فأَنتَ بخيرٍ إِذا حرَّرتَ عقلكَ من الأَغلالِ، وأَنتَ سعيدٌ إِذا حرَّرتَ نفسيَّتكَ من الأَطماعِ، وأَنتَ ناجِحٌ إِذا حرَّرتَ تفكيركَ من الأَوهامِ، وأَنتَ نزيهٌ إِذا حرَّرت يدكَ من الجشعِ، وأَنتَ عادِلٌ إِذا حرَّرتَ أَحكامكَ من الهوى، وأَنتَ عاقِلٌ إِذا توقَّفتَ كثيراً وصدَّقتَ القليل، وأَنتَ مُبدِعٌ إِذا حرَّرتَ...
لقد أَرادَ الحُسينُ السِّبط (ع) في نهضتهِ الرِّساليَّة تحقيقُ شيء واحدٍ فقط هوَ مُحور الحياة الحرَّة الكريمة، أَلا وهوَ تكسير الأَغلال وتحطيم الصَّناديق الضيِّقة التي يحبس بها المرءُ نفسهُ وتحريرهِ من الأَوهامِ ومِن كُلِّ أَسبابِ العبوديَّةِ والإِستكانةِ والإِستسلامِ، وهذا لا يتحقَّقُ إِلَّا بتحريرِ العقلِ، ولذلكَ دعا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) بقَولهِ {نَعُوذُ بِاللَّه مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ} لماذا؟! يُجيبُ (ع) {إِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ}.
يقولُ تعالى {ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ فَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلنُّورَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ مَعَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ}.
ويقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) عن فلسفةِ البعثةِ {واصْطَفَى سُبْحَانَه مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّه إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَهُ، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِه، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِه فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يُخْلِ اللَّه سُبْحَانَه خَلْقَه مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، ولَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَه مَنْ بَعْدَه، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَه، عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ ومَضَتِ الدُّهُورُ، وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأَبْنَاءُ}.
فأَنتَ بخيرٍ إِذا حرَّرتَ عقلكَ من الأَغلالِ، وأَنتَ سعيدٌ إِذا حرَّرتَ نفسيَّتكَ من الأَطماعِ، وأَنتَ ناجِحٌ إِذا حرَّرتَ تفكيركَ من الأَوهامِ، وأَنتَ نزيهٌ إِذا حرَّرت يدكَ من الجشعِ، وأَنتَ عادِلٌ إِذا حرَّرتَ أَحكامكَ من الهوى، وأَنتَ عاقِلٌ إِذا توقَّفتَ كثيراً وصدَّقتَ القليل، وأَنتَ مُبدِعٌ إِذا حرَّرتَ شخصيَّتَكَ من الصَّنميَّةِ.
وهناكَ نَوعٌ من العبوديَّةِ أُسمِّيها أَنا بـ [العبوديَّة الطَّوعيَّة] وهيَ الأَغلال التي تصنعَها لنفسِكَ بنفسِكَ سواءً عن جهلٍ أَو عن عمدٍ.
فإِذا أَحاطتكَ الأَغلالُ ومنعتكَ من قراءةِ الكتابِ الذي تريدهُ أَو أَن تُفكِّرَ بالطَّريقةِ التي تراها أَو أَن تُناقشَ وتُحاورَ وتستنتِجَ بحريَّةٍ مِن دونِ خطوطٍ حمراءَ أَو [توج رؤُوس] أَو أَن تُحِبَّ وتُبغضَ بالشَّكلِ الذي تُريدُ، فتأَكَّد بأَنَّكَ عبدٌ لا تقوى على تحطيمِ الأَغلالِ ولا تجرُؤ على تجاوزِها.
ويذهبُ آخرُونَ إِلى أَبعدِ مدىً في [العبُوديَّةِ الطَّوعيَّةِ] عندما يُؤَدي دَور الشُّرطي على نفسهِ وعلى لسانهِ وعلى خطابهِ وقلمهِ! فتراهُ يضعَ لنفسهِ بنفسهِ خطُوطَ حمراءَ لإِرضاءِ زيدٍ أَو عُبيدٍ، فيخشى أَيَّ أَحدٍ إِلَّا الله تعالى على عكسِ القاعدةِ القُرآنيَّة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
وإِنَّ الذينَ قتلُوا الحُسين السِّبط (ع) لم يكونُوا أَحراراً أَبداً، وإِنَّما كانُوا عبيداً استعبدهُم الجهل والغَفلة والطَّمع والخَوف والتنصُّلِ عن المسؤُوليَّة والهرَب من إِستحقاقاتِ الحقِّ والباطلِ في اللَّحظةِ المُناسِبة.
وللعبوديَّةِ أَشكالٌ وأَلوان، فتارةً تكونُ على شَكلِ عبادةِ الأَشخاص [الصَّنميَّة] أُولئكَ الذي يتَّبعُونَ [الزَّعيم] وهُم معصوبُو العيُون [عِميان] منحُوا عقولهُم إِجازةً أَبديَّةً، أَو أَنَّهُ أَجَّرَ الطَّابِقَ العِلويِّ [العَقل] بثمنٍ بخسٍ! وهوَ أَمرٌ مذمُومٌ ومرفوضٌ حذَّرنا منهُ القرآن الكريم كثيراً كما في قولهِ تعالى {وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَٰبَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍۢ يُوقِنُونَ} وفي الآيةِ إِشارةٌ في غايةِ الأَهميَّةِ وهي أَنَّ المرءَ لا ينالُ اليقينَ بالإِتِّباعِ الأَعمى وبتكرارِ الأَسئِلةِ والأَفكارِ كالببَّغاواتِ، إِنَّما ينالهُ بالعقلِ المُتحرِّرِ وإِعمالِ الفكرِ الذي يساعدهُ على التَّجديدِ والتَّحديثِ وإِنتاجِ الأَفكارِ الخلَّاقةِ التي تنسجم وتُواكب ضَرورات العَصر معَ الإِحتفاظِ بالثَّوابتِ والأُصُولِ.
وتارةً تكونُ سبب العبوديَّة العَيش بالماضي، فجسدُ المرءُ هنا في اللَّحظةِ الحاضِرةِ إِلَّا أَنَّ عقلهُ وتفكيرهُ واهتماماتهُ هناك في الماضي السَّحيق! يتغنَّى بهِ وكأَنَّهُ هوَ الذي صنعهُ أَو يُدافع عنهُ ويبرِّر لهُ وكأَنَّهُ يتحمَّلُ وِزرهُ، ويشنُّ الحرُوبَ لأَجلهِ وهو يعلمُ عِلمَ اليقينِ بأَنَّهُ ليسَ بإِمكانهِ تغييرِ الماضي مهما فعلَ، وكيفَ يُمكنهُ ذلكَ إِذا لم يكُن هوَ الذي صنعَهُ أَو ساهمَ في صناعتهِ؟! وأَنَّ من المُستحيلِ استِحضارِ الماضي للحاضرِ للعبثِ بهِ؟!.
ومنَ الواضحِ فإِنَّ عَيشَ المرءُ بالماضي هو أُسلوبُ الفاشِلينَ والعاجِزينَ عن تحمُّلِ استحقاقاتِ الحاضرِ ومسؤُوليَّاتِ صِناعةِ المُستقبلِ، خاصَّةً عندما يُقحِمُ مشاكِلهُ وتداعِياتهُ في الشَّأنِ العامِّ، الدَّولة مثلاً، فذلكَ يُدمِّرُ [الدِّين والدَّولة].
يقولُ تعالى {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ* قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} فعندما أَرادَ الطَّاغية فِرعَون أَن يهربَ من الحِوار ويهربَ من مُواجهةِ الحقيقةِ ويهربَ مِن إِستحقاقاتِ الحاضرِ والمُستقبلِ، بسؤُالهِ عنِ الماضي، لم يسترسِل معهُ نبي الله مُوسى(ع) ليَخُوضَ معهُ جِدالاً عقيماً، وإِنَّما جاءَ الردُّ القُرآني قاصِفاً بمنعهِ من السُّؤَالِ عمَّا ليسَ لهُ فيهِ يدٌ أَو تأثيرٌ أَو حتَّى صنعةٌ.
وأُخرى بالتزمُّتِ في الدِّفاعِ عن الهويَّاتِ الضيِّقة التي تُفرِّق ولا تجمَع وتُشتِّت ولا تُوحِّد.
وهيَ من أَسوأ أَنواعِ العبوديَّةِ التي تُلغي شخصيَّة المرء وتُحرِّض على الفِتَنِ التي تنتهي بالمُجتمعاتِ إِلى التمزُّقِ والتفتُّتِ وتالياً الضَّعف وضَياع الإِرادة {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
يقولُ تعالى {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
لقدَ نجحَ الأَمويُّونَ في سلبِ عقولِ النَّاسِ قبلَ أَن يقتلُوا الحُسين السِّبط (ع) ويغسِلُوا أَدمغتهُم واستعبدُوهم بالأَحاديثِ النبويَّةِ المُزيَّفةِ التي دفعُوا عليها أَموالَ الأُمَّة ليروِيها وُعَّاظ السَّلاطين، وروَّجَ لها [الذُّباب الأَليكترُوني] وسلبُوا من الأُمَّة روحَها فتحوَّلت إِلى {خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ} وبعدَ ذلكَ لم يكُن صعباً عليهِم أَن يسوقُوها إِلى كربلاء لقتلِ رَيحانةِ رسولِ الله (ص) من دونِ أَن يرفَّ لهُم جِفنٌ! يسُوقهُم إِلى النّّارِ شعارُ [يا خَيلَ الله اركبِي وبالجَنَّةِ أَبشري!].
يصِفُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) عمليَّة غسيل الدَّماغ التي تعرَّضت لهُ [خَيرَ أُمَّةٍ] بقَولهِ {أَلَا وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}.
وهوَ الأَمرُ الذي يفعلهُ اليَوم الزُّعماء والسَّاسة والنُّظُم الفاسِدة والتي نستغرِب كيفَ أَنَّها استطاعَت أَن تُحكِمَ قبضتَها على الشُّعوبِ في ظلِّ كُلَّ هذا الظُّلمِ والتعسُّفِ والقهرِ والخَوفِ والذلَّةِ والضَّعفِ والهوانِ والتَّمييزِ والطبقيَّةِ المَقيتةِ والطَّائفيَّة والعُنصُريَّة التي تعيشَها [الأُمَّة]! لَولا أَنَّهُم {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}؟!.
اضف تعليق