هذه النزعة ألهمت الإنسان الأوروبي ثقة متعاظمة بذاته، وغرست في داخله الشعور بالقوة والقدرة، وجعلته ينظر لنفسه بوصفه الإنسان القادر الذي بامكانه تخطى جميع العقبات والمعضلات التي تعترض طريقه، وتقف في وجه طموحاته وتطلعاته، وأنه لم تعد هناك قوة تستطيع التغلب على إرادته، وإيقافه عن ما يريد...

مثل التعرف على النزعة الإنسانية محطة فائقة الأهمية في تاريخ تطور الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، محطة لا تقل أهمية وعظمة عن تلك التطورات والاكتشافات الجغرافية والعلمية الكبرى التي غيرت وجهة الفكر الأوروبي، ودفعت به نحو مسارات جديدة ما كان يحلم بها من قبل، وصلت به في نهاية المطاف إلى ما وصل إليه اليوم من تقدم بات يوصف بالتقدم المفرط.

ولا يمكن النظر لتاريخ تطور الفكر الأوروبي، من دون التوقف عند هذه النزعة الإنسانية، التي فتحت عصرا جديدا نقلت الفكر الأوروبي من العصور الوسطى الموصوفة عندهم في أدبياتهم بعصور الظلام، إلى العصور الحديثة الموصوفة في أدبياتهم بعصور النور.

وهذا ما يراه المؤرخون والمفكرون الأوروبيون في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، الذين يؤكدون على أن ميلاد العصور الحديثة في أوروبا، بدأ مع لحظة انبعاث هذه النزعة الإنسانية، والتمحور حولها، وتعميق المعرفة بها، والاستلهام منها.

وتعززت قيمة هذه النزعة، وتعاظمت أهميتها الفائقة في ساحة الفكر الأوروبي، حين اتصلت وتزامنت مع سلسلة متلاحقة من التطورات والاكتشافات المهمة والمؤثرة، يأتي في طليعتها استعمال المطبعة سنة 1455م على يد الألماني جوهانس غوتنبرغ، الحدث الذي دشن عصرا ذهبيا لعالم الكتاب والنشر في ألمانيا وأوروبا.

وما إن تعرف الأوروبيون على هذه النزعة، حتى وجدوا فيها ضالتهم، وتمسكوا بها بشدة، وأخذوا يطورون ويجددون المعرفة بها، وظلت لزمن طويل بهذه الوتيرة من التطور والتجدد والاهتمام، امتدت لقرون عدة، عبرت فيه عصر النهضة في القرن السادس عشر، ثم عصر الإصلاح الديني في القرن السابع عشر، ثم عصر التنوير في القرن الثامن عشر، إلى عصر الحداثة في القرن التاسع عشر.

واتصلت بهذه النزعة وتفاعلت حركة الآداب والفنون، ومعظم المعارف والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتراكمت حولها الكثير من الكتابات والمؤلفات على أقسامها المختلفة، ومجالاتها المتعددة، وكانت في موضع التذكر دائما، لا يتغافلون عنها ولا يتجاهلون، ولم تكن بحاجة لمن يذكرهم بها، أو ينبههم عليها، أو يلفت نظرهم إليها، وذلك لشدة قناعتهم بها.

وقد تركت هذه النزعة تأثيرا قويا ليس على الفكر الأوروبي فحسب، وإنما كانت لها مفاعيل مؤثرة في تغيير وضعية الإنسان والمجتمع هناك، من جهة تحسين نوعية الحياة، وتأمين المعيشة الكريمة، وتوفير سبل الرفاه، وإعلاء كرامة الفرد، إلى جانب احترام حقوق الإنسان، وحماية هذه الحقوق من التعسف والانتهاك.

ومن جانب آخر، فإن هذه النزعة قد أسهمت في تغيير الرؤية إلى العالم، وأطاحت بالرؤية القديمة، وتولدت منها منظومة جديدة من القيم، أعطت جرعة قوية وكبيرة من التفاؤل في النظر إلى الإنسان.

يضاف إلى ذلك، أن هذه النزعة فتحت في ساحة الفكر الأوروبي أوسع النقاشات والتأملات حول الإنسان، واتخذت منه حقلا دراسيا شاملا لا ينتهي عند حد معين، إذ شمل البحث هوية الإنسان وماهيته، طبعه وطبائعه، جسده وروحه، قلبه وعقله، فناءه وخلوده، نقصه وكماله، حقوقه وواجباته، جوهره ومظهره، إلى غير ذلك من جوانب وأبعاد.

كما أن هذه النزعة ألهمت الإنسان الأوروبي ثقة متعاظمة بذاته، وغرست في داخله الشعور بالقوة والقدرة، وجعلته ينظر لنفسه بوصفه الإنسان القادر الذي بامكانه تخطى جميع العقبات والمعضلات التي تعترض طريقه، وتقف في وجه طموحاته وتطلعاته، وأنه لم تعد هناك قوة تستطيع التغلب على إرادته، وإيقافه عن ما يريد تحقيقه، وما عليه إلا أن ينهض وينطلق بلا خوف ولا خشية، ولا شعور بالعجز أمام قوة الطبيعة وجبروتها، ولا ركون لها ولا استسلام، فلا سلطان عليه إلا سلطان ذاته، وحان له الوقت لأن يقيم على الأرض الفردوس المنشود.

ملاحظات ونقد

كان من المفترض لهذه النزعة الإنسانية التي وجد فيها الغرب سحرا وفتحا واكتشافا خلاقا أن تمنع الغرب وتردعه، ولا تجعله يقدم على تبني سياسات الغزو والسيطرة والاستعمار في تعامله مع بقية العالم غير الأوروبي، وهذا ما لم يحدث على الإطلاق، فلماذا لم تمنع هذه النزعة الغرب وتردعه عن هذا السلوك الاستعماري والإمبريالي المتوحش والبغيض.

تضع هذه القضية علامات استفهام كثيرة حول هذه النزعة وعلاقتها بالغرب، وحول الغرب وعلاقته بهذه النزعة، فهل المشكلة في هذه النزعة التي لم تستطع ردع الغرب! أم المشكلة في الغرب الذي لم يرتدع من هذه النزعة! أم أن المشكلة مزدوجة في الاثنين معا!

من جهة هذه النزعة يمكن التساؤل: هل النزعة الإنسانية قابلة للتجزئة والانقسام بطريقة يمكن التعامل معها في مكان وحجب التعامل معها في مكان آخر! أم أنها نزعة يفترض أن يكون لها ماهية واحدة متحدة، ليس فقط غير قابلة للتجزئة والانقسام، وإنما لا تقبل من الأساس التجزئة والانقسام.

وهذا هو الصحيح، فالنزعة الإنسانية إما أن تكون نزعة واحدة متحدة لا تقبل التجزئة والانقسام، ولا تميز أو تفرق بين مكان وآخر، وبين مجتمع وآخر، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين مجتمع متحضر ومجتمع غير متحضر.

إما أن تكون النزعة الإنسانية بهذه الماهية الواحدة المتحدة، أو لا تكون نزعة بهذا الوصف الإنساني، فليس هناك مثلا نزعة بمقدار النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك، وليس هناك أيضا نزعة يمكن التحكم بدرجتها أو نوعيتها أو شكل تطبيقها أو غير ذلك.

ومن جهة الغرب، يمكن التساؤل: لماذا تغلبت عنده المصلحة على النزعة الإنسانية، ولماذا قدم المصلحة على هذه النزعة، وكأن المصلحة أهم من هذه النزعة، أو أنها أعلى درجة ورتبة منها، أو أن المصلحة تحضر وتتقدم في خارج أوروبا، في حين تحضر النزعة الإنسانية وتتقدم في داخل أوروبا، إلى غير ذلك من تساؤلات حرجة، لكنها لم تعد تحرج الغرب، ولم يعد ينظر إليها بهذا الحرج من أي مصدر جاءت.

وبقدر ما أسهم الغرب في تطوير المعرفة بهذه النزعة الإنسانية، وفي لفت الانتباه إليها، والكشف عن أهميتها وقيمتها وعظمتها، بقدر ما أسهم أيضا في إسقاطها، والانقلاب عليها، وإبطال مفعولها، وتفريغها من محتواها.

وهذه مفارقة غريبة، أظهرت الغرب أمام العالم بصورتين متناقضتين، صورة الغرب المتمدن والإنساني في داخل محيطه، وصورة الغرب الإمبريالي وغير الإنساني في خارج محيطه.

ما قام به الغرب داخل محيطه أثار دهشة وإعجاب العالم، لكن ما قام به خارج محيطه أثار هلع وفزع العالم، فخلال المرحلة الاستعمارية الطويلة ارتكب الغرب مجازر وفظائع وكوارث لا توصف ولا تنسى، منها عمليات إبادة، وجرائم ضد الإنسانية، أدت إلى قتل وإبادة ألاف وملايين من البشر، وهذا ما يعرفه الغربيون قبل غيرهم، وتشهد على ذلك وثائقهم وشهاداتهم وارشيفاتهم التي لم يكشف عنها بالكامل.

ويكفي شاهدا على ذلك، فضائع وجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر الذي دام مائة وثلاثين سنة، خلال الفترة المتمددة ما بين (1830-1962م)، وإلى اليوم ترفض فرنسا تقديم اعتذار عن تلك الجرائم التي تصل لدرجة الإبادة البشرية، والجزائر ما هي إلا شاهد من عشرات الشواهد.

وكانت أمام الغرب فرصة تاريخية بالغة الأهمية، سمحت له في إمكانية تعميم هذه النزعة الإنسانية، وتعريف العالم بها، وتقديم نفسه إلى الأمم والشعوب عن طريق هذه النزعة، ولو قام الغرب بهذا الدور لإكتسب صورة ناصعة ورائدة في العالم، لكنه وبسبب تاريخه الاستعماري والإمبريالي، فإنه قد أعاق وعطل وحجب إمكانية تعميم هذه النزعة، التي كان العالم بأمس الحاجة إليها. فالغرب الذي تعرف على هذه النزعة، هو الغرب الذي عطل إمكانية تعريف العالم بهذه النزعة.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق