَّث به الهرمينوطيقيون وجعلوه أساساً من أسس نظرية التأويل أو النظرية التأويلية، ونجد السيد الشيرازي يُشير في هذا الرد إلى شيء ليُثبِّته في ذهن المستقبِل او المتلقي وهو: أن المدينة الفاضلة التي أشار إليها إفلاطون لا تتحقق إلا بالظهور المبارك وهي إشارة جديرة بالملاحظة.

3ــ مفهوم الحقيقة عند الهرمنيوطيقيين:

 ساوى أهل الاصطلاح بين الحقيقة والواقع، وعلى هذا المفهوم تكون كل حقيقة واقع وكل واقع حقيقة، فعرَّفها بعضهم في قوله: ((حقيقة الشيء بما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان بخلاف الضاحك أو الكاتب، إذ يمكن تصوَّر الإنسان بدونه)) وكذلك جاء تعريفها عندهم: ((الواقع، بلحاظ مطابقيته للمعرفة أو المعلومة)).

 وقد ردَّ السيد الشيرازي على هذين التعريفين وغيرهما، فالتعريف الأوَّل؛ أشار إليه بالأخص، فيقول: ((ووجه كونه أخص هو اختصاصه بالجنس والفصل، بل بالفصل فقط، فإنَّ الشيء به هو هو وعدم شموله للعرض العام والخاص، على أنَّه تعريف لــ(حقيقة الشيء) لا (للحقيقة) وغير خفي أنّ ذلك مبني على أصالة الماهيَّة...))، فتعريفات الحقيقة عند الهرمينوطيقيين لم تميِّز بين الواقع والحقيقة، بل خلطت بين الحقيقة ذاتها بذاتها وحقيقة الشيء منفصل عن الحقيقة المحضة، لذا كان إيراد الحقيقة بدلا عن الواقع والعكس بالعكس ناتجاً من عدم التمييز بالفرق.

تقسيم الواقع عند السيد الشيرازي

قسَّم الفلاسفة الواقع على قسمين، في حين قسَّم السيد الشيرازي الواقع على أربعة أقسام، وهي:

1ــ الواقع بما هو هو: أي في حدِّ ذاته لا بشرط عن انكشافه ولا في انكشافه نسميه الواقع المطلق.

2ــ الواقع بلحاظ كونه منكشفاً: وإن كان انكشافه نسبيَّا لا انكشافاً كاملاً، أو مُطابقاً للحقيقة بشرط مقابلتها للسراب.

3ــ القضية (أو الصورة الذهنية للمعلومات): وهذا يكون بلحاظ كاشفيتها عن الواقع، وقد تكون كاشفيتها عن المعتقد، وهذا ما أشار إليه السيد الشيرازي في كتب أُخرى.

4ــ القضية بما هي هي: وهذا لا يشترط كاشفيتها، وبهذا اللحاظ تُعدّ من المعقولات الثانية المنطقية.

وبهذا التقسيم يُحدد السيد الشيرازي ماهيَّة الواقع بما هو هو وماهيَّة الأشياء بالنسبة للواقع، وفي المقال الثاني سنذكر أراء الهرمينوطيقيين في الحقيقة ورد السيد الشيرازي على شبهاتهم وتأسيسه لمنهج جديد لفهم الحقيقة.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2024

http://shrsc.com

اضف تعليق